سياسته وتدبيره علي وفق الكتاب والسنّة











سياسته وتدبيره علي وفق الکتاب والسنّة



قال عليّ عليه السلام في خطبة له: «وَاللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَي مِنَّي، وَلکِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ. وَلَوْلَا کَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَکُنْتُ مِنْ أَدْهَي النَّاسِ، وَلکِنْ کُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ، وَکُلُّ فُجَرَة کُفَرَةٌ. «وَلِکُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَاللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بالْمَکِيدَةِ، وَلَا أُسْتَغْمَزُ[1] بالشَّدِيدَةِ».[2] .

وهو عليه السلام في هذه الخطبة دفع توهّم من کان يعتقد أنّ معاوية وأمثاله أجود رأياً وأکثر تدبيراً منه، وتعرّض له علي معاوية من أجل تحرّزه في تدبيره الاُمور عن الغدر والفجر، وصدّر الکلام بالقسم البارّ، تأکيداً للمقصود بقوله: «واللَّه! ما معاوية بأدهني منّي»، ثمّ قال: «ولکنّه يغْدِر ويَفْجُر»، أي: يستعمل الغدر في اُموره السياسيّة، فيزعم أهل الجهل أنّه أدهي، في حين أنّ عليّاً عليه السلام کان ملازماً في جميع حرکاته قوانين الشريعة، ورفض ما هو المعتاد في ذاک العصر في الحروب وإدارة الشؤون، مع أنّ التدابير من الدهاء والخبث والمکر والحيلة والاجتهادات في النصوص، ممّا لم ترخّص فيه الشريعة، أمّا غيره مثل معاوية فيعتمد جميع تلک، سواء کان وافق شريعة الإسلام أم لا، فکانت وجوه الحيل والتدبير عليهم أوسع، وکان مجالها عليه أضيق.

وفي (الکافي): بسنده عن بعض أصحابنا، رفعه إلي أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قلت له: ما العقل؟ قال: ما عُبدَ به الرّحمن، واکتسبَ به الجنان»، قال: قلت: فالذي کان في معاوية؟ فقال: «تلک النکراء! تلک الشيطنة، وهي شبيهةٌ بالعقل، ليست بالعقل».[3] .

ونبّه عليّ عليه السلام في الخطبة إلي وجه امتناعه عن الدهاء المستلزم الغدر، فقال: «لَوْلا کَراهيَّةُ الغَدْرِ»، أي المکر واستلزامه الکذب والغشّ والخيانة والفجور المنافي لمرتبة العصمة «لَکُنتُ مِن أدهَي النّاسِ».

وفي (البحار): عن زاذان، قال: سمعتُ عليّاً عليه السلام يقول: «لولا أنّي سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: انّ المکر والخديعة والخيانة في النارِ لکُنْتُ أمْکَرَ العرب و کُلُّ فجرةٍ کفرة».[4] .

ووجه لزوم الکفر في قوله عليه السلام: «وکلّ فجرة کفرة، هو استباحة ما علم تحريمه من الشرع وجحده هو الکفر، کما استباح معاوية وأتباعه محرّمات الإسلام.

ولم يکن عليّ عليه السلام طالب دنيا ولا إمرة ولا سلطنة، بل طالب آخرة، وهدفه إقامة الحقّ وخذلان الباطل، فکيف يتوسّل بالباطل إلي نيل الملک، وهو الّذي کان يقول: «واللَّه! لَو اُعْطِيتُ الأقاليمَ السَّبْعَة بِما تَحتَ أفلاکِها علي أن أعْصِيَ اللَّهَ في نَملةٍ أسلُبُها جلبَ شعيرةٍ ما فَعَلْتُهُ».[5] .

وهو الّذي يقول في نعله الّتي لا تساوي درهماً: «واللَّه! لَهِيَ أحبُّ إلَيَّ مِنْ إِمْرَتِکُمْ، إِلَّا أنْ اُقيمَ حَقّاً، أو أدفَعَ باطلاً».[6] .

وهو الّذي لم يقبل يوم الشوري أن يبايعه عبدالرحمن بن عوف، إلّا علي کتاب اللَّه وسنّة رسوله ورأيه، ولم يرض أن يدخل سيرة الشيخين حتّي عدل عنه إلي من قبل ذلک أي عثمان.[7] .

وهو الّذي قال لفاطمة حينما حرّضته يوماً علي النهوض والوثوب فسمع صوت المؤذّن: «أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه»، فقال لها: «أيسرّک زوال هذا النداء من الأرض؟»، قالت: «لا»، قال: «فإنّه ما أقول لک».[8] .

وهو الّذي جاءه المغيرة بن شعبة بعد مبايعته، فقال له: إنّ لک حقّ الطاعة والنصيحة، وإنّ الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وإنّ الضياع اليوم تضيع به ما في غد، أقرر معاوية علي عمله، وأقرر العمّال علي أعمالهم حتّي إذا أتتک طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو ترکت؟ فأبي، وقال: «لا اُداهنُ في ديني، ولا أعطي الدنيّة في أمري».

قال المغيرة: فإن کنت أبيتَ علَيَّ فانزع من شئت واترک معاوية، فإنّ في معاوية وهو في الشام يُستمع له، ولک حجّة في إثباته... إذ کان عمر قد ولّاه الشام؟

فقال عليّ عليه السلام: «لا واللَّه... لا أستعمل معاوية يومين...».[9] .

هذا عليّ عليه السلام لم يترک الدين والإسلام علي مدي حکومته لحظة، ولم يغفل عن القرآن والسنّة آناً.







  1. ولا استغمز، أي لا يطلب غمزي وإضعافي، فإنّي لا أضعف عمّا أرمي به من الشدائد، أي لا أستجهل بشدائد المکائد.
  2. نهج البلاغة: الخطبة 200.
  3. اُصول الکافي 11:1.
  4. البحار 110:41.
  5. نهج البلاغة: الخطبة 244.
  6. المصدر المتقدّم: الخطبة 33.
  7. راجع في هذا المجال شرح ابن أبي الحديد 245:10.
  8. المصدر المتقدّم 113:11.
  9. عبقرية الإمام عليّ: 122، وراجع نحوه في مروج الذهب 363:2.