مسالة الوصية











مسالة الوصية



الخلافة ـ بنظر فريق من المسلمين ـ مرکز ديني ودنيوي في آن واحد. فهي دينية من حيث کونها تستند الي تعاليم الاسلام في تصريف شئون الناس فيما يتعلق بصلاتهم في جميع مظاهرها من جهة ومن حيث کون صاحبها معصوما من الخطأ کعصمة الأنبياء عالما بجميع أمور الدين ومن جهة اخري، وهي دنيوية فيما يتصل بکون الخليفة شخصا لا ينزل عليه الوحي؛ وانما هو مکلف، بنص من النبي ووحي من الله بالمحافظة علي تعاليم الدين وتطبيقها علي سنن الحياة والنهوض بالرسالة النبوية وبثها بين البشر کافة.

فالخلافة علي هذا الاساس ظاهرة تأتي بعد مرتبة النبوة مباشرة في القدسية والاهمية؛ فلا غرابة والحالة هذه، علي ما يقول حملة هذا الرأي، ان امر الله نبيه محمدا بالنص علي ولاية خليفته من بعده: وهذا الخليفة هو الامام علي بن ابي طالب غير ان قسما من المسلمين ـ حسب وجهة النظر هذه ـ قد سلب الامام عليا حقه في الخلافة حينما نقلها منه الي غيره من الصحابة، ولکن الامام عليا ـ مع هذا بنظر هؤلاء ـ هو الخليفة الحقيقي للمسلمين بعد الرسول، وان لم يمارس منصبه هذا بحکم طبيعة الظروف التي عاش فيها.

والاساس الذي يستند اليه هذا الفريق من المسلمين في اعتباره الخلافة منصبا دينيا؛ هو ان الرسول، بعد ان فارق الحياة الدنيا تارکا تعاليمه الدينية. کان لابد له من تولية شخص يأتي من بعده في الکفاءة والخلق ليقوم بتصريف امور الناس ـ وذلک لان الغاية من نزول الدين ليست محصورة علي تطبيقه في عهد الرسول وبين قريش او العرب وحدهم، ولابد لتطبيق تعاليمه بعد وفاته من شخص کما ذکرنا، اقرب الناس اليه من حيث فهمه لاصول الدين واتصافه بمتانة الاخلاق.

[صفحه 18]

وليس من المعقول ان يترک امر المسلمين، بعد وفاة الرسول، الي الصدف والظروف في هذه المسألة الحيوية التي يتوقف عليها مصير الشريعة السمحاء من حيث التطبيق والانتشار. وان قصة اختيار المسلمين لخليفتهم بعد النبي، امر علي جانب کبير من الخطر والمجازفة.

فمن هم الذين يوکل اليهم اختيار الخليفة الجديد؟ هل هم جميع المسلمين؟ ام فئة خاصة منهم؟ ما خصائص هذه الفئة؟ هل هي مقصورة علي ابي بکر وعمر وابي عبيدة في باديء الامر ونفر من الانصار اجتمعوا في السقيفة کما سنري؟ اليس استبعاد علي وبني هاشم وسعد بن عبادة وابنه، وسلمان الفارسي، وابي ذر الغفاري، والمقداد بن الاسود، وعمار بن ياسر والزبير بن العوام وخالد بن سعيد، وحذيفة بن اليمان وبريدة وغيرهم «وهم من خيرة اصحاب النبي» بجعل الخلافة، وفي حالة اقتصارها علي رأي فئة خاصة من الصحابة، غير کاملة الشروط؟

هل يمکن ان يتوصل المسلمون الي اختيار افضلهم للخلافة مع ما بينهم من احقاد وعنعنات قبلية جاهلية لم يستأصلها الاسلام کما سنري؟

هل کان الرسول راغبا في اثارة تلک العصبيات؟

کيف يجري اختيار الخليفة: بالتصويت الشفوي؟ ام بالکتابة؟

کم من المسلمين يستطيعون ان يقرأوا ويکتبوا آنذاک؟

اين يجري الانتخاب؟ افي الحواضر والبوادي؟ وکيف يمهد لذلک الانتخاب؟ وکم يستغرق من الوقت؟ وکيف تصرف شئون المسلمين اثناء فترة الانتخاب

تلک اسئلة محيرة...؟

لقد مر بنا ذکر رأي فريق من المسلمين في قضية خلافة الرسول. وقد لخص احد الباحثين موضوع الخلافة والوصية من وجهة النظر هذه بقوله[1] .

[صفحه 19]

«اجمع رسول الله الخروج الي الحج في سنة عشر من مهاجره، وآذن في الناس بذلک. فقدم المدينة خلق کثير يأتمون به في حجته تلک التي يقال عليها: حجة الوداع... ولم يحج غيرها منذ هاجر الي ان توفاه الله...

ولما قضي مناسکه وانصرف راجعا الي المدينة.. ووصل غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، نزل عليه جبرائيل عن الله يقول: «يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليک من ربک[2] ».. وامره ان يقيم عليا علما للناس..

ثم قام الرسول خطيبا.. واخذ بيد علي فرفعها.. فقال: ان الله مولاي وانا مولي المؤمنين.. والولاية لعلي، من کنت مولاه فعلي مولاه[3] .. ثم نزلت الآية: «اليوم اکملت لکم دينکم»[4] .

فقال رسول الله:[ الحمد لله ][5] علي اکمال الدين واتمام النعمة... والولاية لعلي من بعدي».

