نظرة في عهده إلي الأشتر النخعي











نظرة في عهده إلي الأشتر النخعي



وقد وصف عليّ عليه السلام في عهده إلي الأشتر، التجّار بما لا مزيد عليه من خدمتهم في المجتمع الإنساني، وحمايتهم للمدنيّة البشريّة، فقال:

أولاً: «والمضطرب بماله»، أي مَن يجعل ماله متاعاً يدور به في البلاد البعيدة، يقطع المفاوز، ويعرّض نفسه للأخطار ليوصل حوائج کلّ بلد إليه.

وقال ثانياً: «فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق»، فقد اهتمّت الدول الراقية والشعوب المتقدّمة في هذه العصور بأمر التجارة، وأدرکوا حقيقة ما أفاده عليه السلام في هذه الجملة القصيرة قبل قرون طويلة من أنّ التجارة مواد المنافع. وقد أبلغ عليه السلام في ما أفاده بما للتجارة من الأهمّية في أمر الاقتصاد، حيث جاء بکلمة الموادّ جمعاً مضافاً مفيداً للعموم، وبکلمة المنافع جمعاً معرّفاً باللام مفيداً للاستغراق، فأفاد أنّ کلّ مادّة لکلّ منفعة مندرجة في أمر التجارة، فالتجارة تحتاج إلي ما يتّجر به من الأمتعة، وإلي سوق تباع فيه تلک الأمتعة، ثمّ يؤخذ بدلها متاع آخر، ويبدّل بمتاع آخر، فيستفاد من هذه المبادلات کلّها أرباحاً.

وقد بلغت أهمّية التجارة في أعصارنا الحاضرة حدّاً بحيث صارت محوراً للسياسة العامّة للدول الکبيرة، وصار حمل مواردها من النفط والذهب والفضّة والمحاصيل الزراعيّة إلي البلاد الاُخري أساساً لسياستها، ومثاراً للحروب الهائلة، ومداراً للمعاملة مع الشعوب، وسبباً للتسلّط علي الشعوب المستضعفة.

وقد نبّه عليّ عليه السلام في عهده علي أنّ الروابط التجارية سبب استقرار السلم والصلح بين أفراد الاُمّة والمجتمع وبين الشعوب، فقال عليه السلام: «فإنّهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشي غائلته»، فيا لها من جملة ذهبيّة حيّة في هذه القرون المعاصرة، حيث يتعطّش العالم إلي استقرار السلم العالمي بين الشعوب، ولا يخفي أنّه فسّر البائعة بالداهية، وهذا يعني أنّ التجارة الحرّة السالمة ليس فيها دهاء ومکر وسوء قصد من قبيل الاستعمار والتسلّط، بل فيها صلح ليس وراءه مضرّة وهلاک.

وأمّا أمره عليه السلام بتفقّد أحوال التجّار والإشراف عليهم، فهو تتمّة لوصيّته بهم بالخير ولحماية رؤوس أموالهم من التلف، والسرقة من قِبل اللصوص، وهذه توصيته بإقرار الأمن في البلاد وفي طريق التجارة بحراً وبرّاً، وقد التفتت الاُمم الراقية إلي ذلک، فاهتمّوا باستقرار الأمن في البلاد والطرق، وبحفظ رؤوس الأموال التجاريّة عن المکائد والدسائس المهلکة لها.

ثمّ نبّه عليه السلام في عهده إلي خطر في أمر التجارة يتوجّه إلي عامّة النّاس المحتاجين في معاشهم إلي شراء الأمتعة من الأسواق، وهو مرض الشحّ والبخل وطلب الادّخار والاستکثار من المال، الکامن في طبع کثير من التجّار، فإنّه يؤول إلي الاستعمار والتسلّط علي اُجور الزرّاع والعمّال، وقد ينتهي إلي أن يؤخذوا عبيداً وأسري لأصحاب رؤوس الأموال، فوصفهم بقوله عليه السلام: «أنّ في کثير منهم ضيقاً فاحشاً»، أي حبّاً عظيماً لجلب المنافع وازدياد صيد الأموال المختصّة به، وربّما بلغ حدّ الجنون ولا يکتفي بالمليارات. «وشحّاً قبيحاً» يمنع من بذل ما يزيد علي حاجته، ولا يقدر علي حفظه وحصره لعامّة النّاس.«واحتکاراً للمنافع» بلا حدّ ولا حساب، فيکون حاله کجهنّم کلّما قيل لها: هل امتلأت؟ تقول: هل من مزيد. «وتحکّماً في البياعات: أي يؤول ذلک الحرص الجهنّمي إلي تشکيل الشرکات الجبّارة، فيجمعون حوائج النّاس بمکائدهم وقوّة رؤوس أموالهم ويبيعونها بأيّ سعرٍ أرادوا، وبأيّ شروط خبيثة تحفظ مزيد منافعهم، وتقهر النّاس وتشدّد سلاسل مطامعهم ومظالمهم علي أکتافهم، ولذا استنتج عليه السلام من ذلک مفسدتين مهلکتين:

