سبب نشأة الغلاة











سبب نشأة الغلاة



کان عليّ عليه السلام مظهر العدالة، مظهر صفات اللَّه، وکان جامعاً للصفات الحسنة، فهو مغيث الفقراء وسندهم، وهو حاکم المجتمع العادل، کان يقسّم ما في بيت المال بالسويّة مساوياً بين أسودهم وأبيضهم، عربهم وعجمهم، ساداتهم ومواليهم.

کان عابد الليل، وشجاع النّهار.. کان شجعان ذلک العصر يخضعون له ويرکعون أمامه ويهابونه، ورغم شجاعته هذه فإنّه کان يئنّ لبکاء اليتيم، ولا يتمالک نفسه أمامه.. کان عليّ عليه السلام ثابتاً علي الصراط المستقيم، متفانياً في سبيل اللَّه، ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم.

لقد کانت کلّ صفات جلاله وعظمته هذه تبهر عيون الناظرين، وتسلب لباب المتفکّرين فيه، فغبطه ضعاف الإيمان، وأوغل جماعة منهم في الانحراف عنه والبغض له، حتّي شهروا السيوف بوجهه وقاتلوه، وأشعلوا نيران الحروب ضدّه، وغلا فيه آخرون کانوا لم يعرفوا اللَّه حقّ معرفته، فاعتقدوا بأنّ عليّاً عليه السلام هو اللَّه!

لم يکن عليّ عليه السلام هو اللَّه، وإنّما کان عبداً من عباد اللَّه الصالحين، وإمام المسلمين، وحجّة اللَّه ربّ العالمين، عاملاً بکتاب اللَّه المبين، وسنّة النبيّ صلي الله عليه و آله، لا يعصي اللَّه ولا يخالفه، يکرم العباد الّذين اتّقوا، ويغلظ علي المارق والنکاث والقاسط کما وصف القرآن مولاة النبيّ الأعظم وأصحابه «أَشِدَّاءُ عَلَي الْکُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»[1] فإذا رأي الغالي يقول فيه ما ليس فيه يستتيبه، فإن لم يتب عاقبه أشدّ العقوبة، هکذا کان حال مع الغلاة.

قال ابن أبي الحديد في سبب نشأة الغلاة: وبمقتضي ما شاهد النّاس من معجزاته وأحواله المنافية لقوي البشر، غَلَا فيه مَن غلا، حتّي نُسِب إلي أنّ الجوهَر الإلهي حلّ في بدنه، کما قالت النصاري في عيسي عليه السلام، وقد أخبره النبيّ صلي الله عليه و آله بذلک، فقال: «يهلک فيک رجلان: محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ».

وقال له تارة اُخري: «والّذي نفسي بيده، لولا أنّي أشفِق أن تقول طوائف من اُمّتي فيک ما قالت النصاري في ابن مريم، لقلت فيک مقالاً لا تمرّ بملأ من النّاس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميک للبرکة».[2] .

أقول: لمّا أخبر الإمام عليه السلام بملأ من أصحابه في الخوارج قبل وقوع الحرب، وقال: «مَصارِعُهُم دُونَ النُّطْفَةِ (ماءِ النّهر)، واللَّهِ! لا يُفلِتُ مِنْهُم عَشَرَةٌ، ولا يَهلکُ مِنکُمْ عَشَرَةٌ».[3] قال ابن أبي الحديد: ووقع الأمر بعد الحرب بما قاله عليه السلام من غير زيادة ونقصان، وذلک أمرٌ إلهيٌّ عرفه من جهة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله،وعرفه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من جهة اللَّه سبحانه، والقوّة البشريّة تقصر عن إدراک مثل هذا، ولقد کان له من هذا الباب ما لم يکن لغيره.[4] .







  1. سورة الفتح: 29.
  2. شرح ابن أبي الحديد 4:5، ذيل خطبته عليه السلام: 58 و 59.
  3. شرح نهج البلاغة: الخطبة 59.
  4. انظر شرح ابن أبي الحديد 4:5.