ومن الطريف ان نذکر هنا ان المقريزي[6] قد اشار الي احتفال قسم من المسلمين القدامي بذکري عيد الغدير حين قال:

«اعلم ان عيد الغدير لم يکن عيدا مشروعا، ولا عمله احد من سالف الامة المقتدي بهم، واول ماعرف في الاسلام بالعراق ايام معز الدولة علي بن بابويه، کان احدثه في سنه اثنتين وخمسين وثلثمائة، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا، واصلهم فيه ماخرجه الامام احمد في مسنده الکبير من حديث البراء بن عازب قال:

کنا مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في سفرتنا فنزلنا بغدير خم ونودي:

[صفحه 20]

الصلاة جامعة، وکسح لرسول الله تحت شجرتين فصلي الظهر، واخذ بيد علي بن ابي طالب فقال: الستم تعلمون اني اولي بالمؤمنين من انفسهم؟ قالوا: بلي.. قال:

من کنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال:

فلقيه عمر بن الخطاب فقال: هنيئا لک يا ابن ابي طالب اصبحت مولي[7] کل مؤمن ومؤمنة. )وغدير خم( علي ثلاثة اميال من الجحفة يسرة الطريق وتصب فيه عين وحوله شجر کثير.

ومن سننهم في هذا العيد وهو ابدا اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ان يحيوا ليله بالصلاة ويصلوا في صبيحته رکعتين قبل الزوال، ويلبسوا فيه الجديد ويعتقوا الرقاب، ويکثروا من عمل البر ومن الذبائح.

ولما عمل الشيعة هذا العيد بالعراق ارادت عوام السنة مضاهدة فعلهم ونکايتهم فاتخذوا في سنة تسع وثمانين وثلثمائة بعد عيد الغدير بثمانية ايام عيدا اکثروا فيه من السرور واللهو وقالوا:

هذا يوم دخول رسول الله الغار هو وابوبکر.

وبالغوا في هذا اليوم في اظهار الزينة.. ولهم في ذلک اعمال مذکورة في اخبار بغداد!!»[8] .

والخلافة. بنظر فريق آخر من المسلمين: مرکز دنيوي صرف من حيث وجوده، وان کان مبنيا علي الدين من حيث الاسس النظرية التي ينبغي ان يسير وفق مستلزماتها، وعلي هذا الاساس فليس هناک نص صريح من جانب الرسول علي توليته خليفة للمسلمين، لانتفاء الضرورة الدينية الي ذلک.

[صفحه 21]

ولهذا السبب نجد بعض المسلمين يجتمعون، بعد وفاة الرسول في سقيفة بني ساعدة[9] کما سنري، لاختيار الخليفة لتسلم هذا المنصب الرفيع. فاختير ابوبکر، ثم عمر، فعثمان، فعلي، فهؤلاء اذن هم الخلفاء الراشدون مرتبون حسب تسلسهم الزمني وحسب منزلتهم الدينية، علي ما يقول حملة هذا الرأي، والحجة التي يستند اليها هذا الفريق من المسلمين هي: ان التعاليم الدينية قد اصبحت کاملة وواضحة بعد وفاة الرسول، ولم تکن هناک ضرورة سماوية لتعيين المشرف علي تطبيقها علي شئون الحياة. وقد وضع هذا الرأي ـ بشکله المعتدل ـ احد الکتاب المعاصرين[10] حين قال: «الخلافة الاسلامية ـ کنظام من نظم الحکم ـ هي في حقيقتها وليدة رأي، وليست وليدة نص ديني ثابت لا يحتمل التأويل. ورسول الله ـ وهو يستقبل ربه ـ لم يوص لأحد بعده بالحکم وصية صريحة، وان بدرت منه في اوقات شتي اشارات وتلميحات تاه اصحابه في تفسيرها عقب وفاته ـ بين الاحتمال والترجيح.

وثمة احاديث فيها من الصراحة ما قد يرسم لنا صورة المستخلف کحديث الغدير[11] وحديث خاصف النعل.

وهناک فريق ثالث من المسلمين وقف ـ في نظرية الخلافة ـ موقفا وسطا بين الفريقين المختلفين، فهو يتفق مع الفريق الثاني في اعتبار الخلافة منصبا دنيويا خالصا وينکر وجود النص الدال بصراحة علي وصية النبي لعلي خليفة للمسلمين من بعده، علي الشکل الذي ذکره الفريق الاول من المسلمين ولکن ـ مع هذا ـ يعتبر عليا اولي بالخلافة من ابي بکر لانه افضل المسلمين علي الاطلاق.

[صفحه 22]

وقد لخص هذا الرأي احد الباحثين حين قال:[12] «اتفق شيوخنا کافة.. علي ان بيعة ابي بکر صحيحة شرعية، وانها لم تکن عن نص وانما کانت بالاختيار الذي ثبت بالاجماع وبغير الاجماع کونه طريقة الي الامامة، واختلفوا في التفضيل.

فقال قدماء البصريين: کأبي عثمان وعمرو بن عبيد: ان ابا بکر افضل من علي.. وهؤلاء يجعلون ترتيب الاربعة في الفضل کترتيبهم في الخلافة.

وقال البغداديون قاطبة ـ قدماؤهم ومـتأخروهم:

ان عليا.. افضل من ابي بکر: والي هذا المذهب ذهب ـ من البصريين ـ ابوعلي محمد بن عبدالوهاب الجبائي، والشيخ ابوعبدالله الحسين بن علي البصري.. وقاضي القضاة ابوالحسن عبدالجبار بن احمد.. وابومحمد الحسن بن متوية..

