كلمة في قوّة إيمانه











کلمة في قوّة إيمانه



لقد ملأ الإيمان باللَّه کلّ وجود عليّ بن أبي طالب، ولم يکن يقارنه أحد في قوّة الإيمان إلّا رسول اللَّه، فقد بلغ مرحلة اليقين حتّي قال: «لو کُشِفَ الغِطاء ما ازددت يقيناً».[1] .

لم يغفل عليّ عن اللَّه طرفة عين أبداً، فکان المصداق الکامل لقوله تعالي: «أَلَا بِذِکْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»[2] وکان يذوب في ذات اللَّه حتّي ينسي في صلاته کلّ المصاعب والمعضلات، واستخراج النشّابة من رجله مثال لذلک.[3] .

بل هو الّذي يجيب ذلک الحبر الّذي سأله: هل رأيت ربّک؟ بقوله: «ويلک، ما کنت أعبدُ ربّاً لم أره».

ولم يخش عليّ إلّا اللَّه، وکان مؤمناً بأن لا مؤثّر ولا مدبّر إلّا هو، فکان لذلک لا يخاف أيّة قدرة ولا يهاب أيّة دسيسة ومؤامرة، وربّما صرّح بهذه العقيدة کما في محادثته مع قنبر.[4] .

لقد کانت قوّة الإيمان هذه ميهمنة علي عليّ في جميع مراحل حياته وظروفها المختلفة، فلم تتغيّر أيّام ضعفه حين تخاذل النّاس فأصبح جليس الدار، ولم تتغيّر أيّام قوّته وتسنّمه السلطة، ولم يضطرب ولم يتضجّر أيّام عزلته ووحدته، ولم تسکره نشوة الغرور أيّام حکومته، بل کان يئنّ أيّام قوّته آناء الليل أنيناً، يعجب منه مَن يسمعه ويراه بتلک الحالة، وقد ذکرنا ما رآه نوف البکالي وحبّة العرني في بحث (عليّ والعبادة).

بقي جليس الدار خمساً وعشرين سنة فصبر للَّه، وتحمّل المصاعب والشدائد لأجل بقاء دين اللَّه، وقد نفث بهذا الهمّ حين قال: «فَصَبَرتُ وُفي العَيْنِ قَذيً».

وبلغ إيمان عليّ حدّاً أنّه لم يکن للفرار إلي نفسه سبيلاً، وکان يرعب العدوّ في ميدان القتال، ويمنح المؤمنين قوّة واطمئناناً، ومع ذلک فإنّه ينهار أمام أنين اليتيم فلا يملک دموعه.

إنّ عليّاً عليه السلام نصير المظلوم وخصم الظالم، وکلّ ذلک ينبع من عين إيمانه العظيم، وعليّ عليه السلام تلميذ الرسول المطيع، فقد عرف قائده رسول اللَّه جيّداً، فکان مطيعاً له في الحرب والصلح[5] فهو يبيت علي فراش رسول اللَّه ليلة الهجرة، ويفدي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بنفسه في ساحة الحرب... لم يعترض يوماً علي رسول اللَّه، بل لم يسأله في أمر يقرّره قطّ، وقد أشار عليه السلام إلي هذه الحقيقة بقوله: «وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلي الله عليه و آله أَ نِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَي اللَّهِ وَلَا عَلَي رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ».

وهذا الإيمان القويّ والقلب المنير الّذي کان لعليّ هو الّذي جعله ثابتاً ومصرّاً علي إقامة أحکام اللَّه وحدوده، فلم يُلحظ عن عليّ أنّه انحرف عن أحکام اللَّه أدني انحراف، وقد وضع الجميع أمام القانون موضع المساواة، عدوّه وصديقه، القريب والبعيد، وحتّي أولاده وإخوته، ولم يداهن في دين اللَّه قطّ، حتّي وإن أدّي ذلک إلي أن يعاتبه الأقربون والمحبّون، بل کان صارماً في إقامة الدين، وعلي حدّ تعبير ابن أبي الحديد: کان خَشِناً في ذات اللَّه، لم يراقب ابن عمّه في عملٍ کان ولّاه إيّاه، ولا راقب أخاه عقيلاً في کلام جبهه به...[6] .

نعم، لقد ذاب عليّ عليه السلام في ذات اللَّه، وآمن أنّ کلّ شي ء لا يکون إلّا بإذنه، فکان يريد ما أراد اللَّه، ويطلب منه تعالي أن يجري طلبه بإذنه، وعلم أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قد صحّح وأيّد هذه الفکرة، ونشير إلي موارد تبيّن قوّة عمل المقرّبين والأقرباء في فترة حکومته، ليکون القارئ علي بيّنة أکبر من أمر عليّ، وليکون منهجه أمام أعين جميع شيعته ليقتدوا به.

ويظهر من الحديث التالي مراتب إيمانه وکماله ومعرفته باللَّه تعالي، فروي المجلسي عن (توحيد الصدوق) عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «جاء حبرٌ إلي أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيتَ ربّک حين عبدته؟ فقال عليه السلام: «ويلک، ما کنتُ أعبُدُ ربّاً لم أره». قال: وکيف رأيته؟ قال عليه السلام: «ويلک، لا تدرکه العيون في مشاهدة الأبصار، ولکن رأته القلوب بحقائق الإيمان».[7] .







  1. ينابيع المودّة: 65.
  2. سورة الرعد: 28.
  3. شرح النهج للخوئي 152:8.
  4. في ينابيع المودّة: 64، عن جعفر الصادق عليه السلام، قال: «کان قنبر يحبّ عليّاً حبّاً شديداً، فإذا خرج عليّ عليه السلام خرج علي أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة فقال: يا قنبر، ما لک؟ قال: جئت لأمشي خلفک، قال: من أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض، وإنّ أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئاً إلّا بإذن اللَّه من السماء، فارجع، فرجع»، ومن کلامه عليه السلام: «لو کشف الغطاء ما ازددت يقيناً».
  5. ففي روضة الکافي: 217، ح 375، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «کنت اُبايع لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي العسر واليسر، والبسط والکره إلي أن کثر الإسلام، وکثف» الحديث.
  6. شرح ابن أبي الحديد 28:1.
  7. البحار 16:41.