ابوبكر الصديق











ابوبکر الصديق



وفي ضوء ما ذکرنا نستطيع ان نقول:

ان عليا کان مهيئا للخلافة بعد الرسول، هذا اذا نظرنا للخلافة من جوانبها الزمنية، وان صلاته بالرسول وبالاسلام، وصلات الاسلام والرسول به تؤهله لذلک.

ولو احتج المسلمون اثناء السقيفة بعد وفاة النبي: «ان عليا کان اقرب الناس اليه، وکان ربيبه، وکان خليفته علي ودائعه، وکان اخاه. بحکم تلک المؤاخاة، وکان ختنه وابا عقبه، وکان صاحب لوائه؛ وکان خليفته في اهله، وکانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسي بنص الحديث عن النبي «ص» نفسه.

لو قال المسلمون هذا کله واختاروا عليا بحکم هذا کله لما ابعدوا ولا انحرفوا.

وکان کل شيء يرشح عليا للخلافة... قرابته من النبي، وسابقته في الاسلام، ومکانته بين المسلمين، وحسن بلائه في سبيل الله، وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في الدين، وفقهه بالکتاب والسنة، واستقامة رأيه»[1] .

وقد لخص ابن حجر العسقلاني اهم خصائص الامام حين قال:[2] .

علي بن ابي طالب.. اول الناس اسلاما في قول کثير من اهل العلم، ربي في حجر

[صفحه 40]

النبي، ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد الا غزوة تبوک، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة:

الا ترضي ان تکون مني بمنزلة هارون من موسي...

وکان لواؤه بيده في اکثر المشاهد. ولما آخي النبي اصحابه قال له: انت اخي. ومناقبه کثيرة حتي قال الامام احمد بن حنبل لم ينقل لاحد من الصحابة ما نقل لعلي.

وقال غيره: کان سبب ذلک بغض بني امية له. فکان کل من کان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته. وکلما ارادوا اخماده وهددوا من حدث بما فيه لا يزداد الا انتشارا...

ولم يزل بعد النبي متصديا لنصرة العلم والفتيا...

ومن خصائص علي قول الرسول يوم خيبر:

لادفعن الراية غدا الي رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله... فدفعها لعلي.

فقال عمر: ما احببت الامارة الا ذلک اليوم...

وبعثه يقرأ براءة علي قريش وقال: لا يذهب الا رجل مني وانا منه..

وقال: علي وليي في الدنيا والاخرة. واخذ رداء فوضعه علي علي وفاطمة وحسن وحسين، وقال:

«انما يريد الله ليذهب عنکم الرجس اهل البيت... الاية»[3] .

ولبس ثوبه ونام في مکانه، وکان المشرکون قصدوا قتل النبي... وقال:

انت ولي کل مؤمن بعدي. وسد الابواب الا باب علي[4] فيدخل المسجد جنبا، وهو طريقه ليس له طريق غيره. وقال:

من کنت مولاه فعلي مولاه.. ولما نزلت هذه الاية: «قل تعالوا ندع ابناءنا

[صفحه 41]

وابناءکم ونساءنا ونساءکم وانفسنا وانفسکم... الاية»[5] دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: اللهم هؤلاء اهلي..

واخرج الترمذي باسناد قوي عن عمران بن حصين في قصة قال فيها رسول الله: ما تريدون من علي؟ ان عليا مني وانا من علي، وهو ولي کل مؤمن بعدي».

فما الذي حال اذن دونه ودون ارتقاء منبر النبي بعد وفاته مباشرة؟

ان الاجابة علي هذا السؤال تستلزم ان يتطرق الباحث الي ذکر ظروف وفاة الرسول؛ وانشغال الامام بتغسيله وتجهيزه ودفنه والصلاة عليه من جهة، وباجتماع الانصار في سقيفة بني ساعدة وموقف عمر بن الخطاب من ذلک کله من جهة اخري، والي قول ذکره عمر، علي ما يظن، وتردد علي ألسنة بعض القرشيين يتضمن کرههم ان تجتمع النبوة والخلافة للهاشميين.

وخلاصة الامر ان الرسول توفي داره بالمدينة سنة 11 هـ وانشغل علي بأمر تغسيله وتکفينه والصلاة عليه. وکان الجو السياسي خارج دار النبي آنذاک نشطا مملوءاً بالمفاجآة والاحداث الجسام، وفي مقدمتها مسألة خليفة الرسول.

اجتمع عمر بأبي عبيدة بمسجد المدينة وتشاورا في امر الخلافة، واجتمع سعد ابن عبادة بسقيفة بني ساعدة يشاور الاوس والخزرج في امر الخلافة ايضا. واجتمعت في اماکن شتي زمر اخري تتحدث في هذا الامر الخطير. علي حين ان الامام عليا قد لازم في دار النبي، وکان منهمکا باعداد الجثمان لوضعه في مثواه الاخير يساعده نفر من اهل البيت المفجوعين، ومنهم ابوبکر[6] .

ومما يلفت النظر ان ابا بکر قد قدم من السنح[7] بعد ان بلغه خبر وفاة الرسول،

[صفحه 42]

فدخل دار النبي في حين ان عمر بن الخطاب قد بقي خارج الدار.

وفي زحمة تلک الظروف طرق باب دار النبي رجل اوفده ابن الخطاب يدعو ابا بکر لمقابلة عمر للتشاور معه في امر عظيم، فخرج ابوبکر والتقي بصاحبه وسارا معا الي السقيفة، حيث اجتمع الاوس والخزرج بسعد بن عبادة.

استمر الامام المفجوع منهمکا في امر الجثمان والالم يحز نفسه علي وفاة الرسول.