الاُولي: قوله: «وذلک باب مضرّة للعامّة»، وأي مضرّة أعظم من الأسر الاقتصادي في أيدي أصحاب رؤوس الأموال مصّاصي دماء النّاس.

الثانية: قوله: «وعيب علي الولاة»، وأيّ عيب أقبح من تسليم الاُمّة إلي هذا الأسر المهلک. فشرع عليّ عليه السلام في بيان کيفيّة محاربة هذه المفاسد بقوله: «فامنع من الاحتکار» المنع من الاحتکار للمنافع والبضائع، يعني کما لا يجوز احتکار البضائع طلباً لزيادة الربح، فکذا لا يجوز احتکار المنافع المقصود منه الحرص علي أخذ الأرباح والمنافع من التجارات زائداً عن المقدار المشروع علي الوجه المشروع، بحيث يؤدّي هذا الحرص والطمع إلي تشکيل الشرکات والقيام بالاحتکارات الّتي شاعت في هذه العصور، ومال إليها أرباب رؤوس الأموال الهامّة في الشرکات النفطيّة والمعدنيّة.

والشاهد علي عدم جواز أخذ المنافع من خلال انحصار الأموال في الشرکات، ما رواه في (الکافي) بإسناده عن أبي جعفر الفزاريّ، قال: دعا أبو عبداللَّه عليه السلام موليً له يقال له مصادف، فأعطاه ألف دينار، وقال له: «تجهّز حتّي تخرج إلي مصر، فإنّ عيالي قد کثروا»، قال: فتجهّز بمتاع وخرج مع التجّار إلي مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الّذي معهم ما حاله في المدينة، وکان متاع العامّة، فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شي ء، فتحالفوا وتعاقدوا علي أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار ديناراً. فلمّا قبضوا أموالهم وانصرفوا إلي المدينة فدخل مصادف علي أبي عبداللَّه عليه السلام ومعه کيسان کلّ واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداک، هذا رأس المال، وهذا الآخر ربح. فقال عليه السلام: «إنّ هذا الربح کثير، ولکن ما صنعته في المتاع؟»، فحدّثه کما صنعوا وکيف تحالفوا.

فقال عليه السلام: «سبحان اللَّه، تحلفون علي قوم مسلمين أن لا تبيعوهم إلّا ربح الدينار ديناراً»، ثمّ أخذ عليه السلام أحد الکيسين، وقال: «هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح». ثمّ قال: «يا مصادف، مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال».[1] .

فيستفاد من هذا الحديث أنّ التجّار قد فرضوا أمراً في معاملتهم مع أهل مصر، وهم محتاجون إلي المتاع، فأخذوا منهم مائة في المائة من الربح، فلمّا اطّلع الإمام عليه السلام علي عملهم لم يتصرّف في هذا الربح لأنّه مأخوذ من أرباب الحاجة إلي متاع بالتحالف وإيجاد الانحصار، وهذا هو عين ما يستعمله أصحاب الشرکات ورؤوس الأموال في هذا العصر، وهو ما عبّر عنه عليّ عليه السلام باحتکار المنافع والتحکّم في البياعات.

لقد تبيّن بما ذکرنا أنّ توصيته عليه السلام مالک الأشتر بالتجّار وذوي الصناعات إذا کان عملهم سبباً للصلح وإرفاق النّاس في الأسواق، وأمّا إذا کان عملهم موجباً للظلم وجلب المنافع واحتکارها، فللحاکم المنع عنهم حتّي لا يتضرّر العامّة ولا يعاب علي الولاة.







  1. فروع الکافي 161:5، والتهذيب 13:7، ووسائل الشيعة 311:12.