مثل من شجاعته في الغزوات والحروب











مثل من شجاعته في الغزوات والحروب



قال عباس محمود العقّاد في شجاعته عليه السلام في غزوة الخندق: وکان إلي قوّته البالغة شجاعاً لا ينهض له أحد في ميدان مناجزة، فکان لجرأته علي الموت لا يهاب قرناً من الأقران بالغاً ما بلغ من الصولة ورهبة الصيت، واجترأ وهو فتي ناشئ علي عمرو بن عبد ودّ فارس الجزيرة العربيّة الّذي کان يقوم بألف رجل عند أصحابه وعند أعدائه، وکانت وقعة الخندق، فخرج عمرو في الحديد ينادي جيش المسلمين: مَن يبارز؟ فصاح عليّ عليه السلام: «أنا له يا بنيّ اللَّه...»، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وکان به إشفاق عليه: «إنّه عمرو، اجلس».

ثمّ عاد عمرو ينادي: ألا رجلٌ يبرز؟ وجعل يؤنّبهم قائلاً: أين جنّتکم الّتي زعمتم أنّکم داخلوها إن قُتلتم؟... أفلا تُبرزون إليَّ رجلاً؟ فقام عليّ مرّة بعد مرّة وهو يقول: «أنا له يا رسول اللَّه»، ورسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول له مرّة بعد مرّة: «اجلس، إنّه عمرو»، وهو يجيبه: «وإن کان عمراً».. حتّي أذن له، فمشي إليه فرحاً بهذا الإذن الممنوع کأنّه الإذن بالخلاص.

ثمّ نظر إليه عمرو، فاستصغره وأنف أن يناجزه وأقبلَ يسأله: مَن أنت؟...

قال: ولم يزد: «أنا عليّ». قال: ابن عبدمناف؟ قال: «ابن أبي طالب»، فأقبل عمرو عليه يقول: يابن أخي... مِن أعمامک من هو أسنّ، وانّي أکره أن اُهريق دمک.

فقال له عليّ عليه السلام: «ولکنّي - واللَّه - لا أکره أن اُهريق دمک»، فغضب عمرو، وأهوي إليه بسيف کان کما قال واصفوه، کأنّه شعلة نار، واستقبل عليّ الضربة بدرقته فقدّها السيف، وأصاب رأسه، ثمّ ضربه عليّ علي حبل عاتقه فسقط ونهض، وسقط ونهض، وثار الغبار، فما انجلي إلّا عن عمرو صريعاً وعليّ يجأر بالتکبير، وکأنّما کانت شجاعته هذه القضاء الّذي لا يؤسي علي مصابه؛ لأنّه أحجي المصائب وأقلّها معابة ألّا يُدفع، فکانت اُخت عمرو بن عبدودّ تقول علي سبيل التأسّي بعد موته:


لو کان قاتل عمرو غير قاتله
بکيتُه أبداً ما دُمتُ في الأبد


لکنّ قاتلَه من لا نظير له
وکان يُدعي أبوه بيضةَ البلد


فکانت شجاعته من الشجاعات النادرة الّتي يُشرّف بها مَن يُصيب بها ومَن يُصاب، إلي آخر کلامه.[1] .

وقال العلّامة الإحسائي في شجاعته عليه السلام يوم الجمل: روي جابر الأنصاري، قال: شهدت البصرة مع أمير المؤمنين عليه السلام والقوم قد جمعوا مع المرأة سبعين ألفاً، فما رأيت منهزماً إلّا وهو يقول: هزمني عليّ، ولا مجروحاً إلّا يقول: جرحني عليّ، ولا مَن يجود بنفسه إلّا وهو يقول: قتلني عليٌّ، ولا کنت في الميمنة إلّا سمعت صوت عليّ عليه السلام، ولا في الميسرة إلّا سمعت صوت عليّ عليه السلام.

ولقد مررتُ بطلحة وهو يجود بنفسه وفي صدره نَبلة، وقلت له: مَن رماک بهذه النبلة؟ فقال: عليّ بن أبي طالب. فقلت: يا حزب بلقيس، ويا حزب إبليس، إنّ عليّاً لم يرم بالنبل وما بيده إلّا سيفه؟ فقال: يا جابر، أما تنظر إليه کيف يصعد في الهواء مرّة وينزل في الأرض اُخري، وينزل مرّة من قِبل المشرق ومرّة من قِبل المغرب، وجعل المشارق والمغارب بين يديه شيئاً واحداً، فلا يمرّ بفارس إلّا طعنه، ولا يلقي أحداً إلّا قتله أو ضربه أو کبّه بوجهه، أو قال: «مُتْ يا عدوّ اللَّه»، فيموت فلا يفلت منه أحد.[2] .

وبالجملة من مُثل شجاعته، مبيته علي الفراش ليلة الغار معرّضاً نفسه للأخطار لم يخف ولم يحزن، فوقي النبيّ صلي الله عليه و آله بنفسه وفداه بمهجته غير هيّاب ولا متردّد ولا حزين. وخروجه بالفواطم جهاراً من مکّة ولحوق الفوارس الثمانية به لمّا علموا بخروجه حنقين عليه عازمين علي قتله إن لم يرجع راغماً.

وما کان منه في وقعة بدر الّتي بها تمهّدت قواعد الدين وأذلّ اللَّه جبابرة المشرکين وقتل فيها رؤساءهم، وقعت الهيبة من المسلمين في قلوب العرب واليهود وغيرهم، وقد کان عليه السلام في هذه الوقعة قطب رحاها وليث وغاها، بارز الوليد بن عتبة أوّل نشوب الحرب فلم يلبث حتّي قتله، وشارک عمّه حمزة في قتل عتبة، واشترک هو وحمزة وعبيدة في قتل شيبة فأجهزوا عليه، وغير هؤلاء کما أوضحنا في فصل (عليّ يوم بدر)، وما کان من مثل شجاعته في وقعة اُحد أوضحناها في فصل (عليّ عليه السلام في غزوة اُحُد).

ومبارزته مرحباً يوم خيبر وقتله وفتح الحصن ودحو الباب، وخروجه بالراية بعد ما رجع غيره منهزماً يجبّن أصحابه ويجبّونه، أو منهزماً يؤنّب قومه ويؤنّبونه، کما أوضحنا في فصل (عليّ عليه السلام يوم خيبر).

وثباته يوم حنين مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وقد هرب عنه النّاس غير عشرة، تسعة من بني هاشم والعاشر أيمن بن اُمّ أيمن وقتله أبا جرول. وغير ذلک من فتوحات النبيّ صلي الله عليه و آله.

وکذلک ما وقع بعد وفاة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في الجمل وصفّين والنهروان، فاشتهار شجاعته العظيمة فيها قد زاد عن حدّ التصوّر.[3] .







  1. عبقرية الإمام عليّ عليه السلام للعقاد: 17.
  2. المحلّي: 410، نقلاً عن کتاب الإمام عليّ: 451.
  3. مستفاد من أعيان الشيعة 339:1.