نبذة ممّا كان من جودة رأيه وسياسته











نبذة ممّا کان من جودة رأيه وسياسته



قال ابن أبي الحديد: وأمّا الرأي والتدبير فکان عليّ عليه السلام من أسدّ النّاس رأياً، وأصحّهم تدبيراً، وهو الّذي أشار علي عمر بن الخطّاب لمّا عزم أن يتوجّه بنفسه إلي حرب الروم والفرس بما أشار، وهو الّذي أشار علي عثمان باُمور کان صلاحه فيها، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث، إلي أن قال:

وأمّا السياسة: فإنّه کان شديد السياسة، خشناً في ذات اللَّه، لم يراقب ابن عمّه في عمل کان ولّاه إيّاه، ولا راقب أخاه عقيلاً في کلام جبهه به، وأحرق قوماً بالنّار و...[1] .

قال العلّامة السيّد محسن الأمين في سياسته: وهو الّذي أشار علي المسلمين بأن يدفن النبيّ صلي الله عليه و آله في موضع وفاته، وأن يصلّي عليه المسلمون فرادي بدون إمام، جماعةً بعد جماعة، وإن شئت أن تجعل هذا من العلم والفقه فلک ذلک، وهو الّذي أشار إلي عمر بوضع التاريخ للهجرة.[2] .

وفي (المناقب): قال الطبري ومجاهد في تأريخيهما: جمع عمر بن الخطّاب النّاس يسألهم من أيّ يوم نکتب، فقال عليّ عليه السلام: «من يوم هاجر رسول اللَّه وترک أرض الشرک»، ففعله عمر، فکأنّه أشار أن لا تبتدعوا بدعة وأرّخوا کما کانوا يکتبون في زمان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لأنّه قدم النبيّ المدينة في شهر ربيع الأوّل، فأمر بالتاريخ، فکان يؤرّخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلي أن تمّت له سنة.[3] .

وذکر ابن الأثير في (تاريخه) والحاکم في (المستدرک): عن سعيد بن المسيّب: جمع عمر النّاس فقال: من أيّ يوم نکتب التاريخ؟ فقال عليّ عليه السلام: «من مهاجرة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وفراقه أرض الشرک»، ففعله عمر.[4] .

ومن أخباره في جودة الرأي والتدبير ما رواه المفيد في (الإرشاد): عن شبابة بن سوّار، عن أبي بکر الهذلي، قال: سمعت رجالاً من علمائنا يقولون: تکاتبت الأعاجم من أهل همدان وأهل الريّ واصبهان وقومس ونهاوند وأرسل بعضهم إلي بعض: أنّ ملک العرب الّذي جاءهم بدينهم وأخرج کتابهم قد هلک - يعنون النبيّ صلي الله عليه و آله - وأنّه ملکهم من بعده رجل ملکاً يسيراً ثمّ هلک - يعنون أبا بکر - وقام من بعده آخر، قد طال عمره حتّي تناولکم في بلادکم وأغزاکم جنوده - يعنون عمر بن الخطّاب - وأنّه غير منتهٍ عنکم حتّي تخرجوا من في بلادکم من جنوده وتخرجوا إليه فتغزوه في بلاده، فتعاقدوا علي هذا وتعاهدوا عليه، فلمّا انتهي الخبر إلي مَن بالکوفة من المسلمين أنهوه إلي عمر بن الخطّاب، فلمّا انتهي إليه الخبر فزع لذلک فزعاً شديداً، ثمّ أتي مسجد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثني عليه، ثمّ قال: معاشر المهاجرين والأنصار، إنّ الشيطان قد جمع لکم جموعاً وأقبل بها ليطفئ بها نور اللَّه، ألا انّ أهل همدان وأهل اصبهان وأهل الريّ وقومس ونهاوند مختلفة ألسنتها وألوانها وأديانها، قد تعاهدوا وتعاقدوا أن يخرجوا من بلادهم إخوانکم من المسلمين ويخرجوا إليکم فيغزوکم في بلادکم، فأشيروا علَيَّ وأوجزوا ولا تطنبوا في القول، فإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام فتکلّموا.

