ما جري لأميرالمؤمنين في ليلة التاسع عشر











ما جري لأميرالمؤمنين في ليلة التاسع عشر



روي الجويني عن عثمان بن المغيرة، قال: لمّا أن دخل شهر رمضان من سنة أربعين، کان عليّ عليه السلام يتعشّي ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند ابن عبّاس، ولا يزيد علي ثلاث لقم، يقول: «يأتيني أمراللَّه وأنا أخمص إنّما ليلة أو ليلتان».[1] .

و روي العلّامة المجلسي في حديث طويل: قالت اُمّ کلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام: لمّا کانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدّمت إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش[2] فلمّا فرغ من صلاته أقبل علي فطوره، فلمّا نظر إليه وتأمّله حرّک رأسه وبکي بکاءً شديداً عالياً، وقال: «يا بُنيّة، ما ظننتُ أنّ بنتاً تَسوءُ أباها کما قد أسأتِ أنتِ إليَّ»، قالت: وماذا يا أباه؟ قال: «يا بُنيّة، أَتُقَدِّمِينَ إِلي أَبْيکِ إِدامَيْنِ فِي طَبَقٍ واحِدٍ، أَتُرِيدِينَ أَنْ يَطُولَ وقُوفي غَداً بَيْنَ يَدَي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيامةِ؟! أَنا اُرِيدُ أَنْ أَتَّبِعَ أَخي وابْنَ عَمِّي رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه و آله ما قُدِّمَ لَهُ إِدامانِ فِي طَبَقٍ واحِدٍ إِلي أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تعالي. يا بُنَيَّةُ، ما مِنْ رَجُلٍ طَابَ مَطْعَمُهُ وَمَشْرَبُهُ وَمَلْبَسُهُ إِلَّا طالَ وقُوفُهُ بَيْنَ يَدَي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيامةِ».

ثمّ قال: «يا بُنَيَّةُ، إِنَّ الدُّنْيا فِي حَلَالِها حِسابٌ، وَفِي حَرامِها عِقابٌ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه و آله أَنَّ جَبْرَئِيلَ نَزَلَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ مَفاتِيحُ کُنوزِ الْأَرْضِ، وَقالَ: يا مُحَمَّدُ، اللَّهُ يَقْرَؤکَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَکَ: إِنْ شِئْتَ صَيَّرْتُ مَعَکَ جِبالَ تِهامَةَ ذَهَباً وَفِضَّةً، وَخُذْ مَفاتِيحَ کُنُوزِ الْأَرْضِ وَلَا يَنْقُصُ ذ لِکَ مِنْ حَظّکَ يَوْمَ الْقِيامَةِ، قال: يا جَبْرَئِيلُ، وَما يَکُونُ بَعْدَ ذ لِکَ؟ قالَ: الْمَوْتُ، فقالَ: لَا حاجَةَ لِي فِي الدُّنْيا، دَعْنِي أَجُوعُ يَوْماً، وَأَشْبَعُ يَوْماً، فَالْيَوْمُ الَّذِي أَجُوعُ فِيهِ أَتَضَرَّعُ إِلي رَبِّي، وَالْيَوْمُ الَّذِي أَشْبَعُ فِيهِ أَشْکُرُ رَبِّي وَأَحْمَدُهُ، فَقالَ جَبْرَئِيلُ: وَفِّقْتَ لِکُلِّ خَيْرٍ يا مُحَمَّد!».

ثمّ قال عليه السلام: «يا بُنَيَّةُ، الدّارُ دارُ غُرُورٍ، وَدارُ هَوانٍ، فَمَنْ قَدَّمَ شَيْئاً وَجَدَهُ. يا بُنَيَّةُ، لَا آکلُ شَيْئاً حَتّي تَرْفَعِي أَحَدَ الإِدامَيْنِ».

قالت اُمّ کلثوم بنت عليّ عليه السلام: فلمّا رفعته تقدّم إلي الطعام فأکل قرصاً واحداً بالملح الجريش، ثمّ حمد اللَّه وأثني عليه، ثمّ قام إلي صلاته، فصلّي، ولم يزل راکعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرّعاً إلي اللَّه سبحانه، ويکثر الدخول والخروج وهو ينظر إلي السماء وهو قَلِقٌ يَتملمَل ثمّ قرأ سورة «يس» حتّي ختمها، ثمّ رقد هُنيئة وانتبه مرعوباً، وجعل يمسح وجهه بثوبه، ونهض قائماً علي قدميه، وهو يقول:

«اللَّهُمَّ بارِکْ لَنا فِي لِقائِکَ»، ويکثر من قول: «لا حولَ ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم». ثمّ صلّي حتّي ذهب بعض الليل، ثمّ جلس للتعقيب، ثمّ نامت عيناه وهو جالس، ثمّ انتبه من نومته مرعوباً.

إلي أن قالت: ولم يزل تلک الليلة قائماً وقاعداً وراکعاً وساجداً، ثمّ يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر في الکواکب وهو يقول: «مَا کَذبْتُ وَلَا کُذِّبْتُ، إِنَّها اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدْتُ بِهَا»، ثمّ يعود إلي مصلّاه ويقول: «اللَّهُمَّ بارِکْ لِي فِي الْمَوْتِ»، ويکثر من قول: «إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون»، و««لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ»، ويصلّي علي النبيّ وآله ويستغفر اللَّه کثيراً.