وساور العباس عم النبي قلق شديد يتصل بارث النبي، وبالمهة السرية التي قدم عمر متکتما من اجلها للتداول مع ابي بکر دون سواه ممن في الدار، فهم بمبايعة الامام.

غير ان عليا رفض ذلک بشدة احتراما لجلال الموقف الرهيب..

وتقدم ابوسفيان لمبايعة الامام بالخلافة ايضا فنهره... ثلاث مرات...

ويلوح الباحث ان اجتماع الانصار بابن عبادة في السقيفة لم يکن في ابتدائه راميا للاستئثار بتراث النبي بقدر ما کان راميا لتقرير منزلتهم في العهد الجديد.

ومهما يکن الامر فقد رافق اجتماع السقيفة شيء من التأزم والامتعاض، وبخاصة عندما حضره ابوبکر وابوعبيدة بن الجراح، غير انه انتهي بمبايعة ابي بکر علي الشکل المعروف.

وخلاصة ذلک[8] ان الانصار من الاوس والخزرج ـ وفيهم سعد بن عبادة الذي کان مريضا حينذاک ـ قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول مباشرة للتداول في تقرير مصيرهم في العهد الجديد فقال سعد بن عبادة لبعض بنيه:

[صفحه 43]

انه لا يستطيع ان يسمع المجتمعين صوته لمرضه، وامره ان يتلقي منه قوله ويردده علي مسامع الناس، فکان سعد يتکلم ويستمع اليه ابنه، ويرفع صوته بعد ذلک.

قال سعد: يخاطب الحاضرين: «ان لکم سابقة الي الدين، وفضيلة في الاسلام ليست لقبيلة من العرب... ان رسول الله لبث في قومه بضع عشرة يدعوهم الي عبادة الرحمن وخلع الاوثان. فما آمن من قومه الا قليل، حتي اراد بکم خير الفضيلة وساق اليکم الکرامة وخصکم بدينه، فکنتم اشد الناس علي من تخلف عنه، واثقلهم علي عدوه من غيرکم. ثم توفاه الله وهو عنکم راض.. فشدوا ايديکم بهذا الامر فانکم احق الناس واولاهم به».

واتي الخبر عمر فأتي باب منزل النبي واستدعي ابا بکر ـ کما ذکرنا ـ وخرجا الي السقيفة، وخطب ابوبکر في المجتمعين فقال:

«انا معاشر المسلمين المهاجرين اول الناس اسلاما. ونحن عشيرة رسول الله.. وانتم انصار الله.. واخواننا في کتاب الله وشرکاؤنا في الدين، وفيما کنا فيه من خير فأنتم احب الناس الينا واکرمهم علينا.. وانتم المؤثرون علي انفسهم حين الخصاصة، واحق الناس ان لايکون انتقاض هذا واختلاطه علي ايديکم، وانا ادعوکم الي ابي عبيدة: او عمر، فکلاهما قد رضيت لهذا وکلاهما اراه له اهلا، فقال عمر وابوعبيدة: ماينبغي لاحد من الناس ان يکون فوقک.. فأنت احق الناس بهذا الامر.. فقام الحباب بن المنذر من الجموع فقال:

«يا معاشر الانصار املکوا عليکم ايديکم.. والله ما عبدالله علانية الا عندکم، فأنتم اهل الايواء والنصرة. واليکم کانت الهجرة.. فان ابي هؤلاء فمنا امير ومنهم امير».

فقال عمر: هيهات..

فلما رأي بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الانصار من تأمير سعد ابن عبادة، وکان حاسدا له: وکان من سادات الخزرج قام فقال:

[صفحه 44]

«ايها الانصار انا وان کنا ذوي سابقة فانا لم يرد بجهادنا، واسلامنا الا رضا الله وطاعة نبينا.. ان محمدا رجل من قريش وقومه احق بميراث امره.. فاتقوا الله ولاتنازعوهم».

فقام ابوبکر وقال: «هذا عمر وابوعبيدة، بايعوا ايهما شئتم، فقالا: «والله لا نتولي هذا عليک.. ابسط يدک نبايعک».

فلما بسط يده وذهبا يبايعانه.. سبقهما اليه بشير بن سعد فبايعه.. فناداه الحباب ابن المنذر:

«يابشير عقق عقاق، والله ما اضطرک الي هذا الامر الا الحسد لابن عمک».

ولما رأت الاوس ان رئيسا من رؤساء الخزرج قد بايع قام اسيد بن حضير وهو رئيس الاوس فبايع حسدا لسعد ايضا ومنافسة له ان يلي الامة فبايعت الاوس کلها لما بايع اسيد.

وحمل سعد بن عبادة وهو مريض فأدخل الي منزله فامتنع عن البيعة.

ثم خرج الي الشام فاغتيل في اواخر خلافة ابي بکر، وقد اتهم خالد بن الوليد بتدبير مؤامرة الاغتيال.

وبعد الانتهاء من ذلک قصد البراء بن عازب دار النبي وفيها جثمان الرسول وحوله علي واهل بيته فخاطبهم قائلا:

«لقد شهدت ابا بکر بعد السقيفة بعيني: الي يمينه عمر، والي يساره ابن الجراح لا يمر بهم احد ولايمرون بأحد الا قدموا يده ـ شاء ام ابي ـ فمسحوها علي يد ابي بکر»[9] .

تلک قصة السقيفة، وهي قصة لاتخلو من امور واحداث تسترعي انتباه الباحثين

[صفحه 45]

فمن يتصفح اجتماع السقيفة بدقة وامعان ويتأمل النتيجة التي ادي اليها ذلک الاجتماع الذي اسفر عن ارتقاء ابي بکر منبر النبي لا يسعه ان يغفل الدور الحاسم الذي لعبه عمر بن الخطاب في هذا الموضوع الخطير.