وذهب کثير من الشيوخ الي الوقف فيهما، وهو قول ابي حذيفة واصل ابن عطاء، وابي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف. وهما وان ذهبا الي التوقف بينه وبين ابي بکر وعمر.. قاطعان علي تفضيله علي عثمان.

واما نحن فنذهب الي ما يذهب اليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليهم»

وقد ذهب الباحث الآنف الذکر، في موضع آخر[13] ، الي القول في موضوع الخلافة: ان الذي استقر عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف کثير بين قدمائهم في التفضيل وغيره:

ان عليا افضل الجماعة، وانهم ترکوا الافضل لمصلحة رأوها، وان لم يکن هناک نص يقطع الغموض وانما کانت اشارة وايماء لا يتضمن شيء منهما صريح النص، وان عليا نازع ثم بايع. ولو اقام علي الامتناع لم نقل بصحة البيعة ولا لزومها.

وبالجملة اصحابنا يقولون:

[صفحه 23]

ان الامر کان له وکان هو المستحق والمتعين، فان شاء اخذه لنفسه، وان شاء ولاه غيره فلما رأينا قد وافق علي ولاية غيره. اتبعناه ورضينا لما رضي».

اي ان هذا الفريق من المسلمين يقول: بأفضلية علي علي ابي بکر وبالتالي بأحقيته بالخلافة دون ان يعترف بالنص علي وصية الرسول له، وذلک تصبح خلافة ابي بکر سابقة لخلافة علي من الناحية الزمنية الواقعية او «دوفاکتو» کما يقول المشرعون المعاصرون» في حين ان خلافة الامام سابقة لها من الناحية الشرعية «دوجوري».

کان موضوع الخلافة وما زال محور الخلاف، واساس الفرقة بين طوائف المسلمين، وقد تفرعت عنه خلافات اخري کثيرة، نظرية وعملية، وما زالت قائمة بين المسلمين منذ وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم الي اليوم.

وتعصب کل فريق لرأيه، واعتبر نظريته في الخلافة هي النظرية السلمية وما عداها فاختلاق وبهتان، وليس امام الباحث من سبيل لتقريب وجهات النظر المختلفة، ذلک، لان التسليم بأحدها يستلزم اهمال النظريتين الاخريين، واذا اغفل الباحث، امر التحدث عن وصية النبي لعلي في الخلافة من بعده علي الشکل الذي يقول فيه فريق من المسلمين ونظرا الي مسألة الخلافة من الناحية الزمنية الصرفة فليس لديه علي ما نري من الادلة القاطعة ما يدعوه الي التسليم بأن الرسول صلي الله عليه وسلم کان قد اهمل امر التفکير فيمن يخلفه من بعده في تصريف شؤون المسلمين، وهنا تتوارد الي الذهن جملة قضايا تاريخية مهمة، وفي مقدمتها قضية «القرطاس والدواة» يقول ابن الاثير[14] :

«اشتد برسول الله مرضه ووجعه فقال: ائتوني بدواة وبيضاء[15] فکان النبي صلي الله عليه وآله وسلم يؤلمه وقوع مثل هذه الاشياء التي تؤول بالامة الي الفرقة بعد الاجتماع، والعداوة بعد الاخاء فأراد صلي الله عليه وآله وسلم ان يقرر مصير الامة وان يجدد موقفها ليقطع بذلک کل طريق يوصل للخلاف المؤدي الي الضلال فقال: ايتوني بدواة... الحديث اراد ان يضع الامة نظاما يسيرون عليه دوما في قضية الخلافة وتحديد الشخصية التي تليق بأن تخلفه في منصبه.

ومن البديهي ومالا يقبل الشک ان عليا هو تلک الشخصية التي تتجسد فيها آمال الامة ولکن حدث ما حدث فما اعظم من ذلک الموقف علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقال لهم متأثرا: ابعد الذي قلتم، ومات والالم يحز نفسه ولکن اراد ان يطوق الامة بواجب لامفر لهم من الالتزام به، الا وهو العناية بأهل بيته فقال صلي الله عليه وآله وسلم: «اوصيکم بأهل بيتي خيرا، الله الله في أهل بيتي واخرجوا اليهود من جزيرة العرب، وهي آخر ما تکلم به صلي الله عليه وآله وسلم کما سيأتي. «الناشر».

اکتب لکم

[صفحه 24]

کتابا لاتضلون بعدي ابدا، فتنازعوا ـ ولاينبغي عند نبي تنازع ـ فقالوا: ان رسول الله يهجر، فجعلوا يعيدون عليه. فقال: دعوني فما انا فيه خير مما تدعونني اليه، فأوصي بثلاث: ان يخرج المشرکون من جزيرة العرب وان يجازي الوفد بنحو مما کان يجيزهم، وسکت عن الثالثة عمدا وقال: نسيتها»، وذکر البخاري[16] فقال: «حدثنا سفيان عن سليمان الاحول عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: اشتد برسول الله وجعه فقال: ائتوني اکتب لکم کتابا لن تضلوا بعده ابدا، فتنازعوا ـ ولاينبغي عند نبي تنازع ـ فقالوا: ما شأنه اهجر؟ استفهموه، فذهبوا يرددون عليه؟ فقال: دعوني فالذي انا فيه خير مما تدعونني اليه، واوصاهم بثلاث قال: اخرجوا المشرکين من جزيرة العرب، واجيزوا الوفد بنحو ما کنت اجيزهم، وسکت عن الثالثة، او قال: فنسيتها.

