علي قعيد بيته (25) عاماً و مشربه في الحكومة











علي قعيد بيته (25) عاماً و مشربه في الحکومة



وممّا يؤسف له أنّ الإمام عليّ عليه السلام بسبب المؤامرات التي حيکت، وما دبّره القوم من التظاهر علي غصب حقّه المسلّم والثابت، لم تتهيّأ له الفرصة في الجلوس علي سدّة الحکم الظاهري إلّا بعد خمسة وعشرين عاماً من وفاة الرسول الأکرم صلي الله عليه و آله، وقد انشغل طيلة هذه الفترة بالزراعة وحفر الأنهار والقنوات والآبار، والّتي تعتبر من الأعمال المفضّلة الّتي أکّد عليها الإسلام العزيز.

وفي نفس الوقت کان عليه السلام يتعاون ويتآزر مع السلطة الحاکمة، ولم يدّخر وسعاً في إصلاح الاُمور، وفي إسداء الإرشاد والموعظة، وفي الأعمال القضائيّة، سيّما الوقائع الّتي تشکل عليهم، والّتي يطلبونها منه، حتّي انقضاء حکومة عثمان بمقتله علي أثر الثورة الّتي أطاحت به، حيث ملّ النّاس من فساد العمّال خصوصاً من بني اُميّة، ومن الانحلال والفوضي، ولم يعد عثمان قادراً علي التغيير أو الإصلاح.

وعلي الرغم من أنّ الظروف کانت مهيّأة لأمير المؤمنين عليه السلام لاستلام الحکومة الظاهريّة، وأنّ النّاس لم يجدوا شخصاً سواه يشبع أرواحهم المتلهّفة للإسلام، وأنّهم مدّوا يد الحاجة إليه کي يشغل منصب الحکومة، رغم کلّ هذا ورغم إصرار الجماهير عليه بالقبول وتوجّهها بکامل حُبّها القلبي، إلّا أنّه عليه السلام رفض ذلک وامتنع؛ وذلک لأنّه کان يريد السلطة لأجل تنفيذ مبادئ الإسلام، لا لأجل الجاه والرئاسة، وإنّه کان يعلم أنّ خمسة وعشرين عاماً جعلت الإسلام المحمّدي الأصيل يغيب تدريجيّاً عن النّاس، ليحلّ محلّه شي ء آخر باسم الإسلام، فقد حلّت العلاقات الشخصيّة والعشائريّة محلّ القوانين والضوابط الإسلاميّة، وحلّ الرياء والهوي محلّ الإخلاص والحقّ، وحلّت مظاهر الاُبّهة والکبر محلّ الزهد والقبول بالکفاف.

وإزاء کلّ هذا وغيره لم يستطع الإمام عليه السلام أن يعيد المسار علي ما کان عليه في حکومة الرسول الأکرم صلي الله عليه و آله بسهولة وبدون وجود مشکلات، کما أنّ النّاس لم يعدوا قادرين علي تحمّل العدل، ولکنّ الإمام عليه السلام أصبح مضطرّاً لقبول الحکومة تحت ضغط الجماهير، ولعدم وجود شخص قادر علي أن يحلّ محلّه، کما أنّ عثمان لم ينصّب أحداً خليفة له.

ومن اليوم الأوّل الّذي تسنّم فيه أمير المؤمنين عليه السلام منصب الحکومة بيّن مواقف دولته بشکل مفصّل، وأعلن صوت العدالة الخالد بأنّ الکلّ متساوون أمام القانون، ولا فرق بين الصديق والعدوّ، أو القريب والبعيد، والکلّ يتمتّعون بنفس الحقوق من بيت المال، الأبيض والأسود، العربيّ والأعجمي، الأشراف والعبيد، وأعلن أنّ کلّ ما کان لبيت المال يجب أن يعود إليه، وإن ملکوا به الإماء، أو نکحوا به النساء، وأعلن أيضاً أنّ المناصب إنّما تُعطي علي أساس التقوي واللياقة، لا علي أساس الصداقة و العلاقات والروابط.

وکان لهذا الإعلان وغيره، ولعدم مسامحته في الحقّ والعدل، جعل البعض - ومن اليوم الأوّل لحکومته، ولأجل الطمع بالمنصب والمقام، أو لأنّه لا يطيق عدالته - يعلن نداء المخالفة[1] وتوجّه طلحة والزبير إلي بيت اللَّه الحرام لغرض التمهيد للمؤامرة، واتّصلوا بعائشة حيث التفّ البعض حولها بحجّة المطالبة بدم عثمان ليعلنوا الحرب، فکانت الجمل، وبعدها صفّين، ومن ثمّ النهروان، ومضت السنوات الخمس الّتي قضاها أمير المؤمنين عليه السلام بالحروب الداخليّة.

ولم يدع عبيد الدنيا مولي المتّقين يطبّق أحکام الإسلام المحمّدي الأصيل بالقدر الّذي کان يريد، وقد سخّر جُلّ ما لديه من قوّة وهمّة للحرب والنزاع، وفي نفس الوقت استطاع خلال السنوات الخمس أن يضع المبادئ والاُسس للحکومة الإسلاميّة، والّتي تُعدُّ نموذجاً حيّاً لکلّ حکومة إسلاميّة علي مدي التاريخ، وذلک عن طريق الرسائل والعهود الّتي کتبها للقضاة والعمّال، وانتقاد المخالفين وتوجيههم، ومتابعة النّاس في السوق، وتوجيه التجّار والباعة ومحاسبتهم، وکيفيّة التعامل مع أسري الحرب ومع اليهود والنصاري، وتنفيذ قوانين الإسلام في الانتصار والحرب وکلّ شي ء، والتقسيم العادل لبيت المال، والقضاء وفقاً لمبادئ الإسلام وقوانينه العادلة.

وفيما تبقّي من الکتاب سنتعرّض في فصول متعدّدة لحکومة أمير المؤمنين عليه السلام، ورغم أنّنا لم نکن نفي أکثر من قطرة من بحره الفيّاض، لکنّني أتمنّي من اللَّه تعالي أن أکون قد وفّقت في توضيح الطريق الّذي سلکه أمير المؤمنين عليه السلام في إدارة شؤون الدولة المختلفة، راجياً المولي القدير أن يجعلنا موضع عنايته، وأن يؤدّي هذا البحث - علي قصوره - الفائدة المتوخّاة منه.







  1. ويشهد لذلک ما رواه العلّامة الخوئي في شرحه علي نهج البلاغة 243:3. عن الصادق عليه السلام - في حديث - قال: «وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فأراد أن يجري أحکامها علي الطريقة المستقيمة والسنن النبويّة، فلم يحصل له ما أراد».