ولاندري لماذا احجم ابن الخطاب عن دخول دار النبي والمساهمة في تهيئة الجثمان ووضعه في مثواه الاخير.

ولماذا احجم ثانية عن دخول الدار «حينما رأي اجتماع الاوس والخزرج في السقيفة، للاتصال مباشرة بأبي بکر؟.

لماذا فضل عمر ان يمکث بباب دار النبي ويرسل شخصا غيره يدعو ابا بکر ليقابله خارج الدار؟.

ولماذا اقتصرت المشاورة علي ابي بکر دون سواه من اهل البيت ومن اصحاب الرسول؟.

هل کان وجود ابي بکر داخل دار النبي وبقاء عمر خارجها طليقا يتصل ويفاوض، من الامور التي وقعت مصادفة؟ ام کان موضوعا وفق خطة معينة اتفق عليها الرجلان؟

هل بقي ابوبکر في دار النبي رقيبا علي من فيها لضمان عدم مفارقتها اياها ولمعرفة من يتصل بهم من الاشخاص الموجودين خارجها لتحديد هذا الاتصال في حالة حدوثه، او لمنع حدوثه بمجرد وجوده هناک؟

هل هناک علاقة بين هذه الحادثة، وبين جيش اسامة وقضية الدواة والقرطاس؟

ما هي الامور التي تم الاتفاق عليها بين عمر، وابن الجراح، عندما کانا يتناجيان في مسجد المدينة قبل ان يدعي اليهما ابوبکر؟

لماذا احتج ابوبکر علي الانصار بأفضلية المهاجرين؟

هل کان ابوبکر يعني المهاجرين اطلاقا، ام الذين حضروا السقيفة ـ هو وعمر وابوعبيدة ـ لکسب معرکة الرئاسة؟

واذا کان المهاجرين اولي بميراث النبي ـ من غيرهم ـ لسابقتهم في الاسلام

[صفحه 46]

ولکونهم عشيرة النبي علي حد قول ابي بکر، افلا يصبح الهاشميون اولي من قريش؟ وعلي اولي من الجميع؟ ـ لان مقياس الفضل ـ الذي وضعه ابوبکر في کلمته التي ذکرناها، کان ينحصر في السابقة الي الاسلام وفي القرابة من النبي.

لماذا رشح ابوبکر صاحبيه للخلافة دون سائر المهاجرين؟ ماحقه في ذلک الترشيح؟

ما اثر رضائه عن عمر، وابي عبيدة من الناحية الشرعية؟

الم يکن باستطاعنه ان يدعو الانصار الي مبايعة من يرتضونه من المهاجرين اذا کان لابد من حصر الخلافة في المهاجرين؟

لماذا اقتصر ترشيحه علي عمر، وابي عبيدة؟

ولماذا رفض عمر وابوعبيدة هذا الترشيح؟ ورشحا ابا بکر؟

هل حدث ذلک صدفة ام انه کان جاريا وفق اتفاق سابق؟

هل لتلک الاحداث علاقة بجيش اسامة؟ وبمناجاة عمر وابي عبيدة في مسجد المدينة؟ وباجتماعهما بأبي بکر اثناء المسير الي السقيفة؟

اين کان المهاجرون الاخرون اثناء اجتماع السقيفة.

هل حصل التنابز بين الانصار ـ الاوس والخزرج ـ عفوا؟ ام کانت هناک اياد خفية اثارته في تلک اللحظة الحاسمة من التاريخ؟

هل کان باستطاعة ابي بکر او عمر عن يقترحا علي الانصار تأجيل البت في امر الخلافة الي ما بعد الانتهاء من دفن جثمان الرسول؟

هل لذلک صلة بحديث الدواة والقرطاس. وبجيش اسامة.

تلک اسئلة تسترعي انتباه الباحثين.

وعندي ان الاجابة عليها ذات صلة وثقي بشخصية عمر بن الخطاب، «ان الذي يؤخذ علي ابن الخطاب حقا انه دعا ابا بکر من دار النبي ولم يدع معه احدا من آل الرسول.. وأنه وضع أبا بکر في کفة الترجيح دون مشورة رجل واحد غير أبي عبيد ابن الجراح کأنه وکل بقلوب المسلمين يکشفها، وبألسنتهم يجري عليها الکلام رغم

[صفحه 47]

تخلفه عن کثيرين منهم وسبقهم عليه بالاسلام..

ولقد کانت في الرجل دفعة لامراء، عرفت فيه ابان اسلامه وشرکه.. استبدت به جاهليته ذات ليلة... فأقسم ليمشين الي محمد فيقتله.. تلک کانت دفعة عمر عرفت فيه کبعض خلقه، راضها الاسلام.. ولکنه لم يأت عليها.. حتي في حضرة الرسول کانت تملکه..

وکذلک کان يوم الحديبية.. فان عمر لم يتحر مشورة رجل واحد من المسلمين قبل ان يبعث رسوله الي دار النبي يدعوا صاحبه اليه.. لم يتحر مشورة مسلم واحد في ترشيح الرجل الذي ستصير اليه قيادة الاسلام»[10] .

لقد مر بنا وصف مجمل للظروف التي احاطت بوفاة الرسول وبيعة ابي بکر.

وهناک امر آخر يتعلق اشد التعلق بموضوع تحويل الخلافة من علي اشار اليه الجاحظ فيما يتصل بموقف زعماء قريش من علي بعد وفاة الرسول لابد من ذکره في هذه المناسبة.