وحدثنا علي بن عبدالله، حدثنا عبدالرزاق، اخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله

[صفحه 25]

ابن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي البيت رجال، فقال النبي.. هلموا اکتب لکم کتابا لاتضلوا بعده، فقال بعضهم: ان رسول الله قد غلبه الوجع وعندکم القرآن، وحسبنا کتاب الله؟ فاختلف اهل البيت واختصموا. فلما اکثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله: «قوموا».

وذکر ابن سعد[17] : «ان الرسول عندما حضرته الوفاة وکان معه في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلموا اکتب لکم کتابا لن تضلوا بعده، فقال عمر «ان رسول الله قد غلبه الوجع وعندکم القرآن حسبنا کتاب الله؟ فاختلف اهل البيت واختصموا، فلما کثر اللغط والاختلاف... قال النبي: قوموا عني». فما الذي حمل عمر يا تري علي ذلک؟ وهل تجيز آداب المجاملة او العرف او الدين ان يقول عمر: ان الوجع قد غلب النبي وعندنا کتاب الله فهو حسبنا؟ وما قصده بذلک القول؟ وهل يتفق موقف عمر مع قوله تعالي في وصف النبي بأنه: «لا ينطق عن الهوي ان هو الا وحي يوحي»[18] ؟

وممن يلفت النظر حقا في هذا الموضوع الخطير: ان اصحاب النبي ـ علي مايذکر المؤرخون ـ قد سألوه قبيل وفاته عن کثير من الامور التي تبدو بنظرنا اقل وجاهة من موضوع الخلافة؟ فقد سألوه علي ما يحدثنا ابن خلدون[19] : «عن مغسله؟ فقال: الادنون من اهلي، وسألوه عن الکفن؟ فقال: في ثيابي، او ثياب مصر، او حلة يمانية... وسألوه عمن يدخل القبر معه؟ فقال: اهلي». فهل من المعقول ان يغيب عن اذهانهم موضوع الاستفسار عن الخلافة؟ او ان يغفله النبي نفسه؟ ويستطرد ابن خلدون بعد الذي ذکرنا فيقول: المصدر نفسه والصفحة نفسها ـ «ثم قال النبي: ائتوني بدواة وقرطاس، اکتب لکم کتابا لا تضلوا بعده؟ فتنازعوا وقال بعضهم: اهجر؟ ثم ذهبوا يعيدون عليه فقال: دعوني فما انا فيه خير مما تدعونني اليه».

[صفحه 26]

تري ماذا اراد الرسول ان يکتب؟ ولماذا امتنع القوم عن تلبية الطلب؟ هل اراد ان يثبت النص الشفوي علي الخلافة «حسب وجهة نظر بعض المسلمين بالکتابة زيادة في التأکيد، ودفعا للالتباس؟ ثم ايجوز ان يقال: بأن الرسول يهجر في واحدة من ثلاث قالها بالتتابع في آن واحد؟ اي ان الرسول کان يهجر[20] بنظرهم في مسألة الدواة والقرطاس فقط علي حين انه لم يکن کذلک بنظرهم في اخراج المشرکين من جزيرة العرب ومجازاة الوفد بمثل ماکان يجيزهم فيه؟ لقد نفذ أبو بکر الجزء الخاص من وصية الرسول هذه فيما يتصل بجيش اسامة. ومحاربة المشرکين في جزيرة العرب، في حين ان الرسول قال ذلک في الوقت الذي طلب فيه الدواة والقرطاس.

ومن الطريف ان نذکر هنا ان ابن عباس قد روي محاورة طريفة جرت بينه وبين عمر بن الخطاب في اوائل عهده بالخلافة ملخصها: ان عمر قال له: «يا عبدالله عليک دماء البدن ان کتمتها.. هل بقي في نفس علي شيء من امر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: ايزعم ان رسول الله نص عليه؟ قلت: نعم. فقال عمر: لقد کان في رسول الله من امره ذروه من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا، ولقد کان يربع في امره وقتا ما، ولقد اراد في مرضه ان يصرح باسمه فمنعت من ذلک اشفاقا وحيطة علي الاسلام.. فعلم رسول الله اني علمت ما في نفسه فأمسک[21] ». واذا صحت هذه الرواية فان عمر يبدو کأنه احرص علي الاسلام من نبيه وهو امر کان المفروض في عمر ان لا يهبط اليه.

واذا اغفلنا؛ لغرض سهولة البحث بقدر ما يتعلق الامر بموضوع الخلافة من الناحية الدنيوية، امر الاستشهاد بالنصوص التاريخية التي ينفرد بذکرها الفريق

[صفحه 27]

الاول من المسلمين ورکزنا اهتمامنا في النصوص التي يذکرها الفريق الثاني من المسلمين اصبح بمقدورنا ان نجعل دراستنا لهذا الموضوع تسير في هذا المرحلة من مراحلها بالاتجاه التالي:

تري ما الذي حال بين علي والخلافة بمعناها الزمني بعد وفاة الرسول؟ وقبل ان نتصدي للاجابة علي هذا السؤال يجمل بنا ان ننبه القاريء الي ان ليس لدينا من الادلة المقنعة ما يحول بيننا وبين الاعتقاد باندثار کثير من النصوص التاريخية المهمة المتعلقة بالنقطة موضوع البحث بطريقة عرضية، او مقصودة، او بتحريف بعض آخر، او وضع نصوص تاريخية معاکسة وبخاصة في صدر الدولة الاموية.

ولکننا مع هذا تمشيا مع وحدة البحث وعدم تشتيت موضوعه قد اعتمدنا قدر المستطاع علي النصوص التاريخية التي تذکرها امهات کتب التاريخ والسير.

