توبيخه بعض عمّاله من أقربائه











توبيخه بعض عمّاله من أقربائه



في نهج البلاغه: من کتاب له عليه السلام إلي بعض عمّاله، ولعلّه ابن عبّاس - کما سيأتي في الکتاب التالي -: «أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْکَ أَمْرٌ، إِنْ کُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّکَ، وَعَصَيْتَ إِمَامَکَ، وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَکَ. بَلَغَنِي أَ نَّکَ جَرَّدْتَ الْأَرْضَ فأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْکَ، وَأَکَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْکَ، فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَکَ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاس ِ، وَالسَّلَامُ».[1] .

وفيه أيضاً من کتاب له عليه السلام إلي بعض عمّاله: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي کُنْتُ أَشْرَکْتُکَ فِي أَمَانَتِي[2] وَجَعَلْتُکَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَکُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْکَ فِي نَفَسِي لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَيَّ؛ فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَي ابْنِ عَمِّکَ قَدْ کَلِبَ، وَالْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ، وَأَمَانَةَ النَّاس ِ قَدْ خَزِيَتْ هذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ فَنَکَتْ وَشَغَرَتْ، قَلَبْتَ لابْنِ عَمِّکَ ظَهْرَ الِْمجَنِّ فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ، وَخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ، وَخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ، فَلَا ابْنَ عَمِّکَ آسَيْتَ، وَلَا الْأَمَانَةَ أَدَّيْتَ. وَکَأَ نَّکَ لَمْ تَکُنِ اللَّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِکَ، وَکَأَنَّکَ لَمْ تَکُنْ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّکَ، وَکَأَ نَّکَ إِنَّمَا کُنْتَ تَکِيدُ هذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ، فَلَمَّا أَمْکَنَتْکَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْکَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ».

إلي أن قال: «فَاتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْ إِلَي هؤُلَاءِ الْقَوْمِ امَوَالَهُمْ، فإِنَّکَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْکَنَنِي اللَّهُ مِنْکَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَي اللَّهِ فِيکَ، وَلَأَضْرِبَنَّکَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ!».

ثمّ قال عليه السلام: «وَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عليهماالسلام فعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا کَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلَا ظَفِرَا مِنِّي بَإِرَادَةٍ، حَتَّي آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِي، أَتْرُکُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي؛ فَضَحِّ رُوَيْداً، فَکَأَ نَّکَ قَدْ بَلَغَتَ الْمَدَي، وَدُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَي، وَعُرِضَتْ عَلَيْکَ أَعْمَالُکَ بِالَْمحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّي، الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ، «وَلَاتَ حِينَ مَنَاص ٍ!».[3] .

أقول: وقد اختلف النّاس في مَن هو المخاطب في هذا الکتاب، والّذي قبله؟ فقيل: إنّه عبيداللَّه بن عبّاس عامله عليه السلام علي اليمن، والّذي لحق في نهاية الأمر بمعاوية. وقيل: إنّه عبداللَّه بن عبّاس عامله علي البصرة والأهواز وفارس، وملازمه في أکثر ملاحمه وحروبه، والّذي يشهد لهذا القول التعبيرات الواردة في الکتاب من قوله عليه السلام: «أَشْرَکْتُکَ فِي أَمَانَتِي وَجَعَلْتُکَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَکُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْکَ فِي نَفَسِي»، وقوله: «قَلَبْتَ لابْنِ عَمِّکَ»، وقوله: «فَلَا ابْنَ عَمِّکَ آسَيْتَ»، وغير ذلک من التعبيرات في الکتاب.

وروي الکشّي في عبداللَّه بن عبّاس بسنده عن الزهري، قال: سمعت الحارث يقول: استعمل عليّ عليه السلام علي البصرة عبداللَّه بن عبّاس، فحمل کلّ مال في بيت المال بالبصرة ولحق بمکّة وترک عليّاً عليه السلام، وکان مبلغه ألفي ألف درهم، فصعد عليّ عليه السلام المنبر حين بلغه ذلک فبکي فقال: «هذا ابن عمّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في علمه وقدره يفعل مثل هذا، فکيف يؤمن مَن کان دونه، اللّهمّ إنّي قد مللتهم فأرحني منهم، واقبضني إليک غير عاجز ولا ملول».

قال الکشّي: قال شيخٌ من أهل اليمامة يذکر عن معلّي بن هلال، عن الشعبي، قال: لمّا احتمل عبداللَّه بن عبّاس بيت مال البصرة وذهب به إلي الحجاز، کتب إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام وذکر قريباً من الکتاب الّذي مرّ عن (نهج البلاغة).