فالامام في حروبه مع النبي ضد قريش کان قد وترها کما يقول الجاحظ: «وسفک دماءها وکشف عن منابذها.. وليس الاسلام بمانع من بقاء الاحقاد في النفوس.. هب انک کنت من سنتين او ثلاث جاهلياً..

وقد قتل واحد من المسلمين ابنک او اخاک ثم اسلمت، اکان اسلامک يذهب عنک ما تجده من بغض ذلک القاتل وشنآنه؟..

هذا اذا کان الاسلام صحيحا.. لا کاسلام کثير من العرب ـ فبعضهم تقليدا، وبعضهم للطمع والکسب، وبعضهم خوفا من السيف، وبعضهم عن طريق الحمية والانتصار لعداوة قوم آخرين من اضداد الاسلام واعدائه.

واعلم ان کل دم اراقه رسول الله بسيف علي وبسيف غيره فان العرب بعد

[صفحه 48]

وفاته عصبت تلک الدماء بعلي وحده لانه لم يکن في رهطه من يستحق في شرعتهم وعادتهم ان يعصب به تلک الدماء الا علي وحده»[11] .

يتضح مما ذکرنا ان الذي حال بين علي والخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة، اذا استثنينا النص علي وصيته الذي يقول به فريق من المسلمين، ليس هو شيئا متعلقا بأهليته لتحمل مسئولية هذا المنصب الخطير ولکنه کان، کما رأينا، نتاج ظروف اجتماعية خاصة نتجت عن انشغال الامام بجثمان الرسول وعن تنازع بعض کبار المهاجرين والانصار للاستئثار بتراث الراحل العظيم.

ولو انصف الناس حق الانصاف لارجأوا البيعة حتي يتم لهم مواراة جثمان الرسول.. کان ذلک ادني الي الصواب ـ ان لم يکن هو الصواب ـ ان يترک القوم من المهاجرين والانصار لايتنازعون سلطان محمد بينهم، ومحمد ما زال مسجي علي فراشه لم يغيبه عن عيونهم مثواه»[12] ومهما يکن من الامر فقد نحي الامام علي عن الخلافة، ولکنه مع ذلک، تعاون مع ابي بکر بقلبه ولسانه ويده في جميع الامور التي تتصل بجوهر الاسلام والمحافظة عليه، استمع اليه يقول:

«اما بعد، فان الله بعث محمداً نذيراً للعالمين.. فلما مضي تنازع المسلمون الامر بعده، فوالله ماکان يلقي في روعي ولايخطر ببالي ان العرب تزعج هذا الامر من بعده عن اهل بيته، ولا انهم منحوه عني من بعده، فما راعني الا انثيال الناس علي فلان[13] يبايعونه. فأمسکت بيدي حين رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام...

فخشيت ان لم انصر الاسلام واهله ان اري فيه ثلما او هدما تکون المصيبة به عليّ اعظم من فوت ولايتکم التي هي متاع ايام قلائل»[14] .

[صفحه 49]

ولم يختلف الامام مع ابي بکر او مع الذين جاءوا من بعده الا في الامور التي ساقه اجتهاده الشخصي اليها حرصا علي الاسلام کذلک.

ويتجلي کبر نفس الامام في هذا الباب اذا تذکرنا بعض المواقف الغليظة التي وقفها منه ابوبکر في صدر خلافته، ربما بتأثير من عمر، وبخاصة في قضية ميراث فدک:

«فقد سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب وهو يسير الي دار فاطمة... لطلب البيعة لابي بکر. وهل علي ألسنة الناس عقال يمنعها ان تروي قصة حطب امر به ابن الخطاب فأحاط بدار فاطمة وفيها علي وصحبه!![15] .

وخلاصة قصة فدک: قرية حجازية قريبة من المدينة، سکنها اليهود منذ زمن بعيد وعمروها وزرعوها.

وفي السنة السابعة للهجرة اعلن سکانها خضوعهم للرسول ـ دون حرب ـ فأصبحت فدک خالصة للنبي من دون المسلمين وفق منطوق الاية الکريمة: «وما افاء الله علي رسوله منهم فما اوجفتم عليه من خيل ولا رکاب»[16] .

وقد وهب الرسول فدک في حياته لابنته فاطمة ـ بعد ان غرس فيها بيده الکريمة احدي عشرة نخلة. فکانت السيدة فاطمة هي التي تتصرف بفدک منذ ان وهبها لها ابوها حتي وفاته حيث انتزعها منها ابوبکر بعد توليته الخلافة مباشرة.

وقد اشار الي ذلک الامام في احدي رسائله الي عثمان بن حنيف حين قال:

«بلي کانت في ايدينا فدک من کل ما اظلته السماء فشحت بها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين...»[17] .

[صفحه 50]

فالسيدة فاطمة اذن تستحق ميراث فدک من ناحيتين. هما الميراث والنحلة.

وکان علي الخليفة ـ وقد ارتأي انتزاعها منها ـ ان يبقيها تحت تصرفها مجاملة للرسول ولها، ويقترح ـ في حالة اختلافه معها ـ انفاق بعض غلتها في وجوه الخير التي يتفق عليها الطرفان.

هذا اذا سلمنا جدلا بأنها لاترث ابيها، وان النبي لم يهبها اياها في حياته.

کما کان علي الخليفة کذلک، من الناحية القانونية العرفية، وقد قرر ان ينتزعها من السيدة، ان يستبقيها في يدها الي ان يثبت له عدم احقيتها بها.

ومن الطريف ان نذکر قبل التصدي للبحث في طبيعة النزاع بين الزهراء وابي بکر في قضية فدک، ان فدک بقيت بيد الخلفاء الراشدين.

