مظلوميّته في دخول غارات معاوية علي بلاد الاسلام











مظلوميّته في دخول غارات معاوية علي بلاد الاسلام



هذه الخطبة من مشاهير خطبه عليه السلام، وقد ذکرها کثير من النّاس، ورواها أبوالعبّاس المبرّد في أوّل (الکامل) وأسقط من هذه الرواية ألفاظاً: وزاد فيها ألفاظاً، وقال: فانتهي إلي عليّ عليه السلام أنّ خيلاً وردت الأنبار لمعاوية، فقتلوا عاملاً له يقال له حسّان بن حسّان، فخرج عليه السلام مغضباً يجرّد رداءه. حتّي أتي النخيلة، وأتبعه النّاس، فرقي ربوة من الأرض، فحمد اللَّه وأثني عليه، وصلّي علي نبيّه صلي الله عليه و آله ثمّ قال: «أَ مَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَي، وَدِرْعُ اللَّهِ الحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الوَثِيقَةُ. فَمَنْ تَرَکَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ البَلَاءُ».

إلي أن قال: «أَ لَا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُکُمْ إِلَي قِتَالِ هؤُلَاءِ القَوْمِ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَسِرّاً وَإِعْلَاناً، وَقُلْتُ لَکُمُ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوکُمْ، فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا. فَتَوَاکَلْتُمْ وَتَخَاذَلتُمْ حَتَّي شُنَّتْ[1] عَلَيْکُمُ الغَارَاتُ، وَمُلِکَتْ عَلَيْکُمُ الْأَوْطَانُ. وَهذَا أَخُو غَامِدٍ وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ البَکْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَکُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا[2] وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ کَانَ يَدْخُلُ عَلَي المَرْأَة المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَي المُعَاهَدَةِ[3] فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا[4] وَقُلْبَهَا[5] وَقَلَائِدَهَا وَرُعُثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالاسْتِرْجَاعِ[6] وَالِاسْتِرْحَامِ. ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ کَلْمٌ[7] وَلَاأُرِيقَ لَهُمْ دَمْ، فَلَوْ أَنْ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا کَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ کَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً».

إلي أن قال: «فَإِذَا أَمَرْتُکُمْ بِالسّيْرِ إِلَيْهِم فِي أَيَّامِ الحَرِّ [ الصّيف ]، قُلْتُمْ: هذِهِ حَمَارَّةُ[8] القَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخُ عَنَّا الحرُّ[9] وَإِذَا أَمَرْتُکُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هذِهِ صَبَارَّةُ[10] القُرِّ[11] أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا البَرْدُ، کُلُّ هذَا فِرَاراً مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ، فَإِذَا کُنْتُمْ مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَ نْتُمْ وَاللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ!

يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ! حُلُومُ الْأَطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَالِ[12] لَوَدِدْتُ أَ نِّي لَمْ أَرَکُمْ وَلَمْ أَعْرِفْکُمْ مَعْرِفَةً - وَاللَّهِ - جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعقَبَتْ سَدَماً (ذمّاً). قَاتَلَکُمُ اللَّهُ! لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُوني نُغَبَ التَّهْنَامِ أَ نْفَاساً، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالعِصْيَانِ وَالخِذْلَان، حَتَّي لَقَدْ قَالَتْ قُريْش: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلکِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ. للَّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً (مقاماً)، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ العِشْرِينَ، وَها أناذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَي السِّتِّينَ! وَلکِنْ لا رَأْيَ لِمَنْ لَايُطَاعُ!».[13] .

لقد خطب هذه الخطبة الشريفة في أواخر عمره الشريف، وذلک بعد ما انقضت وقعة صفّين، واستولي معاوية علي البلاد، وأکثر القتل والغارة في الأطراف، وأمر سفيان بن عوف الغامدي بالمسير إلي الأنبار وقتل أهلها.

وتفصيل ذلک ما رواه ابن أبي الحديد المعتزلي عن کتاب (الغارات) لإبراهيم بن محمّد الثقفي بسنده عن أبي الکنود. وإليک لفظ الحديث:

قال سفيان بن عوف الغامدي: دعاني معاوية، فقال: إنّي باعثُک في جيش کثيف، ذي أداةٍ وجلادةٍ، فالزم لي جانب الفُرات حتّي تمرّ بهيت[14] فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً، فأغِر عليهم وإلّا فامض حتّي تُغير علي الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً فامض حتّي تُوغل في المدائن، ثمّ أقبل إلَيَّ واتّق أن تقرُب الکوفة، واعلم أنّک إن أغرت علي أهل الأنبار وأهل المدائن فکأنّک أغرت علي الکوفة، إنّ هذه الغارات - يا سفيان - علي أهل العراق تُرعب قُلوبَهم، وتُفرح کلّ مَن لَهُ فينا هوي منهم، وتدعو إلينا کلّ من خاف الدوائر، فاقتل مَن لقيته ممّن ليس هو علي مثل رأيک، وأخرب کلّ ما مررت به من القُري، واحرب الأموال، فإنّ حَرَبَ الأموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب.