فقام طلحة بن عبيداللَّه، وکان من خطباء قريش، فحمد اللَّه وأثني عليه، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين، قد حنّکتک الاُمور، وجرّستک الدهور، وعجمتک البلايا، وأحکمتک التجارب، وأنت مبارک الأمر، ميمون النقيبة، وقد ولّيت فخبرت، واختبرت وخبّرت، فلم تنکشف من عواقب قضاء اللَّه إلّا عن خيار، فاحضر هذا الأمر برأيک فلا تغب عنه، ثمّ جلس، فقال عمر: تکلّموا.

فقام عثمان بن عفّان، فحمد اللَّه وأثني عليه، ثمّ قال: أمّا بعد - يا أمير المؤمنين - فإنّي أري أن تشخص أهل الشام من شامهم، وأهل اليمن من يمنهم، وتسير أنت في أهل هذين الحرمين، وأهل المصرين الکوفة والبصرة، فتلقي جميع المشرکين بجميع المؤمنين، فإنّک - يا أمير المؤمنين - لا تستبقي من نفسک بعد العرب باقية، ولا تمتّع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز، فاحضره برأيک ولا تغب عنه، ثمّ جلس.

فقال عمر: تکلّموا.

فقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: «الحمد للَّه»، حتّي أتمّ التحميد والثناء علي اللَّه، والصلاة علي رسوله صلي الله عليه و آله، ثمّ قال: «أمّا بعد، فإنّک إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلي ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلي ذراريهم، وإن أشخصت من هذين الحرمين انتقضت عليک العرب من أطرافها وأکنافها، حتّي يکون ما تدع وراء ظهرک من عيالات العرب أهمّ إليک ممّا بين يديک.

فأمّا ذکرک کثرة العجم ورهبتک من جموعهم، فإنّا لم نکن نقاتل علي عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بالکثرة، وإنّما کنّا نقاتل بالنصر.

وأمّا ما بلغک من اجتماعهم علي المسير إلي المسلمين، فإنّ اللَّه لمسيرهم أکره منک لذلک، وهو أوْلي بتغيير ما يکره، وإنّ الأعاجم إذا نظروا إليک قالوا: هذا رجل العرب، فإن قطعتموه فقد قطعتم العرب، وکان أشدّ لکلبهم، وکنت قد ألّبتهم علي نفسک، وأمدّهم من لم يکن يمدّهم، ولکنّي أري أن تقرّ هؤلاء في أمصارهم، وتکتب إلي أهل البصرة فليتفرّقوا علي ثلاث فرق، فلتقم فرقة منهم علي ذراريهم حَرَساً لهم، ولتقم فرقة علي أهل عهدهم لئلّا ينتقضوا، ولتسر فرقة منهم إلي إخوانهم مدداً لهم».

فقال عمر: أجل هذا الرأي، وقد کنت اُحبّ أن اُتابع عليه، وجعل يکرّر قول أمير المؤمنين عليه السلام وينسقه إعجاباً به واختياراً له.

قال الشيخ المفيد رحمه الله: فانظروا أيّدکم اللَّه إلي هذا الموقف الّذي ينبئ بفضل الرأي؛ إذ تنازعه اُولو الألباب والعلم، وتأمّلوا التوفيق الّذي قرن اللَّه به أميرالمؤمنين عليه السلام في الأحوال کلّها، وفزع القوم إليه في المعضل من الاُمور، وأضيفوا ذلک إلي ما أثبتناه عنه من القضاء في الدين الّذي أعجز متقدّمي القوم حتّي اضطرّوا في علمه إليه.[5] .







  1. المصدر المتقدّم 28:1.
  2. أعيان الشيعة 349:1.
  3. المناقب لابن شهرآشوب 144:2. تاريخ الطبري 144:3.
  4. الکامل في التاريخ 36:1، مستدرک الحاکم 14:3.
  5. إرشاد المفيد ج 195: 1 و راجع المناقب لابن شهرآشوب نقلاً عن الطبري.