سيرته في صفّين بعد غلبته علي الماء مع معاوية وأصحابه
قال ابن أبي الحديد: ولمّا ملک عسکر معاوية عليه الماء وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش کما قتلوا عثمان عطشاً، سألهم عليّ عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا - واللَّه - ولا قطرة حتّي تموت ظمأً کما مات ابن عفّان. فلمّا رأي عليّ عليه السلام أنّه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه وحمل علي عساکر معاوية حملاتٍ کثيفة حتّي أزالهم عن مراکزهم بعد قتل ذَريع، سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملکوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماءَ لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء - يا أمير المؤمنين - کما منعوک، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي فلا حاجة لک إلي الحرب. فقال: «لا - واللَّه - لا اُکافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلک». فهذه إن نسبتها إلي الحلم والصفح فناهيک بها جمالاً وحسناً، وإن نسبتها إلي الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام.[7] . و في ذلک رواية عن عمرو عاص حيث قال لمعاوية: لمّا ملک أهل العراق الماء: ما ظنّک - يا معاوية - بالقوم إن منعوک اليوم الماء کما منعتهم أمس، أتراک تضاربهم عليه کما ضاربوک عليه! ما أغني عنک أن تکشف لهم السوءة. فقال معاوية: دع عنک ما مضي، فما ظنّک بعليّ؟ قال: ظنّي أنّه لا يستحلّ منک ما استحللت منه، وإنّ الّذي جاء له غير الماء. قال: فقال معاوية قولاً أغضبه، فقال عمرو: أمرتک أمراً فسخّفته وأغمضت في الرأي إغماضةً فکيف رأيت کباش العراقِ فإن ينطحونا غداً مثلها أظنُّ لها اليومَ ما بعدَها وإن أخّروها لِما بعدَها وقد شرب القوم ماء الفرات عن نصر بن محمّد بن عبداللَّه، قال: فقال أصحاب عليّ له: امنعهم الماء - يا أميرالمؤمنين - کما منعوک. فقال: «لا، خلّوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون، سنعرض عليهم کتاب اللَّه وندعوهم إلي الهدي، فإن أجابوا وإلّا ففي حدّ السيف ما يغني إن شاء اللَّه».[10] . قال نصر: فواللَّه! ما أمسي النّاس حتّي رأوا سقاتهم وسقاة أهل الشام ورَواياهم ورَوايا الشام يزدحمون علي الماء ما يؤذي إنسانٌ إنساناً.[11] .
قال عليّ عليه السلام في خطبة له لمّا غلب أصحاب معاوية أصحابه علي شريعة الفرات بصفّين، ومنعوهم من الماء: «قَدِ اسْتَطْعَمُوکُمُ الْقِتَالَ[1] فَأَقِرُّوا عَلَي مَذَلَّةٍ، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ[2] أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالمَوْتُ فِي حَيَاتِکُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ في مَوْتِکُمْ قَاهِرِينَ. أَ لَا وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً[3] مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمْ الْخَبَرَ[4] حَتَّي جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ[5] الْمَنِيَّةِ».[6] .
وخالفني ابن أبي سرحه[8] .
ولم تَرَ في الحرب کالفسحه
ألم ينطحُوا جَمْعَنا نَطْحَه
فکن کالزبيريّ أو طَلحَه
وميعاد ما بيننا صُبحَه
فقد قَدَّموا الخبطَ والنَّفحَه
وقَلَّدکَ الأشتر الفَضحَه[9] .