اما حوادث الاعتداء علي الطالبيين باللسان والسيف والقلم منذ وفاة الرسول فتکاد لاتقع تحت حصر فقد اتخذ الوصوليون من رجال الدين والقضاة، والامراء من انتقاص الطالبيين واتباعهم وسيلة يتقربون بها من الفئة الحاکمة في العهدين الاموي، والعباسي!! وقد شجعتهم الفئة الحاکمة بدورها علي ذلک وفي معرض التحدث عن هذا الجانب من جوانب الموضوع يقول احد المؤرخين[22] :

«روي ابوالحسن علي بن محمد بن ابي سيف المدائني في کتاب الاحداث قال:

کتب معاوية الي عماله بعد عام الجماعة ان برئت الذمة ممن روي شيئا من فضل ابي تراب واهل بيته، فقامت الخطباء في کل کورة وعلي کل منبر يلعنون عليا ويبرءون منه ويقعون فيه وفي اهل بيته.

وکتب معاوية الي عماله في جميع الآفاق: الا يجيزوا لاحد من شيعة علي واهل بيته شهادة. وکتب اليهم: ان انظروا من قبلکم من شيعة عثمان ومحبيه، واهل ولايته والذين يرون مناقبه وفضائله فادنوا مجالسهم وقربوهم واکرموهم واکتبوا لي بکل ما يروي کل رجل واسمه، واسم ابيه وعشيرته؟ ففعلوا ذلک حتي اکثروا

[صفحه 28]

فضائل عثمان ومناقبه، لما کان يبعثه اليهم من الصلات.. ثم کتب الي عماله: ان الحديث عن عثمان قد کثر.. فاذا جاءکم کتابي هذا فادعوا الناس الي الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاولين، ولا تترکوا خبرا يرويه احد من المسلمين في ابي تراب الا واتوا بمناقض له في الصحابة.. فقرأت کتبه علي الناس فرويت اخبار کثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.. ومضي علي ذلک الفقهاء والقضاة والولاة».

لقد مر بنا الاستفسار عن العوامل التي حالت بين علي وبين ارتقائه منبر النبي بعد وفاته مباشرة، وللاجابة علي ذلک ينبغي لنا ان نستعرض صفات الامام منذ نشأته الي وفاة الرسول ومواقفه من الرسول، ومن الاسلام، وموقف الرسول منه في حالتي السلم والحرب، عسانا نعثر علي مفتاح قفل الخلافة.

اننا نحاول بعبارة اخري ان نجيب عن السؤالين التاليين:

هل کان الامام کفؤا للخلافة بعد الرسول؟ واذا کان کذلک فما الذي حال بينه وبينها؟.

والبحث في الشق الاول من هذا الموضوع ـ اهلية الامام للخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة ـ يستلزم التطرق الي ظروف ملازمته للدعوة الاسلامية منذ نشوئها. ولابد في هذه المناسبة من الالمام الي موقف ابويه من النبي ومن رسالته قبل ذکر مواقفه هو من الرسول ومن الاسلام في حالتي السلم والحرب. وبما ان مواقف ابي طالب وزوجه فاطمة بنت اسد من النبي معروفة لدي من لهم ادني المام بتاريخ الرسول فاننا سنکتفي بذکر نماذج من ذلک علي سبيل التمثيل لا الحصر: ذکر ابن هشام[23] بصدد التحدث عن صد ابي طالب کفار قريش في صدر الدعوة الاسلامية عن البطش بالرسول «لما رأت قريش ان رسول الله لا يعتبهم من شيء انکروا عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا ان عمه ابا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشي رجال من اشراف قريش الي ابي طالب: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة ابن عبدشمس، وابوسفيان بن حرب بن امية. فقالوا: ياابي طالب، ان ابن اخيک قد

[صفحه 29]

سب آلهتنا وعاب ديننا. فاما ان تکفه عنا واما ان تخلي بيننا وبينه. فنکفيکه؟ فقال لهم ابوطالب قولا رقيقا، وردهم ردا جميلا. ثم انهم مشوا له ثانية فردهم. ثم ان قريشا حين عرفوا ان ابا طالب قد ابي خذلان رسول الله. مشوا اليه بعمارة بن الوليد بن مغيرة فقالوا: يا ابا طالب هذا عمارة بن الوليد: انهد فتي في قريش واجمله.... فخذه واسلم الينا ابن اخيک فقال لبئس ماتسومونني اتعطونني ابنکم اغذوه واعطيکم ابني تقتلونه!» وقال ابن سعد[24] : «لما توفي عبدالمطلب قبض ابوطالب رسول الله. وکان يحبه حبا شديدا لايحب ولده. وکان لاينام الا الي جنبه ويخرج فيخرج معه. وصب به ابوطالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط» ويذکر ابن الاثير[25] في حديث عن موقف ابي طالب في حماية الرسول ضد قريش: ان قريشا عندما رأت الاسلام يفشو ويزيد... وعاد اليهم عمرو ابن العاص... من النجاشي بما يکرهون من منع المسلمين عنهم وامنهم عنده، ائتمروا في ان يکتبوا بينهم کتابا يتعاقدون علي ان لا ينکحوا بني هاشم وبني المطلب ولا يتباعوا منهم شيئا. فکتبوا بذلک صحيفة ثم علقوا الصحيفة في جوف الکعبة توکيدا لذلک الامر علي انفسهم... فأقاموا علي ذلک سنتين او ثلاثا. فاعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب. واقام رسول الله صلي الله عليه وسلم وابوطالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين» فأکلت الارضة الصحيفة واخبر النبي عمه بذلک، «وکان ابوطالب لا يشک في قوله فخرج من الشعب الي الحرم فاجتمع الملأ من قريش» فأخبرهم ابوطالب ان الارضة اکلت صحيفتهم... وانشد:


وقد کان في امر الصحيفة عبرة
متي ما يخبر غـائب القوم يعجب


محا الله منـهم کفرهم وعقوقهم
وما نقموا مـن ناطق الحق معرب


فأصبح ما قالوا من الامر باطلا
ومن يختلق مـا ليس بالحق يکذب


فلا عجب ان اشتد کفار قريش عليه بعد وفاة عمه ابي طالب حتي قال رسول الله

[صفحه 30]

صلي الله عليه وآله وسلم: «ما نالت قريش شيئا مني اکرهه حتي مات ابوطالب»[26] .

والخلاصة کما يقول ابن خلدون[27] : «ان عبدالمطلب جد النبي توفي بعد ولادته بثمان سنين وعهد به الي ابنه ابي طالب فأحسن ولايته وکفالته. وکان شأنه في رضاعه وشبابه ومرباه عجبا. وتولي حفظه وکلاءته من مفارقة احوال الجاهلية وعصمته[28] من التلبس بشيء منها». ثم توفي «ابوطالب وخديجة، وذلک قبل الهجرة بثلاث سنين فعظمت المصيبة واقدم عليه سفهاء قريش بالاذاية والاستهزاء، والقاء القاذورة في مصلاه»[29] .

ذلک ما يتعلق بأبي طالب وموقفه من الرسول ومن دعوته.

اما موقف السيدة فاطمة ام علي فيتضح بما صنعه الرسول عند وفاتها حزنا عليها لما ابدته من عطف عليه وعلي رسالته. فقد تقدم رسول الله عند موت فاطمة بنت اسد زوج ابي طالب وام علي واسبق نساء العالمين الي الاسلام بعد خديجة فألبسها فوق کفنها قميصه، ثم نزل الي القبر فسواه بيده الکريمة فاضطجع الي جوارها فيه»[30] .

ذلک ما يتعلق بالبيت المشبع بالعطف علي النبي والايمان برسالته حيث نشأ ابن ابي طالب وترعرع متنقلا بينه وبين بيت الرسول نفسه وفي کنف السيدة خديجة ام المؤمنين.

اما اذا نظر الباحث الي مواقف الامام نفسه في حماية الدعوة الاسلامية وصاحبها من مؤامرات کفار قريش، تلک المواقف التي دلت علي کفاءته لتسلم خلافة الرسول بعد وفاته من جهة، والتي اهلته بدورها لتسنم ذلک المنصب الرفيع

[صفحه 31]

من جهة اخري. فانه يجد تلک المواقف المشرفة کثيرة العدد «تتزاحم بالمناکب وتتدافع بالراح» بحيث يصبح امر الموازنة بينها «لاختيار بعضها للاستشهاد به» من اصعب الامور. وقبل ان نتطرق الي ذکر اهمها يجمل بنا ان نشير الي الظروف الخاصة التي ربطت بين علي والاسلام من جهة، وبينه وبين النبي من جهة اخري، وبقدر ما يتعلق الامر بصلة الاسلام بعلي، او صلة علي بالاسلام يمکننا ان نقول مع العقاد: «لقد ملأ الدين الجديد قلبا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة، ولم يخالطه شوب بکدر صفاءه ويرجع به الي عقابيله، فبحق ما يقال: ان عليا کان المسلم الخالص علي سجيته المثلي، وان الدين الجديد لم يعرف قط اصدق اسلاما منه ولا اعمق نفاذا فيه»[31] .

فقد بعث النبي علي مايقول الدکتور طه حسين: وعلي عنده صبي فأسلم.. وظل بعد اسلامه في حجر النبي يعيش بينه وبين خديجة ام المؤمنين وهو لم يعبد الاوثان قط.. فامتاز بين السابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة. وامتاز کذلک بأنه نشأ في منزله الوحي بأدق معاني هذه الکلمة»[32] .

اما الآثار العميقة التي ترکتها هذه البيئة الاسلامية الصافية في الامام ـ في عقله، وقلبه، ولسانه، ويده ـ فتعتبر من اوليات الامور المسلم بها عند الباحثين الحديثين في علم النفس، وعلم الاجتماع. واما اروع مواقفه في نصرة الاسلام ونبيه وصدي ذلک عند الرسول وموقف الرسول منه فيتجلي فيما يلي: ـ

1 ـ في مبيته في فراش النبي يوم ازمع کفار قريش علي قتله، الامر الذي اضطره الي الهجرة من مکة الي المدينة. وفي معرض التحدث عن ذلک يقول ابن هشام: ان رسول الله امر عليا قبل هجرته ان ينام علي فراشه ويتسجي ببردة الحضرمي الاخضر بعد ان اخبره بخروجه من مکة تفاديا لبطش کفار قريش، اي ان قريشا بعبارة اخري لما علمت «ان رسول الله قد صار له شيعة وانصار من غيرهم.. وانه مجمع علي اللحاق بهم.. تشاوروا ما يصنعوه في امره،

[صفحه 32]

واجتمعت لذلک مشيختهم في دار الندوة عتبة، وشيبة وابوسفيان من بني امية.. فتشاوروا في حبسه او اخراجه عنهم، ثم اتفقوا علي ان يتخيروا من کل قبيلة منهم فتي شابا جلدا فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبدمناف علي حرب جميعهم. واستعدوا لذلک من ليلتهم... فلما رأي ارصادهم علي باب منزله امر علي بن ابي طالب ان ينام علي فراشه ويتوشح ببرده»[33] .

