ردّه هديّة الأشعث لأنّها رشوة
ففي أحد الخطب الطويلة في (نهج البلاغة) يقول عليه السلام: «وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَي حَسَکِ السَّعْدَانِ[1] مُسَهَّداً[2] أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً[3] أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْض ِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْ ءٍ مِنَ الْحُطَامِ...». ويشير في أثنائها إلي هذا الموضوع، حيث يقول عليه السلام: «وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِکَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفَوفَةٍ[4] فِي وِعَائِهَا، وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا[5] کَأَ نَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا. فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ[6] أَمْ زَکَاةٌ، أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَذلِکَ مُحْرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ! فَقَالَ: لَا ذَا وَلَا ذَاکَ، وَلکِنَّهَا هَدِيَّةٌ. فَقُلْتُ: هَبِلَتْکَ الْهَبُولُ![7] أَعَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي؟ أَمُخْتَبِطٌ أَ نْتَ أَمْ ذُو جِنَّةٍ، أَمْ تَهْجُرُ.[8] [9] . وقال الشارح المعتزلي: کان أهدي له الأشعث بن قيس نوعاً من الحلواء تأنّق فيه، وکان عليه السلام يبغض الأشعث؛ لأنّ الأشعث کان يُبغضه، وظنّ أنّه يستميله بالمهاداة لغرض دنيويّ کان في نفس الأشعث. وکان أمير المؤمنين عليه السلام يفطن لذلک ويعلمه، ولذلک ردّ هدية الأشعث، ولولا ذلک لقبلها؛ لأنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قَبل الهدية، وقد قبل عليّ عليه السلام هدايا جماعة من أصحابه. ودعاه بعضُ مَن کان يأنسُ إليه إلي حلواء عملها يوم نوروز فأکل وقال: «لِمَ عَمِلْتَ هذا؟»، فقال: لأنّه يوم نوروز، فضحک، وقال: «نَوْرُزوا لنا في کلّ يومٍ إن استطعتم». ثمّ قال ابن أبي الحديد: وکان عليه السلام من لطافة الأخلاق، وسجاحة الشيم علي قاعدة عجيبة جميلة، ولکنّه کان ينفر عن قومٍ کان يعلم من حالهم الشنآن له، وعمّن يحاول أن يصانعه بذلک عن مال المسلمين، وهيهات حتّي يلين لضرس الماضغ الحجر.[10] . وغير ذلک ممّا يظهر التزامه عليه السلام بأحکام الإسلام وحدوده، و سيأتي بعض أمثلته في فصل (عليّ عليه السلام أمام القانون) و(العدل)، و...، فلاحظها.
کان عليّ عليه السلام قويّاً في دينه، لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، لم يداهن ولم يصانع طرفة عين، وإلي القدر الّذي يردّ هديّةً قُدّمت له من أحد عمّاله بقوّة وجرأة ودون أدني تردّد، ولم يکتفِ بردّ الهديّة إذا شمّ فيها رائحة الرشوة، بل ويعنّف مُهديها ويذمّه.