فلما استولي معاوية علي الملک قسمها مثالثة بين مروان بن الحکم، وعمرو ابن عثمان بن عفان، ويزيد ابنه ـ وهو امر علي جانب کبير من الغرابة ـ غير انها قد اصيحت خالصة لمروان في خلافته فوهبها لابنه عبدالعزيز الذي وهبها بدوره لابنه عمر الذي ردها عند توليته الخلافة، لاولاد فاطمة. وکان رده اياها، علي ما يقول المؤرخون:

اول ظلامة ردها، فلما ولي يزيد قبضها منهم فصارت في ايدي بني مروان، وبقيت کذلک الي سقوط دولتهم.

فما جاء العباسيون ردها السفاح الي اهلها. ثم قبضها المنصور.

وردها ابنه المهدي، وقبضها الهادي والرشيد.

وردها المأمون بعد ان ناظره في امرها شيخ طاعن في السن. ثم قبضها المعتصم

وبعد ذلک ضاعت معالمها علي المؤرخين.

ويلوح مما ذکرنا ان فدک کانت وسيلة بيد الخليفة ان شاء ردها لاهلها، وان شاء قبضها عنهم وفق مزاجه الخاص وحالته النفسية من جهة، وموقف الطالبيين في زمانه من الاحداث السياسية العامة في الدولة من جهة اخري.

[صفحه 51]

ولما کان ارجاع فدک الي ورثة السيدة فاطمة قد حصل في عهد المأمون بشکل يدعو الي التأمل ويشير بصراحة، لا لبس فيها ولاغموض، الي حق السيدة في فدک لذلک نري هنا اثباته هنا بالشکل الذي ذکره البلاذري[18] :

«ولما کانت سنة عشرة ومئتين امر المأمون.. برد فدک الي ولد فاطمة وکتب بذلک الي قثم بن جعفر عامله علي المدينة:

اما بعد، فان المؤمنين بمکانة من دين الله وخلافة رسوله والقرابة به، اولي من استن سنته ونفذ امره وسلم لمن منحه منحة وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته.

وقد کان رسول الله اعطي فاطمة بنت رسول الله فدک وتصدق بها عليها. وکان ذلک امراً ظاهرا معروفا لا اختلاف فيه..

فرأي امير المؤمنين ان يردها الي ورثتها ويسلمها اليهم تقربا الي الله باقامة حقه وعدله والي رسول الله بتنفيذ امره وصدقته.

فأمر باثبات ذلک في دواوينه والکتابة به الي عماله:

فلئن کان ينادي في کل موسم بعد ان قبض الله رسوله أن يذکر کل من کانت له صدقة او عدة ذلک فيقبل قوله وينفذ عدته، ان فاطمة لاولي بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله لها. وقد کتب امير المؤمنين الي المبارک الطبري مولي امير المؤمنين يأمره برد فدک علي ورثة فاطمة بنت رسول الله بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة اليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلک الي: محمد بن يحيي بن الحسين ابن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب، ومحمد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب لتولية امير المؤمنين اياهمها القيام بها لاهلها.

فأعلم ذلک من رأي امير المؤمنين وما الهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب اليه والي رسوله. واعلمه من قبلک.

[صفحه 52]

وعامل محمد بن يحيي ومحمد بن عبدالله بما کنت تعامل به المبارک الطبري واعنهما علي ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها ان شاء الله والسلام».

وقد کتب ذلک في يوم الاربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة 210 هـ وتصدي ابوبکر للرد علي السيدة فاطمة[19] في موضوع فدک من ناحية الميراث الي حديث انفرد بذکره علي مايبدو، هو:

«نحن معاشر الانبياء لا نورث. ما ترکناه صدقة».

وقد انفرد ابوبکر کذلک بذکر حديث آخر عندما اختلف المسلمون في محل دفن النبي فقال: سمعت رسول الله يقول: «ما قبض نبي الا ودفن حيث قبض» في حين ان التاريخ ـ علي ما يذکر الطبري ـ يخبرنا ان الکثيرين من انبياء بني اسرائيل قد دفنوا في غير الاماکن التي قبضوا فيها.

وقد استغربت السيدة من ذلک اشد الاستغراب، وکانت هي دون شک اولي من غيرها بسماعه، لانه يخصها اکثر مما يخص ابي بکر.

کما ان عليا لم يسمعه کذلک بدليل ان فاطمة لم تخرج الي ابي بکر مطالبة بميراثها من فدک الا بعلم منه واذن منه کذلک.

ولاندري لماذا همس الرسول بهذا الحديث الي ابي بکر دون سائر المسلمين.

وقبل ان يصبح ابوبکر طرفا في النزاع علي هذا الميراث الذي يتصل بفاطمة وبنيها اشد الاتصال؟.

ومما يضعف هذا الحديث ـ بنظر فاطمة ـ انه يتنافي هو وکثير من الآيات القرآنية الصريحة في هذا الباب.

[صفحه 53]

فقد جاء في ذکر الميراث بشکل مطلق ـ دون ان يستثني الانبياء من ذلک قوله تعالي في سورة النساء: «يوصيکم الله في اولادکم للذکر مثل حظ الانثيين»[20] .

وجاء في ذکر الميراث الذي وقع بالفعل للانبياء الذين سبقوا محمدا قوله تعالي في سورة النمل: «وورث سليمان دواد وقال يا ايها الناس علمنا منطق الطير واوتينا من کل شيء ان هذا لهو الفضل المبين»[21] .

وخاطب زکريا ربه في سورة مريم «قال رب اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم اکن بدعائک رب شقيا، واني خفت الموالي من ورائي وکانت امرائتي عاقرا فهب لي من لدنک وليا، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا[22] ».