وقد امر النبي عليا «ان يتخلف بعده بمکة حتي يؤدي عنه الودائع التي کانت عنده للناس... فأقام علي بمکة ثلاث ليال وايامها حتي ادي عن رسول الله الودائع... حتي اذا فرغ منها لحق برسول الله»[34] فقطع الامام المسافة بين مکة والمدينة وحده ماشيا حتي ورمت قدماه[35] .

2 ـ مؤاخاة الرسول له حين آخي بين اصحابه من المهاجرين والانصار حيث اخذ بيد علي بن ابي طالب وقال: هذا اخي»[36] .

3 ـ في دفاعه عن الاسلام ونبيه ـ اثناء حروبه ضد الکفار ـ وبخاصة في موقعة احد حيث تعرض الرسول ورسالته لاعظم محنة عسکرية... وقد ناول علي سيفه لفاطمة عند رجوعه من احد قائلا:

«فوالله لقد صدقني اليوم.. کما صدق سهل بن حنيف سيفه کذلک علي ما ذکر الرسول، ثم انشد يقول:


افاطم هاک السيف غــير ذميم
فلست برعديد ولا بـمليم


لعمري لقد قاتلت في حب احمد
وطاعة رب بالعباد رحيم

[صفحه 33]

وسيفي بکفي کالشهاب اهزه
اجد به من عائق وحميم[37] .


4 ـ في ارساله من قبل النبي الي مکة عندما نزلت سورة براءة.. «حدثني محمد ابن الحسين قال:

حدثنا احمد بن المفضل قال: حدثنا اسباط عن السدي قال:

«لما نزلت هذه الايات الي رأس الاربعين يعني: من سورة براءة فبعث بهن رسول الله مع ابي بکر وامره علي الحج، فلما صار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة اتبعه بعلي فأخذها منه. فرجع ابوبکر الي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله بأبي انت وامي انزل في شأني شيء؟؟ قال: لا، ولکن لا يبلغ عني غيري او رجل مني...»[38] .

5 ـ في خروجه الي اليمن مبعوثا من قبل النبي «وکان ارسل قبله خالد ابن الوليد اليهم يدعوهم الي الاسلام فلم يجيبوه. فأرسل النبي عليا وامره ان يعقل خالدا ومن سار من اصحابه ففعل. وقرأ علي کتابا من رسول الله علي اهل اليمن، فأسلمت همدان کلها في يوم واحد...»[39] .

6 ـ في موقف النبي منه في غزوة تبوک حيث خلفه علي اهله في المدينة عندما تخلف فيها عبدالله بن ابي المنافق فيمن تبعه من اهل النفاق»[40] وقد قال الامام ابوالحسن مسلم بن الحجاج في صحيحه[41] :

[صفحه 34]

«حدثنا يحيي بن يحيي التميمي وابوجعفر محمد بن الصباح وعبدالله القواريري وسريح بن يونس.. عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن ابي وقاص عن ابيه قال:

قال رسول الله لعلي: انت مني بمنزلة هارون من موسي غير انه لا نبي بعدي.

وحدثنا ابوبکر بن شيبة عن سعد بن ابي وقاص قال:

خلف رسول الله عليا في غزوة تبوک. فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ قال: اما ترضي ان تکون مني بمنزلة هارون من موسي؟ غير انه لا نبي بعدي؟».

7 ـ في موقف النبي منه في غزوة خيبر. قال الامام مسلم في صحيحه:

«حدثنا قتيبة بن سعيد... عن ابي هريرة ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لاعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله... قال عمر بن الخطاب:

ما احببت الامارة الا يومئذ. قال: فتساورت لها رجاء ان ادعي لها. قال: فدعا رسول الله صلي الله عليه وسلم علي بن ابي طالب فأعطاه اياها»[42] .

وهناک امور اخري تتصل بأهلية الامام لتولي منصب الخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة لا بد من ذکرها في هذه المناسبة:

أ ـ تفهمه جوهر الدين الاسلامي والمامه به من جميع اطرافه وايمانه به ايمانا صافيا،بيده، وقلبه، ولسانه، فقد کان علي محظوظا من دون الصحابة بخلوات کان يخلوها مع رسول الله «ص» لا يطلع احد من الناس علي ما يدور بينهما، وکان کثير السؤال للنبي عن معاني القرآن... واذا لم يسأل ابتدأه النبي بالتعليم والتثقيف، ولم يکن احد من اصحاب النبي کذلک، بل کانوا اقساما، فمنهم من يهابه ان يسأله، وهم الذين يحبون ان يجيء الاعرابي او الطاريء فيسأله وهم يستمعون.

[صفحه 35]

ومنهم من کان بليداً بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث.

ومنهم من کان مشغولا عن طلب العلم، وفهم المعاني اما بعبادة او دنيا.

ومنهم المبغض الشانيء الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته بالسؤال عن دقائقه وغوامضه»[43] .

ب ـ اشراک الرسول اياه في تنفيذ اوامره المهمة التي تتصل بجوهرة العقيدة الاسلامية واعتماده عليه في المواقف الحاسمة من تاريخ التبشير بالدعوة الاسلامية، فکأن الرسول اراد بذلک تدريبه وتهئيته لتولي شئون المسلمين من بعده.

