في تجهيزه والصلاة عليه و دفنه خفاءً











في تجهيزه والصلاة عليه و دفنه خفاءً



بعد وصيّته عليه السلام بإخفاء قبره وکيفيّة تغسيله أنّه عليه السلام بقي إلي نحو ثلث الليل وتوفّي، فصرخت بناته ونساؤه وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الکوفة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد قُبض، فأقبل الرجال والنساء يهرعون أفواجاً أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة، فارتجّت الکوفة بأهلها، وکثر البکاء والنحيب، وکثر الضجيج بالکوفة وقبائلها ودورها وجميع أقطارها، فکان ذلک کيوم مات فيه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فلمّا توفّي غسّله الحسن والحسين عليهماالسلام، ومحمّد يصبّ الماء.[1] .

قال محمّد بن الحنفيّة: ثمّ أخذنا في جهازه ليلاً، وکان الحسن عليه السلام يغسّله، والحسين عليه السلام يصبّ الماء عليه، وکان عليه السلام لا يحتاج إلي مَن يقلّبه، بل کان يتقلّب کما يُريد الغاسل يميناً وشمالاً، وکانت رائحته أطيب من رائحة المسک والعنبر، ثمّ نادي الحسن عليه السلام باُخته زينب واُمّ کلثوم، وقال: «يا اُختاه، هلمّي بحنوط جدّي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله»، فبادرت زينب مسرعة حتّي أتته به. قال الراوي: فلمّا فتحته فاحت الدار وجميع الکوفة وشوارعها لشدّة رائحة ذلک الطيب، ثمّ لفّوه بخمسة أثواب کما أمر عليه السلام، ثمّ وضعوه علي السرير، وتقدّم الحسن والحسين عليهماالسلام إلي السرير من مؤخّره، وإذا مقدّمه قد ارتفع ولا يري حامله، وکان حاملاه من مقدّمه جبرئيل وميکائيل، فما مرّ بشي ء علي وجه الأرض إلّا انحني له ساجداً، وخرج السرير من باب کندة، فحملا مؤخّره وسارا يتّبعان مقدّمه.

قال ابن الحنفيّة رضي الله عنه: واللَّه لقد نظرتُ إلي السرير وإنّه ليمرّ بالحيطان والنخل فتنحني له خشوعاً، ومضي مستقيماً إلي النجف إلي موضع قبره الآن.

قال: وضجّت الکوفة بالبکاء والنحيب، وخرجن النساء يتبعنه لاطمات حاسرات، فَمنعهنّ الحسن عليه السلام ونهاهنّ عن البکاء والعويل، وردّهنّ إلي أماکنهنّ، والحسين عليه السلام يقول: «لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم، إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون. يا أباه، وا انقطاع ظهراه، من أجلک تعلّمت البکاء، إلي اللَّه المشتکي».[2] .

قال: فلمّا انتهينا إلي قبره وإذا مقدّم السرير قد وضع، فوضع الحسن عليه السلام مؤخّره، ثمّ قام الحسن عليه السلام وصلّي عليه والجماعة خلفه، فکبّر سبعاً کما أمره أبوه عليه السلام، ثمّ زحزحنا سريره وکشفنا التراب، وإذا نحن بقبر محفور ولحد مشقوق وساجة منقورة مکتوب عليها: «هذا ما ادّخره له جدّه نوح النبيّ للعبد الصالح الطاهر المطهّر»، فلمّا أرادوا نزوله سمعوا هاتفاً يقول: «أنزلوه إلي التربة الطاهرة، فقد اشتاق الحبيب إلي الحبيب، فدهش النّاس عند ذلک وتحيّروا، واُلحد أمير المؤمنين عليه السلام قبل طلوع الفجر.[3] .

وروي المفيد هذا الحديث بسنده عن حِبان بن عليّ العنزي، قال حدّثني موليً لعليّ بن أبي طالب، قال: لمّا حضرت أمير المؤمنين الوفاة قال للحسن والحسين عليهماالسلام: «إذا أنا متُّ فاحملاني علي سريري، ثمّ أخرجاني، واحملا مؤخّر السرير، فإنّکما تکفيان مُقدّمه، ثمّ ائتيا بي الغريّين[4] فإنّکما ستريان صخرةً بيضاءً تلمعُ نوراً، فاحتفروا فيها، فإنّکما تجدان فيها ساجة، فأدفناني فيها».

قال: فلمّا مات أخرجناه، وجعلنا نحمل مؤخّر السرير ونُکفي مقدّمه، وجعلنا نسمع دَويّاً وحَفيفاً حتّي أتينا الغَريّين، فإذا صخرة بيضاء تلمع نوراً، فاحتفرنا فإذا ساجةٌ مکتوبٌ عليها: «ممّا ادّخر نوحٌ لعليّ بن أبي طالب»، فدفنّاه فيها وانصرفنا، ونحن مسرورون بإکرام اللَّه لأمير المؤمنين عليه السلام، فحلقنا قومٌ من الشيعة لم يشهدوا الصلاة عليه، فأخبرناهم بما جري وباکرام اللَّه عزّ وجلّ أمير المؤمنين عليه السلام، فقالوا: نُحِبّ أن نعاين من أمره ما عاينتم؟ فقلنا لهم: إنّ الموضع قد عفي أثره بوصيّةٍ منه عليه السلام، فمضوا وعادوا إلينا، فقالوا: إنّهم احتفروا فلم يجدوا شيئاً.[5] .

وعنه أيضاً: عن محمّد بن عمارة، قال: حدّثني أبي عن جابر بن يزيد، قال: سألت أبا جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهماالسلام: أين دُفن أمير المؤمنين؟ قال: «دُفِنَ بناحية الغريّين، ودُفِنَ قبل طلوع الفجر، ودَخَل قبره الحسن والحسين ومحمّد بنو عليّ وعبداللَّه بن جعفر عليهم السلام».[6] .







  1. أعيان الشيعة 533:1.
  2. البحار 294:42.
  3. البحار 295:42.
  4. الغريّيان: بناءان کالصومعتين بظاهر الکوفة، بناهما المنذر بن امرؤ القيس.
  5. الإرشاد 23:1.
  6. الإرشاد 25:1.