نظرة في سخاء عليّ وجوده











نظرة في سخاء عليّ وجوده



إنّ عليّاً عليه السلام نموذج الإنسانيّة العالي الّذي يُحتذي به في کلّ خلقٍ حسنٍ وسجيّة تثير الإعجاب، فهو مَظهرُ ومُظهرُ الصفات الکماليّة للحقّ تعالي ذکره.

وعليّ عليه السلام نموذج الإنسانيّة الرائع، والاُسوة الحسنة الّتي تستحقّ الاقتداء من قِبَلِ کلِّ أتباعه في مجال الجود والسخاء، سيّما اُولئک الّذين قطعوا أنفسهم عن التعلّق بزخارف الدنيا وأموالها.

فإذا لم يکن بالإمکان أن نصبح کعليّ عليه السلام في فضائله المتألّقة الکاملة، فإنّنا نستطيع التحلّي بصفات الفضيلة الّتي تحلّي بها الإمام عليه السلام أو أکّد عليها کما قال عليه السلام: «لا تقدرون علي ذلک، بل أعينوني بورعٍ واجتهاد».[1] .

لا شکّ أنّکم کثيراً ما سمعتم عن کرم حاتم الطائي وجوده الّذي أصبح مضرباً للأمثال في کلّ الأعصار، إلّا أنّه بالمقارنة مع سخاء عليّ عليه السلام وجوده فهو ذرّة غير قابلة للقياس.

وإذا قلنا: إنّه لا يمکن لأيّ مخلوق بعد الرسول الأکرم صلي الله عليه و آله أن يصل إلي مقام عليّ عليه السلام في الجود والسخاء، فإنّنا لم نکن مبالغين، ولن نعدو الصواب والحقّ.

ولم يکن قولنا جزافاً بقدر ما هو حقّ؛ لأنّ عليّاً عليه السلام کان سخيّاً في کلّ أحواله، في السعة وضيق ذات اليد، في العلن وفي الخفاء، وفي توزيع المال وبذل الطعام.

وفي مطالعاتنا للأحاديث الّتي تحکي جوده وکرمه، نجده عليه السلام في کثير من الأحيان يبذل ما في يده - وإن کان محتاجاً إليه حاجة ماسّة - للفقراء والمساکين، ولا يتوقّف عند هذا الحدّ، بل إنّه يعطي أحياناً قوت عائلته الّذي لا يملکون سواه، ويطوي الليل معهم جائعاً، ولا يمکن لشخص غير عليّ عليه السلام أن يُعطي قوت عياله الوحيد إلي الفقير، وقد عمله عليه السلام انطلاقاً من نور الإمامة والولاية وعلي أساس التسديد الإلهي.

کلّ هذا يجعل الإنسان الّذي ينظر بعين الإنصاف والحقّ غارقاً بالدهشة والتعجّب، ولعلّ القرآن الکريم خير شاهد ودليل علي ما نقول، فهم عليهم السلام الّذين نزل فيهم قوله تعالي: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْکِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً»[2] وقوله تعالي: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَي أَنفُسِهِمْ وَلَوْ کَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»[3] وغيرهما من الآيات الّتي سنشير إلي نماذج منها.

وأيضاً جوده عليه السلام وسخاؤه کسائر فضائله ومناقبه عليه السلام؛ إذ نلاحظ أنّ العدوّ والصديق وقف أمامها وقفة تجليل وتثمين، ولا شکّ أنّ تعظيم الأعداء قد تأتّي دون اختيارهم؛ إذ أنّ بلوغه عليه السلام الدرجات الرفيعة في الفضائل جعلهم مضطرّين لتبجيلها وتجليلها، ولأجل توضيح هذه الحقيقة للقرّاء الأعزاء نشير إلي ما أورده الشارح المعتزلي وابن عساکر الشافعي، مراعين الاختصار.

1- قال ابن أبي الحديد: وأمّا السخاء والجود، فحاله فيه ظاهرة، کان يصوم ويطوي، يؤثر بزاده، وفيه اُنزل: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْکِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً × إِنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنکُمْ جَزَاءً وَلَا شُکُوراً».[4] وروي المفسّرون أنّه لم يکن يملک إلّا أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانية، فاُنزل فيه: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».[5] وفي الحديث: «أنّه کان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتّي مجلت[6] يده، ويتصدّق بالاُجرة، ويشدّ علي بطنه حجراً».

ثمّ قال ابن أبي الحديد: وقال الشعبي، وقد ذکره عليه السلام: کان أسخي النّاس، کان علي الخُلق الّذي يحبّه اللَّه: السخاء والجود، ما قال: لا لسائل قطّ، وقال عدوّه ومبغضه الّذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان، لمحفن بن أبي محفن الضبّي، لمّا قال له: جئتک من عند أبخل النّاس!! فقال (معاوية): ويحک! کيف تقول: إنّه أبخل النّاس؟! لو ملک بيتاً من تبر[7] وبيتاً من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه.

ثمّ ذکر عن الشعبي أنّه قال: وهو الّذي کان يکنس بيوت الأموال ويصلّي فيها، وهو الّذي قال: «يا صفراء ويا بيضاء[8] غُرِّي غيري»، وهو الّذي لم يخلّف ميراثاً، وکانت الدنيا کلّها بيده إلّا ما کان من الشام.[9] .

وهذا معاوية أعدي عدوّه اعترف بسخائه عليه السلام وجوده والفضل ما شهدت به الأعداء.

2- وقال ابن عساکر الشافعي بسنده عن عطاء بن مسلم، عن رجل، عن أبي إسحاق: جاء ابن أجور التميمي إلي معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، جئتُک من عند ألأم الناس، وأخبل النّاس، وأعيا النّاس، وأجبن النّاس!!

فقال له معاوية: ويلک، وأنّي أتاه اللؤم؟! ولکنّا نتحدّث أن لو کان لعليّ بيتٌ من تبنٍ وآخر من تبرٍ لأنفد التبر قبل التبن.

وأنّي أتاه العيّ! وإن کنّا لنتحدّث أنّه ما جرت المواسي علي رأس رجل من قريش أفصح من عليّ!

ويلک، وأنّي أتاه الجبن؟! وما برز له رجل قطّ إلّا صرعه، واللَّه - يابن أجور - لولا أنّ الحرب خدعة لضربت عنقک، اُخرج فلا تقيمنّ في بلدي.

قال عطاء: وإن کان معاوية يقاتله فإنّه کان يعرف فضله.[10] .







  1. نهج البلاغة: الکتاب 45.
  2. سورة الإنسان: 8.
  3. سورة الحشر: 9.
  4. سورة الإنسان 8 و 9.
  5. سورة البقرة: 274.
  6. مجلت يده: ثخن جلدها وظهر فيها ما يُشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة، ومنه حديث فاطمة عليهاالسلام: إنّها شکت إلي عليّ عليه السلام مَجل يديها من الطحن. النهاية لابن الأثير 300:4.
  7. التبر: ذهب غير مسکوک.
  8. الصفراء والبيضاء: کنايتان عن الدينار والدرهم (الذهب والفضّة).
  9. شرح ابن أبي الحديد 21:1.
  10. تاريخ دمشق لابن عساکر - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 58:3، ح 1100.