ثمّ قال: فکتب إليه عبداللَّه بن عبّاس: أمّا بعد، فقد أتاني کتابک تعظم علَيَّ إصابة المال الّذي أخذته من بيت مال البصرة، ولعمري إنّ لي في بيت مال اللَّه أکثر ممّا أخذت، والسلام.

قال: فکتب إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام: «أمّا بعد، فالعجب کلّ العجب من تزيين نفسک أنّ لک في بيت مال اللَّه أکثر ممّا أخذت، وأکثر ممّا لرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن کان تمنّيک الباطل ادّعاؤک مالاً يکون ينجيک من الإثم ويحلّ لک ما حرّم اللَّه عليک، عمرک اللَّه إنّک لأنت العبد المهتدي إذن فقد بلغني أنّک اتّخذت مکّة وطناً، وضربت بها عطناً، تشتري مولّدات مکّة والطائف تختارهنّ علي عينک، وتعطي فيهنّ مال غيرک، وإنّي لاُقسم باللَّه ربّي وربّک ربّ العزّة ما يسّرني أنّ ما أخذت من أموالهم لي حلال أدعه لعقبي ميراثاً، فلا غرور أشدّ باغتباطک بأکله، رويداً رويداً فکأنّ قد بلغت المدي، وعرضت علي ربّک والمحلّ الّذي تتمنّي الرجعة، والمضيّع للتوبة کذلک، وما ذلک ولات حين مناص، والسلام».

قال: فکتب إليه عبداللَّه بن عبّاس: أمّا بعد، فقد أکثرتَ عَلَيَّ، فواللَّه! لئن ألقي اللَّه بجميع ما في الأرض من ذهبها وعقيانها أحبّ إلَيَّ من أن ألقي اللَّه بدم رجل مسلم.[4] هذا ولکن قال الاُستاذ المحقّق الفقيه آية اللَّه المنتظري في دراساته ما ملخّصه: ليس المقام مقام تحقيق هذه المسألة وبيان صحّتها وسقمها، وربّما يخطر في الذهن أنّ ابن عبّاس حبر الاُمّة وعالمها، وعرف حاله في المحبّة والإخلاص لأمير المؤمنين عليه السلام، والنصر له، والذبّ عنه في المواقف الخطيرة، کيف يمکن أن تصدر عنه هذه الخيانة؟!

وکلّ من يقرأ التواريخ يظهر له ثناؤه الدائم لأمير المؤمنين عليه السلام، وخصامه لمعاوية حتّي بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام، وقد کان معاوية يستميل الأشخاص ويجتذبهم بالأموال کما اجتذب عبيداللَّه أخاه، ولم يسمع ميل عبداللَّه إلي ساحته أبداً، فيعلم بذلک طهارة ذيله وکذب القصّة هذه.

ولکن ما حکاه السيّد الرضي في (نهج البلاغة) قد أطبقت الرواة علي روايته، وذکر في کتب السير کما في شرح ابن أبي الحديد[5] ويشکل حمله علي أخيه عبيداللَّه مع ما فيه من القرائن الّتي مرّت.

ثمّ قال الاُستاذ الفقيه (دامت برکاته): والّذي يسهّل الخطب أنّ ابن عبّاس مع جلالته وعظم قدره لم يکن عندنا معصوماً، ولعلّه بعد ما أيس من دوام الحکومة العادلة الحقّه، واطمأنّ بأنّ الحکومة سوف تقع في أيدي الأعداء، وقد علم سجيّة بني اُميّة وشيمتهم، وأنّهم لا محالة منتقمون يوماً من بني هاشم، ويمنعونهم حقوقهم، ويضيّقون الأمر عليهم، قد فکّر في ادّخار بيت المال ليوم الشدّة والمآل، والنفس أمّارة بالسوء إلّا من رحم اللَّه، ومن شأنها دائماً التوجيه والتبرير، وقد (کفي المرء نبلاً أن تعدّ معايبه)، کما قيل، ولکن بعد الّتي واللّتيا يشکل الجزم بکون المخاطب في الخطبتين هو عبداللَّه بن عبّاس، وليس لتعقيب الموضوع أثر عملي شرعي، واللَّه العالم بالاُمور.[6] .







  1. نهج البلاغة: الکتاب 40.
  2. أشرکتک في أمانتي: جعلتک شريکاً فيما قمت فيه من الأمر، أي أمر الولاية، أو المراد به بيت المال الّذي في يده.
  3. نهج البلاغة: الکتاب 41.
  4. اختيار معرفة الرجال المعروف ب «رجال الکشي»: 60.
  5. شرح ابن أبي الحديد 168:16.
  6. دراسات في ولاية الفقيه 678:2.