لقد اشارت السيدة فاطمة الي ذلک کله في مناقشتها لابي بکر بمحضر جماعة من الصحابة، ثم ختمت محاورتها مع الخليفة قائلة:

«فدونکها مخطومة مرحولة، تلقاک يوم حشرک... فنعم الحکم الله... والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون...

ياابن ابي قحافة افي کتاب الله ان ترث اباک ولا ارث ابي؟ لقد جئت شيئا فريا، افعلي عمد ترکتم کتاب الله ونبذتموه وراء اظهرکم؟

الم تسمع قوله تعالي: «واولوا الارحام بعضهم اولي ببعض في کتاب الله؟

اخصکم الله بآية اخرج ابي منها؟ ام تقولون: اهلي ملتين لا يتوارثان؟ اولست انا وابي من اهلي ملة واحدة؟ ام انتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من ابي وابن عمي؟».

ولما رأت السيدة فاطمة ان الخليفة مصر علي رأيه ترکت الامر واعرضت عنه. ويلوح للباحث ان السيدة فاطمة کانت عارفة منذ البداية ان الخليفة سوف

[صفحه 54]

لا يعيد لها فدک، وانها ذهبت اليه لالقاء الحجة عليه، ولعل ذلک راجع الي انها لم تعرف من حيث الاساس بشرعية خلافته، فالشخص الذي له القدرة والجرأة علي سلب الخلافة من صاحبها الشرعي بنظرها لهو اقدر علي سلب فدک وامثالها!؟

واذا امعن الباحث في الحديث الذي ذکره ابوبکر في ضوء سيرة الرسول بصورة عامة امکنه ان يقول:

ان الرسول لم يستثن نفسه من الخضوع للقواعد العامة التي جاء بها الاسلام.

فما عرف عنه انه قال: «نحن معاشر الانبياء لا نصلي او لا نصوم.. الخ» فکيف يعزل عن ميراث فدک وحده!

فهل لقضية فدک جانب سياسي؟

هل قصد بذلک اخضاع السيدة فاطمة وزوجها لاوامر الخليفة لارغامها علي الاعتراف بخلافته التي قابلاها بالصدود والامتعاض؟

وهل لهذا الموضوع جانب اقتصادي؟ هل قصد بذلک حرمان علي من التمتع بواردات فدک وهي مورده الوحيد، لکيلا يصبح مکتفيا من الناحية الاقتصادية وليصرفه ذلک عن المطالبة بالخلافة؟

هل لموضوع فدک جانب مالي يتصل بوضع الدولة الاسلامية آنذاک وحاجتها الي المال لمواجهة الذين اتهموا بالارتداد عن دفع الزکاة؟

هل لقضية فدک جانب معنوي يتعلق بمحاولة تضعيف موقف آل النبي عند عامة المسلمين؟ فيقال: ان النبي قد حرمهم کل شيء حتي ميراثه من فدک؟ فتضعف حجتهم بالمطالبة بالخلافة؟ هل لموضوع فدک اکثر من عامل واحد؟ ثم لماذا وضع الرسول ـ ان صح الحديث الذي استشهد به الخليفة ـ صيغته بهذا الشکل من الاطلاق بحيث جعله يشمل معاشر الانبياء کافة؟ ما الهدف الذي کان يرمي اليه الرسول من هذا الحديث!

هل کان يخشي ان تتصرف السيدة فاطمة بعوائد فدک في غير اوجهها السليمة! واذا کان الامر کذلک فلماذا وضعها تحت تصرفها في حياته!!

[صفحه 55]

ويجمل بنا قبل ان نتصدي لبحث فدک من ناحية النحلة ان ننبه القاريء الي اننا عثرنا علي نقاش رائع من حيث الفکرة والاسلوب حصل بين قاضي القضاة والشريف المرتضي ذکره ابن ابي الحديد[23] الاول: ينفي ان يورث الانبياء، والثاني: يثبته.

يدلل الاول ـ علي رأيه بأن ما ورد في القرآن لا يتضمن الا وراثة العلم والفضل.

ويبرهن الثاني ـ علي ان الارث يتضمن المال والعقار او لا، ومن ثم العلم والفضل من باب التجوز؛ وان کلمة ميراث في اللغة، وما يتصل بها من المشتقات تعني بميراث الامور المعنوية من باب التجوز والاتساع، وان الدلالة اذا دلت في بعض الالفاظ علي معني المجاز فلا يجب ان يقتصر عليه، بل يجب ان نحمل معناها علي الحقيقة التي هي الاصل اذا لم يمنع من ذلک مانع. واذا فرضنا جدلا ان الميراث يقتصر علي العلم والفضل، الا يکون آل النبي، بحکم ذلک الميراث، اولي من غيرهم بالخلافة!

ذلک ما يتصل بموضوع فدک من ناحية الميراث.

اما ما يتصل به من ناحية النحلة فقد ذکرت السيدة فاطمة لابي بکر.

ان رسول الله قد وهبها فدک. فطلب الخليفة منها البينة علي ذلک، فقدمت له عليا، وام ايمن ـ مربية الرسول ـ فلم يلتفت الي ذلک وبدا کالمتشکک في شهادة سيدة، قمين بأبي بکر ان يسمو بها عن التشکک[24] .

فليس من المتوقع ان تکذب السيدة فاطمة علي ابيها بعد موته بعشرة ايام فقط، وفي مسألة تافهة کفدک، او ان تکذب ام ايمن العجوز الجليلة التي رافقت الرسول من المهد الي اللحد ـ ام ايمن التي خرجت مهاجرة الي رسول الله من مکة الي المدينة، وهي ماشية وليس معها زاد ـ ام ايمن زوج زيد بن حارثة مولي النبي وام اسامة بن زيد!! او ان يکذب ابن ابي طالب!!

