القاضي في نظر الإمام عليّ











القاضي في نظر الإمام عليّ



يشکّل قضاة العدل الطبقة الثالثة في هذا العهد القيّم، ولقد أوضح عليه السلام لمالک الأشتر رضي الله عنه ما يجب أن يتحلّي به القاضي من صفات وفضائل، ونحن في هذا الفصل نوضّح باختصار ما جاء في هذا العهد بخصوص القضاة:

1- قال عليه السلام: «ثُمّ اخْتَر لِلْحُکْم بَيْن النّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِکَ فِي نَفسِکَ»، لا بدّ من اختيار أفضل النّاس للتصدّي للقضاء؛ لأنّ النّاس لا يمکن أن يطيعوا شخصاً هم أفضل منه، حيث أنّ تقديم المفصول علي الفاضل خلاف العقل، کما أنّ حکم غير المتّقي علي المتّقي و کذلک حکم غير المتعلّم علي المتعلّم ممنوع وقبيح عقلاً.

2- «مِمَّنْ لَا تَضِيْقُ بِهِ الْاُمورُ». يجب أن يکون القاضي متعلّماً بحيث أنّه قادر علي تحليل وتجزئة المسائل، وأن لا يکون في حَرَج وضيق ممّا يواجه من الحوادث.

3- «وَلَا تَمْحَکُهُ الْخُصُومُ». تمحکه: من المحک وهو التجربة والاختبار، يعني أنّ القاضي يجب أن يکون في الاُبّهة والوقار بحيث لا يسمح للخصمين أن يحاولا اختباره فيما إذا کان يقبل الرشوة بالمال أو بإظهار المحبّة والاحترام، وجاء في شرح ابن أبي الحديد: تجعله ماحکاً، أي لجوجاً، محک الرجل: لجّ، ماحک زيد عمراً: لاجّه، يعني: يجب أن يکون عليه من صفات الهيبة والوقار بحيث لم يجرؤ الطرفان المتخاصمان أن يلجّا في حکمه أو يناقشاه.

4- «وَلَا يَتََمادَي فِي الزَّلَّةِ»: إذا أخطأ القاضي في حکمه وأحسّ بالخطأ، فعليه أن لا يصرّ ولا يستمرّ عليه، بل عليه الاعتراف وعدم التمادي؛ لأنّ ذلک يؤدّي به إلي مجانبة الحقّ والعدل.

5- «وَلَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْ ءِ إِلَي الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ»: يحصر: أي يعيا في المنطق، والفي ء: الرجوع إلي الحقّ، يعني يجب أن يکون القاضي صريحاً في عودته إلي الحقّ إذا عرفه دون تردّد أو شکّ کي يحقّ الحقّ ويبطل الباطل.

6- «وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَي طَمَعٍ»: يجب أن لا يشغل نفسه بالنظر إلي ما في أيدي النّاس، وأن لا يکون من أهل الطمع، فهو ذو مقامٍ عالٍ استلهمه من الخالق العزيز للحکم بين النّاس؛ لذا يجب عليه الحفاظ علي هذا المقام، وأن لا ينزل به إلي مستوي منحطّ إلي المادة وطمع الدنيا.

7- «وَلَا يَکْتَفِي بِأَدْنَي فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ»: يجب علي القاضي التروّي في الحکم، وأن لا يقضي بسرعة وبأدني فَهم؛ لأنّ ذلک يؤدّي به إلي الخطأ والزلل، فعليه أن يناقش القضيّة من کلّ جوانبها، ويسمع من الخصمين سماعاً دقيقاً، کي تتّضح المسألة لديه ويحکم علي أساسها.

8- «وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ»: الشبهات: ما لا يتّضح الحکم فيه بالنصّ، وفيها ينبغي الوقوف علي القضاء حتّي يردّ الحادثة إلي أصل صحيح، فعلاوة علي کون القاضي أفضل الرعيّة فعليه أيضاً أن يتوقّف عند الشبهة، وأن لا يأخذه الغرور بما لديه من المعلومات، وأن لا يعتبر السؤال والمشاورة عيباً وعاراً عليه، بل العيب والعار هو التکبّر والغرور والوقوع في مزالق الباطل.

9- «وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ»: أي عليه الاعتماد علي الدليل والبرهان، وأن يحکم علي أساس الحجج والقوانين والأحکام، ولا يکتفي بما يتصوّره في ذهنه فحسب.

10- «وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ»: التبرّم: الملل والضجر، حيث ينبغي أن يکون القاضي أقلّ النّاس تضجّراً من الطرفين المتنازعين، وأن يکون متحمّلاً صبوراً في الإصغاء للخصمين حتّي تنتهي الدعوي ولا يملّ من کلامهما.

11- «وَأَصْبَرَهُمْ عَلَي تَکَشُّفِ الْأُمُورِ»: يجب أن يکون القاضي أکثر الناس صبراً؛ وذلک لأجل کشف الحقائق وتجلّيها، وأن لا يقطع بالحکم حتّي تتبيّن له کلّ مطالب القضيّة، ولا يکتفي بتقرير إجمالي لها وحسب.

12- «وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ»: أصرمهم: أي أقطعهم للخصومة وأمضاهم، فإن اتّضح الأمر عليه أن يکون قاطعاً حاسماً في اتّخاذ القرار، وأن لا يؤجّله ويسوّفه جاعلاً النّاس في حيرة.

13- «مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ»: لا يزدهيه إطراء: أي لا يستخفّه زيادة الثناء عليه، فعليه أن لا يشعر بالکبر والزهو لما يسمعه من إطراء ومدح الآخرين.

14- «وَلَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ»: علي القاضي أن لا يحکم وفقاً للمغريات الّتي يقدّمها أد طرفي النزاع، ولا تنطلي عليه حيلة أحد الطرفين بحيث يستهويه ويحکم له. ومن الطبيعي أنّ وجود قاضٍ تتمثّل به هذه الصفات القيّمة يعدّ نادراً وقليلاً، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: «وَأُولئِکَ قَلِيلٌ».[1] .







  1. انظر الکتاب کاملاً في نهج البلاغة: الکتاب 53.