كلمة حول سيرته في بيت المال











کلمة حول سيرته في بيت المال



لمّا بايع النّاس عليّاً بالخلافة أعلن أن نُسمّيه في عصرنا الحاضر بالثورة الشاملة ضدّ الأوضاع الاجتماعيّة الّتي کانت علي عهد عثمان، وعزمه الأکيد علي تغيير الأوضاع الجديدة الّتي حيزت فيها الأموال بغير حقّ، والعودة إلي نظام المساواة الّذي قرّره الإسلام، وطبّقه رسول الإسلام صلي الله عليه و آله، ومن کلماته الشهيرة الّتي تُعبّر عن عزمه علي ذلک قبل توليّه الخلافة قوله: «لَو قد اسْتَوَتْ[1] قَدَماي مِن هذِهِ المَدَاحِضِ[2] لَغَيَّرْتُ أشياءَ».[3] .

هذه واحدة من کلماته عليه السلام الملتهبة بالأسف علي الإسلام والمسلمين، حيث حرّفوا مجري أحکام الدين، وغيّروا الحقائق باتّباع الهوي، أو سبب الجهل بها، وهو يتحرّق لهذا الانحراف والانعطاف الجاهلي الّذي يرجع بالإسلام القهقري، ويوقف سيره نحو الدرجات العلي، فما لبث رويداً حتّي ظهر بأسهم بينهم، وتفرّقوا مذاهب شتّي.

وفي موقف آخر يبدي سخطه عليه السلام لاحتکار بني اُميّة الثروة الإسلاميّة، ويتوعّدهم قائلاً حين منعه سعيد بن العاص حقّه: «إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَني[4] تُرَاثَ مُحَمَّدٍ صلي الله عليه و آله تَفْوِيقاً، وَاللَّهِ! لَئِنْ بَقِيتُ لُهُمْ لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّام الْوِذَامَ[5] التَّرِبَةَ».[6] .

لقد کانت قطائع وأراضي جعلها عمر ملکاً خاصّاً لبيت المال، ثمّ جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وولاته وأهل بيته، فلمّا جاء عليّ عليه السلام ألغي تصرّفات عثمان هذه، وقرّر ردّها إلي ملکيّة الدول الإسلاميّة وحوزة بيت المال، وقال: «وَاللَّهِ! لَو وَجَدتُهُ - المال - قَد تُزوِّج به النّساءُ، ومُلِکَ به الإماءُ لَرَدَدتُه، فإنّ في العَدلِ سعةٌ، ومَن ضاقَ عَليهِ العَدلُ فالجورُ عَلَيه أضيَق».[7] .

وفي العطاء أحدث عليه السلام تغييراً ثورياً لعلّه کان من أخطر التغيّرات الثوريّة الّتي قرّرها، والّتي أراد من خلالها العودة بالمجتمع إلي روح التجربة الثوريّة الإسلاميّة الاُولي، والعطاء هو نظام قسمة الأموال العامّة بين النّاس، جنوداً کانوا أم غيرهم، وسواء کانوا من أصل عربيّ أو کانوا من الموالي، أو غير ذلک.

ولمّا جاء عمر بن الخطّاب ألغي نظام التسوية بين النّاس في العطاء، ثمّ کان عهد عثمان الّذي أقرّ القانون السابق، ثمّ سار علي دربه أشواطاً وأشواطاً، حتّي أصبح الاختلاف الطبقي نظاماً بشعاً، بلغت بشاعته حدّاً جعل النّاس يثورون علي عثمان، ثمّ انتهت ثورتهم بقتله وتولية عليّ عليه السلام أميراً علي المؤمنين.

ومن هنا کان قرار عليّ عليه السلام بالعدول عن تمييز النّاس في العطاء والعودة إلي نظام المساواة قراراً من أخطر قراراته الثورية، ولذا اعترضوا علي موقف عليّ عليه السلام، وکان أوّل مَن اعترض عليه عليه السلام طلحة بين عبداللَّه، والزبير بن العوّام، وعبداللَّه بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحکم، ورجال من قريش وغيرها، ولقد بلغوا في معارضتهم لقرار التسوية هذا حدّ نقض بيعتهم لعليّ عليه السلام، وإعلان الحرب عليه تحت ستار الطلب بدم عثمان، مع أنّهم هم الّذين تقدّموا النّاس في الثورة علي عثمان؟!

ورغم ذلک فإنّ عليّاً عليه السلام ثبت علي موقفه ولم يغيّر ما عزم عليه، ولذا لمّا عاتبه بعض أصحابه علي التسوية في العطاء وطلبوا تمييزاً للبعض إرضاءً للخصوم، قال عليه السلام: «أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ کَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَکَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ!». ثمّ قال عليه السلام: «أَ لَا وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ، وَيُکْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ. وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَلَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُکْرَهُمْ، وَکَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ. فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَي مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وَأَ لْأَمُ خَدِينٍ».[8] .







  1. استوت قدماي: کناية عن تثبيت حکومته ودفع مخالفيه.
  2. المداحض: المزالق الّتي لا تثبت عليها القدم.
  3. شرح نهج البلاغة: 1209، الحکمة 264.
  4. ليفوقّونني: يعطونني من المال قليلاً کفواق الناقة، وهو الحلبة الواحدة من لبنها.
  5. الوذام: وهي الحزّة والقطعة من الکرش، أو الکبد، تقع في التراب فتنفض.
  6. نهج البلاغة: الخطبة 77.
  7. المصدر المتقدّم: الخطبة 15.
  8. نهج البلاغة: الخطبة 126، وهذا البحث مستفاد من دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعيّة 136:1.