[صفحه 56]

ولاندري کيف فات ابا بکر ان يتذکر ان الله قد انزل قرآنا في علي وفاطمة واذهب عنهما الرجس[25] .

وقد کان المتوقع ان يکتفي الخليفة برواية فاطمة وحدها کما اکتفي ابوها قبل ذلک حين نازعه اعرابي في ناقة ادعي کل منهما انها ناقته.

فشهد خزيمة بن ثابت للرسول فأجاز شهادته وجعلها شهادتين فسمي ذا الشهادتين، ولکن موضوع السيدة فاطمة ـ مع هذا لا يحتاج الي شهود ـ ذلک لانها روت رواية عن ابيها، کما روي ابوبکر رواية اخري.

وان السيدة فاطمة لم تطلب منه البينة علي ما ادعاه علي الرغم من شکها في صحته ـ اما الشهود فموقعهم في الدعوي.

استمع الي قوله تعالي في سورة البقرة:«يا ايها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الي اجل مسمي فاکتبوه... واستشهدوا شهيدين من رجالکم، فان لم يکونا رجلين فرجل وامرأتان»[26] .

والجحة التي نستند اليها في اهمية شهادة فاطمة ان موقفها عند الرسول ـ من حيث صدقها ـ لا يقل، علي اسوأ الفروض، عن موقع خزيمة بن ثابت.

ويصدق الشيء نفسه علي ام ايمن، وابن ابي طالب الذي لم يعرف عنه قط الا اتباع الحق وقول الصدق.

فموقف ابي بکر غريب في بابه: واغرب منه انه ترک سيف رسول الله، ونعله، وعمامته، في يد علي علي سبيل النحلة بغير بينة ظهرت ولا شهادة قامت.

کما انه لم ينتزع من علي الخاتم والسيف اللذين وهبهما له النبي اثناء مرضه.

ولم يطالب کذلک بثياب الرسول التي مات فيها فأخذتها فاطمة بعد موته. ولا بحجر رسول الله التي بقيت بيد نسائه.

[صفحه 57]

ولم يطلب ابوبکر من جابر علي رواية البخاري[27] البينة علي دعواه حين زعم ان رسول الله وعده باعطائه مقدارا معينا من المال، بل سلمه اياه عندما ورده مال من قبل العلاء بن الحضرمي.

کما ان ابا بکر ايضا ام يطلب البينة ـ عندما قدم عليه مال من البحرين ـ من ابي بشير المازني حين ادعي ان النبي قال له اذا جاءنا شيء فائتنا، وانما دفع له حفنتين او ثلاثا من ذلک المال.

واذا کان النبي لايورث، وما ترکه صدقة، فکيف يجوز ان يواري جثمانه في الحجرة التي کانت تسکنها زوجته عائشة بنت الخليفة؟

لان تلک الحجرة قد اصبحت صدقة بعد وفاة الرسول مباشرة بحکم ذلک الحديث».

ثم کيف نوفق بين ذلک الحديث وبين الحديث الآخر الذي انفرد بذکره ابوبکر القائل بأن الانبياء يدفنون حيث يقبضون؟ افي الحديث ناسخ ومنسوخ؟

ثم کيف نفذ الخليفة محتويات «الحديثين» علي تناقضهما؟

وبقدر ما يتعلق الامر بالحديث الثاني يمکننا ان نقول: ان النبي يموت في احد موضعين: ما کان يملکه قبل وفاته! وما کان يملکه غيره من الناس.

ولايجوز ان يدفن جثمانه في المحل الاول لانه اصبح صدقة علي رواية ابي بکر عن النبي، کما لا يجوز دفنه في المحل الثاني لان ملکيته عائدة لغيره.

کيف السبيل الي الخروج من هذا المأزق الحرج؟

ثم کيف جاز لابي بکر نفسه ان يطلب بدفن جثمانه قرب النبي؟ في ارض لاحق له بها من الناحية الشرعية؟.

واذا کان دفن جثمان النبي علي الشکل الذي ذکرناه مستندا الي الحديث الذي ذکره ابوبکر، فالي اي حديث يستند ابوبکر في طلب دفنه بجوار النبي؟

هل قال النبي: يدفن الخليفة الاول قريبا مني؟

[صفحه 58]

کل ذلک غريب في بابه، واغرب منه ان کثيرا من المفسرين قد تکلفوا فيما بعد تفسير آيات الميراث، فزعموا للرد علي من طعن بصحة الحديث بأن الوراثة المذکور في القرآن مقصورة علي العلم والفضل، دون سائر الامور.

ولسنا نعلم کيف يورث العلم والفضل، وهو امر يخالف ما الفه الناس من قديم الزمان، ويتعارض مه ابسط مباديء علم النفس وعلم الاجتماع؟

واغرب من ذلک کله ان الخليفة يحرم السيدة فاطمة ميراث فدک ليطبق الحديث الذي انفرد بذکره في الوقت الذي يخالف فيه حديثا آخر اجمع الرواة علي صحته باعتراف ابي بکر نفسه:

«فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذي الله»[28] .

ولاندري، بالاضافة الي کل ماذکرنا. کيف فات ابا بکر ان يتذکر موقف الرسول من ابي العاص بن الربيع زوج زينب بنت خديجة زوج النبي حين اسر في بدر مع المشرکين.

والي القاريء تلک القصة علي مارواها ابن الاثير[29] .

