كلمة في حلم أمير المؤمنين











کلمة في حلم أمير المؤمنين



کان عليّ عليه السلام أحلم النّاس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيئ، يحلم عند جهل النّاس، وهو مثال للحلم، صدق رسول اللَّه صلي الله عليه و آله حيث قال في خبر: «لو کان الحلم رجلاً لکان عليّاً عليه السلام».[1] .

وفي (المناقب لابن شهرآشوب): «أنّه عليه السلام دعا غلاماً له مراراً فلم يجبه، فخرج فوجده علي باب البيت»، فقال عليه السلام: «ما حملک علي ترک إجابتي؟». قال: کسلت إجابتک، وأمنت عقوبتک. فقال عليه السلام: «الحمد للَّه الّذي جعلني ممّن تأمنه خلقه، امض فأنت حرّ لوجه اللَّه».

وأنشد الأشجع:


ولست بخائف لأبي حسين
ومن خاف الإله فلن يخافا[2] .


قال ابن أبي الحديد في شرحه: وأمّا الحلم والصفح فکان عليّ عليه السلام أحلم النّاس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيئٍ، وقد ظهر صحّة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحکم - وکان أعدي النّاس له وأشدّهم بغضاً - فصفح عنه. وکان عبداللَّه بن الزبير يشتمه علي رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد أتاکم الوغد اللئيم عليّ بن أبي طالب!! وکان عليّ عليه السلام يقول: «ما زال الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتّي شبَّ عبداللَّه»، فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيراً فصفح عنه، وقال: «اذهب فلا أرَينّکَ» لم يزده علي ذلک. وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمکّة، وکان له عدوّاً، فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.

وقد علمتم ما کان من عائشة في أمره، فلمّا ظفر بها أکرمها وبعث معها إلي المدينة عشرين امرأة من نساء عبدالقيس، عَمّمهنّ بالعمائم، وقَلَّدهنّ بالسيوف، فلمّا کانت ببعض الطريق ذکرته بما لا يجوز أن يذکر به، وتأفّفت وقال: هتک ستري برجاله وجنده الّذين وکّلهم بي، فلمّا وصلت المدينة ألقي النساء عمائمهُنّ، وقلن لها: إنّما نحن نسوة.

ثمّ قال ابن أبي الحديد: وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه، فلمّا ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادي مناديه في أقطار العسکر: «ألا لا يُتبع مُولٍّ، ولا يُجهَز علي جريح، ولا يُقتل مستأسر، ومن ألقي سلاحه فهو آمن، ومن تحيّز إلي عسکر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ من أثقالهم ولا سبي ذراريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم»، ولو شاء أن يفعل کلّ ذلک لفعل، ولکنّه أبي إلّا الصفح والعفو، وتقيّل سنّة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يوم فتح مکّة، فإنّه عفا والأحقاد لم تبرد والإساءة لم تُنس.

ثمّ قال: ولمّا ملک عسکر معاوية عليه الماء وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش کما قتلوا عثمان عطشاً، سألهم عليّ عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا[3] لهم شرب الماء، فقالوا: لا واللَّه ولا قطرة حتّي تموت ظمأً کما مات ابن عفّان، فلمّا رأي عليه السلام أنّه الموت لا محالة، تقدّم بأصحابه وحمل علي عساکر معاوية حملاتٍ کثيفة حتّي أزالهم عن مراکزهم بعد قتل ذريع، سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملکوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء - يا أمير المؤمنين - کما منعوک، ولا تَسقهم منه قطرة واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي، فلا حاجة لک إلي الحرب.

فقال: «لا واللَّه، لا اُکافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلک»، فهذه إن نسبتها إلي الحلم والصفح فناهيک بها جمالاً وحسناً، وإن نسبتها إلي الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام.[4] .







  1. فرائد السمطين 68:2، ح 392.
  2. المناقب لابن شهرآشوب 113:2، والبحار 48:41.
  3. وفي نسخة: «يسوّغوا».
  4. شرح ابن أبي الحديد 22:1.