قال: فخرجتُ من عنده فعسکرتُ، وقام معاوية في النّاس فخطبهم، فقال: أيّها النّاس، انتدبوا مع سفيان بن عوف، فإنّه وجهٌ عظيم فيه أجرٌ، سريعة فيه أوْبتکم إن شاء اللَّه، ثمّ نزل.

قال سفيان: فوالّذي لا إله إلّا غيرهُ ما مَرّتْ ثالثة حتّي خرجتُ في ستّة آلاف، ثمّ لزمتُ شاطئ الفرات.. فامضي حتّي أفتتح الأنبار، وقد نَذِرُوا بي، فخرج صاحب المسلحة إليَّ فَوَقَف لي فلم أقدم عليه حتّي أخذتُ غلماناً من أهل القرية، فقلتُ لهم: أخبروني، کم بالأنبار من أصحاب عليّ؟ قالوا: عدّة رجالِ المسلَحة خمسمائة، ولکنّهم قد تبدّدوا ورجعوا إلي الکوفة، ولا ندري الّذي يکون فيها، قد يکون مائتي رجل، فنزلتُ فکتّبتُ أصحابي کتائب، ثمّ أخذتُ أبعثهم إليه کتيبةً بعد کتيبة، فيقالتهم واللَّه ويَصبُر لَهم، ويُطاردُهم ويُطاردونه في الأزقّة، فلمّا رأيتُ ذلک أنزلتُ إليهم نحواً من مائتين، وأتبعتهم الخيل، فلمّا حملت عليهم الخيل وَ أمامَها الرجال تمشي، لَم يَکن شي ءٌ حتّي تفّرقوا و قُتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلاً، وحملنا ما کان في الأنبار من الأموال، ثمّ انصرفت، فواللَّه ما غزوتُ غزاةً کانت أسلم ولا أقرّ للعيون، ولا أسرّ للنفوس منها، وبَلَغني واللَّه أنّها أرعبت النّاس، فلمّا عُدتُ إلي معاوية: حدّثتُه الحديث علي وجهه، فقال: کنتَ عند ظنّي بک، لا تنزل في بلد من بُلداني إلّا قضيتَ فيه مثل ما يَقضي فيه أميرهُ، وإن أحببت توليته وليّتک، و ليس لأحد من خلق اللَّه عليک أمرٌ دوني.

قال: فواللَّه ما لبثنا إلّا يسيراً حتّي رأيتُ رجال أهل العراق يأتوننا علي الإبل هُرّاباً من عسکر عَليّ.

قال إبراهيم: کان اسم عامل عليّ عليه السلام علي مسلحة الأنبار أشرس بن حسّان البکري.[15] .

وروي الشارح المعتزلي أيضاً عن إبراهيم، عن عبداللَّه بن قيس، عن حبيب بن عفيف - في حديث - قال: ولبث عليّ عليه السلام تُري فيه الکآبة والحزن، حتّي قدم عليه سعد بن قيس، وکان تلک الأيّام عليلاً، فلم يَقْوَ علي القيام في النّاس بما يُريده من القول، فجلس بباب السُّدّة الّتي تصل إلي المسجد، ومعه ابناه حسن وحسين وعبداللَّه بن جعفر، ودعا سعداً مولاه فدفع إليه الکتاب وأمره أن يقرأه علي النّاس، فقام سعد يستمع عليّ عليه السلام صوته ويسمع ما يردّ النّاس عليه ثمّ قرأ هذه الخطبة الّتي ذکرتها.[16] .







  1. شنّت عليکم الغارات: فُرّقت.
  2. مسالح: جمع مسلحة، وهي کالثغر والمرقَب.
  3. المعاهدة: الذمية.
  4. الحجل: الخلخال.
  5. القلب: السوار المصمت.
  6. أي بقولها: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.
  7. الکلم: الجراح.
  8. أي شدّة الحرّ.
  9. يُسبّخ عنّا الحرّ: يخفّ.
  10. صبّارة الشتاء: شدّة برده.
  11. القرّ: البرد.
  12. ربّات الحجال: النساء.
  13. نهج البلاغة: الخطبة 27.
  14. هيت: بلد علي الفرات فوق الأنبار.
  15. شرح ابن أبي الحديد 87 - 85: 2.
  16. المصدر المتقدّم: 88 - 87.