«وکان في الاساري ابوالعاص بن الربيع بن عبدالعزي بن عبدشمس زوج زينب بنت خديجة[30] .

[صفحه 59]

فما بعثت قريش في فداء الاساري بعثت زينب بفداء ابي العاص زوجها بقلادة لها کانت خديجة ادخلتها معها، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة، وقال:

ان رأيتم ان تطلقوا اسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا، فأطلقوا لها اسيرها وردوا القلادة...

فلما کان قبل الفتح خرج ابوالعاص تاجرا الي الشام بأمواله واموال رجال قريش.

فلما عاد لقيته سرية لرسول الله فأخذوا ما معه وهرب منهم، فما کان الليل اتي الي المدينة فدخل علي زينب.

فلما کان الصبح خرج رسول الله الي الصلاة فنادت زينب من صفة النساء:

«ايها الناس اني قد اجرت ابا العاص.. فقال رسول الله: ان رأيتم ان تردوا عليه الذي له فانا نحب ذلک، واذا ابيتم فهو في الله الذي افاء عليکم وانتم احق به.

قالوا: يا رسول الله نرده عليه، فردوا ماله کله حتي الشظاظ»[31] .

نقول: الم يکن باستطاعة ابي بکر ـ في حالة التسليم معه بأن السيدة فاطمة لا ترث ابيها، وان النبي لم يهب فدکا لها ـ ان يتخذ موقفا کهذا الذي اشرنا اليه؟ مع وجود الفارق الکبير بين الحالتين، فقد وهب المسلمون حقهم لابي العاص المشرک، وکانوا ـ دون شک ـ علي استعداد تام لوهب حقوقهم ـ في حالة التسليم بصحة الاجراءات التي اتخذها الخليفة ـ الي ابنة الرسول. الم يکن تصرف الرسول مع ابي العاص ـ في الحالتين سنة! فهل يعتبر ترک ابي بکر لها ـ في هذه الحالة ـ منسجما مع السنة!!

[صفحه 60]



صفحه 40، 41، 42، 43، 44، 45، 46، 47، 48، 49، 50، 51، 52، 53، 54، 55، 56، 57، 58، 59، 60.





  1. الدکتور طه حسين: «الفتنة الکبري، عثمان بن عفان» 152 و 153.
  2. الاصابة في تمييز الصحابة 2 / 501 و 502.
  3. الاحزاب: 33.
  4. حديث سد الابواب الا باب علي. ذکره السمهودي في وفاء الوفاء. «الناشر».
  5. آل عمران: 61.
  6. ابوبکر لم يکن من المفجوعين بوفاة النبي )ص( ليساعد الامام علي في اعداد جثمان الرسول في مثواه الاخير وانما دخل دار الرسول )ص( ليتطلع الاخبار ويدبر امر الخلافة راجع کتابنا مع رجال الفکر في القاهرة.
  7. السنح ـ بالضم، ثم السکون، وآخره حاء مهملة احدي محال المدينة. کان بها منزل ابي بکر، وهي منازل بني الحارث بن الخزرج، بقوا الي المدينة. 1 هـ «مراصد الاطلاع» لابن عبدالحق البغدادي 2 / 745 طبعة عيسي الحلبي بالقاهرة. «الناشر».
  8. هذه الخلاصة موجودة في امهات کتب التاريخ الاسلامي، وهي هنا ملخصة عن الطبري: تاريخ الامم والملوک.
  9. عبدالفتاح عبدالمقصود )الامام علي بن ابي طالب( 1 / 149.
  10. عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 1 / 184.
  11. ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 283 طبعة اولي.
  12. عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 1 / 184.
  13. کناية عن ابي بکر بن ابي قحافة.
  14. ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 164: 165 الطبعة الاولي بمصر.
  15. عبدالفتاح عبدالمقصود: الامام علي بن ابي طالب 1 / 216.
  16. الحشر: 6.
  17. ابن ابي الحديد: «شرح نهج البلاغة» 4 / 78 الطبعة الاولي بمصر.
  18. فتوح البلدان ص 46 و 47.
  19. وقد امتعضت السيدة فاطمة من موقفه، ولم تکلمه الي ان توفيت ـ بعد وفاة ابيها باثنتين وسبعين ليلة ـ وذکر البخاري في الصحيح ان النبي صلي الله عليه وسلم قال: فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها. «الناشر».
  20. النساء 11.
  21. النمل 16.
  22. مريم 5 و 6.
  23. شرح نهج البلاغة 4 / 78 ـ 103.
  24. عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 1 / 216.
  25. انظر: الاحزاب 33.
  26. البقرة 282.
  27. صحيح البخاري 3 / 180.
  28. اخرجه البخاري في صحيحه. «الناشر».
  29. الکامل في التاريخ 2 / 93 ـ 95.
  30. وامه هالة بنت خويلد اخت خديجة زوج رسول الله، فسألته ان يزوجه زينب ففعل قبل ان يوحي اليه، فلما اوحي اليه آمنت به زينب وبقي ابوالعاص مشرکا، ولم يستطع الرسول في باديء الامر ان يفعل شيئا تجاه زينب المسلمة او زوجها المشرک، فلما هاجر الي المدينة ووقعت بدر واسر ابوالعاص واطلق سراحه کما ذکرنا اخبر النبي بأنه سوف يرسل اليه زينب الي المدينة، فأرسل الرسول زيد بن حارثة مولاه ورجلا آخر من الانصار ليصحبا زينب من مکة. فلما قدم ابوالعاص امرها باللحاق بالنبي ففعلت ذلک. ـ المؤلف ـ.
  31. شظاظ، علي وزن کتاب، وهو خشبة عقفاء تجعل في عروتي الجولقين.