قالت اُمّ کلثوم: فلمّا رأيته في تلک الليلة قلقاً متململاً کثير الذکر والاستغفار أرقت معه ليلتي، وقلت: يا أبتاه، ما لي أراک هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ قال: «يا بُنَيَّةُ، إِنَّ أَباکِ قَتَلَ الْأَبْطالَ، وَخاضَ الْأَهْوالَ، وَما دَخَلَ الْخَوْفُ جَوْفَهُ، وَما دَخَلَ فِي قَلْبِي رُعْبٌ أَکْثَرُ مِمّا دَخَلَهُ اللَّيْلَةَ»، ثمّ قال: «إِنّا للَّهِِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ». فقلت: يا أباه، ما لک تنعي نفسک منذ الليلة؟ قال: «يا بُنَيَّةُ، قَدْ قَرُبَ الْأَجَلُ وَانْقَطَعَ الْأَمَلُ».

قالت اُمّ کلثوم: فبکيت، فقال لي: «يا بُنَيَّةُ، إِنِّي لَمْ أَقُلْ ذ لِکَ إِلَّا بِما عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيّ صلي الله عليه و آله»، ثمّ إنّه عليه السلام نعس وطوي ساعة، ثمّ استيقظ من نومه، وقال: «يا بُنيّة، إِذا قرب وقت الأذان فاعلميني»، ثمّ رجع إلي ما کان عليه أوّل الليل من الصلاة والدعاء والتضرّع إلي اللَّه سبحانه وتعالي. قالت اُمّ کلثوم: فجعلتُ أرقِّبُ وقت الأذان، فلمّا لاح الوقت أتيتُه ومعي إناء فيه ماء، ثمّ أيقظتُه فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه، ثمّ نزل إلي الدار، وکان في الدار إوزّ قد اُهدي إلي أخي الحسين عليه السلام، فلمّا نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه، وکان قبل تلک الليلة لم يصحن، فقال عليه السلام: «لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، صَوائِحُ تَتْبَعُها نَوائِحُ، وفي غداة غد يظهر القضاء». فقلت له: يا أباه، هکذا تتطيّر؟ فقال: «يا بُنيّة، ما مِنّا أهلَ البيت مَن يتطيّر ولا يُتطيَّر به، ولکن قول جري علي لساني». ثمّ قال: «يا بُنَيَّةُ، بِحَقِّي عَلَيْکِ إِلَّا ما أَطْلَقْتِه، فَقَدْ حَبَسْتِ ما لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَي الْکَلَامِ إِذا جاعَ أَوْ عَطِشَ، فَأَطْعِمِيه وَاسْقِيه وَإِلَّا خَلِّي سَبِيلَه يَأْکُلُ مِنْ حَشائِشِ الْأَرْضِ»، فلمّا وصل إلي الباب فعالجه ليفتحه، فتعلّق الباب بمئزره فانحلّ مئزره حتّي سقط، فأخذه وشدّه وهو يقول:


«اشْدُدْ حَيَازِيمَکَ للموتِ
فإنَّ الموتَ لاقِيکَا


ولا تَجْزَعْ من الموت
إذا حَلّ بنادِيکَا


ولا تغترّ بالدهر
وإن کان يواتيکا


کما أضْحَکَکَ الدَّهْرُ
کذاکَ الدَّهْرُ يُبْکِيکا»


ثمّ قال: «اللّهمّ بارک لنا الموت، اللّهمّ بارک لي في لقائک»، قالت اُمّ کلثوم: وکنتُ أمشي خلفه، فلمّا سمعتُه يقول ذلک، قلت: واغوثاه يا أبتاه، أراک تنعي نفسک منذ الليلة. قال: «يا بنيّة، ما هو بنعاء، ولکنّها دلالات وعلامات للموت، يتبع بعضها بعضاً، فأمسکي عن الجواب»، ثمّ فتح الباب وخرج، الحديث.[3] .

وفي (النهج)، وکذا في (تاريخ دمشق)، وفي (الاستيعاب)، قال عليّ عليه السلام في سُحرة[4] اليوم الّذي ضُرب فيه: «مَلَکَتْني[5] عَيني وأنا جالس، فَسَنَح لي[6] رسولُ اللَّه صلي الله عليه و آله، فقلتُ: يا رسول اللَّه، ماذا لقيتُ من اُمَّنِک من الأودِ[7] واللِّدَدِ؟[8] فقال عليه السلام: اُدْعُ عليهم، فقلتُ: أبدَلني اللَّهُ بهم خيراً منهم، وأبدَلَهُم بي شَرّاً لهم منّي»[9] واستجاب له دعاؤه، ومضي عليه ما مضي.

وقال المسعودي في تاريخه: وقيل إنّ عليّاً عليه السلام لم ينم تلک الليلة، وإنّه لم يزل يمشي بين الباب والحُجرة، وهو يقول: «واللَّهِ مَا کَذبْتُ وَلَا کُذِّبْتُ، وَإِنَّها اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدْتُ فِيهَا»، فلمّا خرج صاح بطّ کان للصبيان، فصاح بهنّ بعض مَن في الدار، فقال عليّ عليه السلام: «ويحک دعهنّ فإنّهنّ نوائح».[10] .







  1. فرائد السمطين 386:1، ح 320.
  2. الجريش: ما طحنته غير ناعم.
  3. البحار 276:42.
  4. السُّحرة - بالضمّ -: السحر الأعلي من آخر الليل.
  5. ملکتني عيني: غلبني النوم.
  6. فسنح لي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: مرّ لي کما تسنح الظباء والطير.
  7. الأود: الاعوجاج.
  8. واللَّدد: الخصام.
  9. نهج البلاغة: لخطبة 70، وانظر تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 295:3، والاستيعاب لابن عبدالبرّ بهامش الإصابة 61:3.
  10. مروج الذهب 425:2.