عدله في تقسيم بيت المال سبّب فرار أصحابه إلي معاوية











عدله في تقسيم بيت المال سبّب فرار أصحابه إلي معاوية



في (الغارات) بإسناده إلي ربيعة وعمارة، وهکذا في (البحار) عن المفيد والشيخ، بإسنادهما عن ربيعة وعمارة: أنّ طائفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام مشوا إليه - عند تفرّق النّاس عنه عليه السلام، وفرار کثير منهم إلي معاوية طلباً لما في يديه من الدنيا - فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش علي الموالي والعجم، ومن تخاف خلافه من النّاس وفراره إلي معاوية. قال: وانّما قالوا له ذلک للذي کان معاوية يصنع مع مَن أتاه.

فقال لهم عليّ عليه السلام: «أتامروني أن أطلب النصر بالجور؟ واللَّه! لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم، واللَّه! لو کان مالهم لي لواسيت بينهم، فکيف وإنّما هي أموالهم».

قال: ثمّ ازمّ[1] طويلاً ساکتاً. ثمّ قال: «مَن کان له مالٌ فإيّاه والفساد، فإنّ إعطاء المال في غير حقّه تذبير وإسراف، وهو ذکر لصاحبه في النّاس[2] ويضعه عند اللَّه عزّ وجلّ، ولم يضع رجل ماله في غير حقّه وعند غير أهله إلّا حرمه اللَّه شکرهم، وکان لغيره ودّهم، فإن بقي معهم مَن يودّهم ويظهر لهم الشکر فإنّما هو ملق وکذب، وإنّما ينوي أن ينال من صاحبه مثل الّذي کان يأتي إليه من قبل، فإن زلّت بصاحبه النعل[3] فاحتاج إلي معونته ومکافأته فشرّ خليل وألأم خدين، ومن صنع المعروف فيما آتاه اللَّه فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفکّ به العاني، وليعن به الغارم وابن السبيل والفقراء والمهاجرين، وليصبر نفسه علي النوائب والخطوب، فإنّ الفوز بهذه الخصال شرف مکارم الدنيا ودرک فضائل الآخرة».[4] .

وفي (الغارات) أيضاً: بإسناده عن فضيل بن الجعد، عن مولي الأشتر، قال: شکا عليّ عليه السلام إلي الأشتر فرار النّاس إلي معاوية؟

فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، إنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الکوفة، والرأي واحد، وقد اختلفوا بعد وتعادوا وضعفت النيّة، وقلّ العدل، وأنت تأخذهم بالعدل، وتعمل فيهم بالحقّ، وتنصف الوضيع من الشريف، وليس للشريف عندک فضل منزلة علي الوضيع، فضجّت طائفة ممّن معک علي الحقّ إذ عمّوا به، واغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه، وصارت صنائع معاوية عند أهل الغني والشرف، فتاقت أنفس النّاس إلي الدنيا، وقلّ من النّاس من ليس للدنيا بصاحب، وأکثرهم من يجتوي[5] الحقّ، ويستمرئ الباطل، ويؤثر الدنيا، فإن تبذل المال - يا أمير المؤمنين - تمل إليک أعناق النّاس، وتصف نصيحتهم، وتستخلص ودّهم، صنع اللَّه لک[6] - يا أمير المؤمنين - وکبت عدوّک، وفضّ جمعهم، وأوهن کيدهم، وشتّت اُمورهم، إنّه بما يعملون خبير.

فأجابه عليّ عليه السلام، فحمد اللَّه وأثني عليه، وقال: «أمّا ما ذکرت من عملنا وسيرتنا بالعدل، فإنّ اللَّه يقول: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّکَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ»[7] وأنا من أن أکون مقصّراً فيما ذکرت أخوف.

وأمّا ما ذکرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا لذلک، فقد علم اللَّه أنّهم لم يفارقونا من جور، ولم يدعوا إذ فارقونا إلي عدل، ولم يلتمسوا إلّا دنيا زائلة عنهم کأن قد فارقوها، وليُسألنّ يوم القيامة: أللدنيا أرادوا أم للَّه عملوا؟!

وأمّا ما ذکرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فإنّا لا يسعنا أن نؤتي امرءاً من الفي ء أکثر من حقّه، وقد قال اللَّه وقوله الحقّ: «کَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»[8] وبعث محمّداً صلي الله عليه و آله وحده، فکثّره بعد القلّة، وأعزّ فئته بعد الذلّة، وإن يرد اللَّه أن يولّينا هذا الأمر يذلّل لنا صعبه، ويسهّل لنا حزنه، وأنا قابل من رأيک ما کان للَّه رضي، وأنت من آمن أصحابي، وأوثقهم في نفسي، وأنصحهم، وأرآهم[9] عندي.[10] .







  1. أزمّ القوم: أمسکوا عن الکلام کما يمسک الصائم عن الطعام.
  2. وفي أمالي المفيد: «وهو وإن کان ذکراً لصاحبه في الدنيا فهو يضعه عند اللَّه عزّ وجلّ».
  3. زلّت به نعله: يضرب لمن نکب وزالت نعمته.
  4. الغارات 74:1، والبحار 108:41.
  5. اجتويت البلد: إذا کرهت المقام فيه وإن کنت في نعمة.
  6. والجملة دعائيّة: أي فعل اللَّه لک خيراً، وقدّره لک.
  7. سورة فصّلت: 46.
  8. سورة البقرة: 249.
  9. أرآهم: أي أعقلهم وأصوبهم في النظر والرأي.
  10. الغارات 70:1.