يقابل ذلک من الناحية الثانية ان الرسول لم يعهد لکبار الصحابة وفي مقدمتهم ـ ابوبکر وعمر ـ بأمثال تلک الامور الخطيرة.

ومما يؤيد وجاهة ما ذهبنا اليه ان ابا بکر قد قام اثناء خلافته بعمل مشابه لما ذکرنا فيما يتصل بعمر بن الخطاب الذي ولي الخلافة من بعده فقد هيأه الي تسنم کرسي الخلافة من بعده عن الطريق ايداعه له کثيرا من الامور المهمة المتصلة بسياسة الدولة العليا.

ج ـ وهناک امر ثالث يتصل بترشيح الرسول عليا للخلافة من بعده، ويتعلق هذا الامر بقضية جيش اسامة. وتفصيل ذلک علي ما يقول ابن سعد[44] :

«ولما کان يوم الاثنين لاربع ليال بقين من صفر سنة احدي عشرة من مهاجر رسول الله: امر رسول الله بالتهيؤ لغزو الروم، فلما کان من الغد دعا اسامة ابن زيد فقال:

«سر الي موضع مقتل ابيک فأوطئهم الخيل، فقد وليتک هذا الجيش، فأغر صباحا علي اهل ابني[45] وحرق عليهم واسرع السير وتسبق الاخبار، وان ظفرک الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معک الادلاء وقدم العيون والطلائع امامک».

[صفحه 36]

فلما کان يوم الاربعاء بديء برسول الله فحم وصدع. فلما اصبح يوم الخميس عقد لاسامة لواءاً بيده، ثم قال:

«اغز باسم الله، فقاتل من کفر بالله».

فخرج بلوائه معقودا فدفعه الي بريدة بن الحصيب الاسلمي وعسکر بالجرف[46] مع وجوه المهاجرين والانصار، فيهم ابوبکر وعمر وابوعبيدة... فتکلم قوم وقالوا: ايستعمل هذا الغلام علي المهاجرين الاولين؟ فغضب الرسول غضبا شديدا، فخرج وقد عصب علي رأسه عصابة... فصعد المنبر... وقال:

اما بعد ايها الناس فما مقالة قد بلغتني عن بعضکم في تأميري اسامة، ولئن طعنتم في امارة اسامة لقد طعنتم في امارة أبيه من قبله. وايم الله ان کان للامارة لخليقا، وان ابنه من بعده لخليق للامارة ان کان لمن احب الناس الي وانهما لمحلان لکل خير، فاستوصوا به خيرا فانه من خيارکم».

ثم نزل فدخل بيته وذلک يوم السبت لعشر خلون من ربيع الاول... وثقل رسول الله وجعل يقول:

«انفذوا بعث اسامة».

فلما کان يوم الاحد اشتد برسول الله وجعه فدخل اسامة معسکره والنبي مغمور مغمي عليه.. فطأطأ اسامة فقبله ورسول الله لايتکلم فجعل يرفع يديه الي السماء ثم يضعها علي اسامة، قال:

فعرفت انه يدعو لي، ورجع اسامة الي معسکره فأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الرکوب... توفي رسول الله...» أي ان رسول الله قد بعث قبيل وفاته ببضعة ايام بعثا الي الشام واميرهم اسامة بن زيد مولاه... واوعب مع اسامة

[صفحه 37]

المهاجرون الاولون منهم ابوبکر وعمر، فبينما الناس علي ذلک ابتدأ رسول الله مرضه... فتأخر مسير اسامة... فخرج النبي عاصبا رأسه من الصداع... وامر بانفاذ جيش اسامة...

وخرج اسامة فضرب بالجرف: العسکر وتمهل الناس وثقل رسول الله... ولم تشغله شدة مرضه عن انفاذ امر الله»[47] اي ان الرسول عند رجوعه من حجة الوداع علي ما يقول ابن خلدون[48] :

«ضرب علي الناس... بعثا الي الشام وامر عليهم مولاه اسامة بن زيد بن حارثة. امره ان يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم الي الاردن من ارض فلسطين ومشارف الشام فتجهز الناس واوعب معه المهاجرون الاولون ـ فبينما الناس علي ذلک ابتدأ رسول الله بشکواه التي قبضه الله فيها...

وخرج رسول الله عاصبا رأسه من الصداع وقال:

لقد بلغني ان اقواما تکلموا في امارة اسامة، ان يطعنوا في امارته لقد طعنوا في امارة ابيه من قبله، وان کان ابوه لحقيقا بالامارة وانه لحقيق بها. انفروا».

غير ان جيش اسامة لم يصدع بامر النبي علي الرغم من الحاح الرسول علي تنفيذ امره.

وقد ذکر اسامة نفسه انه: «لما ثقل رسول الله هبطت انا ومن معي الي المدينة فدخلنا عليه وقد اصمت[49] فلا يتکلم، فجعل يرفع يده الي السماء ثم يضعها عليّ فعلمت انه يدعو لي»[50] .

والغريب في الامر هو: الحاح الرسول علي ضرورة مسير جيش اسامة الي

[صفحه 38]

الوجهة التي وجهها اياه علي الرغم من مرضه، واعجب من ذلک هو تلکؤ القوم وتملصهم عن تنفيذ امر النبي، فکأن هناک امرا خفيا يتنازع عليه الطرفان.

تري لماذا الح الرسول علي إنفاذ الجيش في تلک اللحظة الحاسمة من حياته؟

لماذا وضع في الجيش کبار الصحابة وفي مقدمتهم ابوبکر وعمر واستثني علي بن ابي طالب؟.

ولماذا جعل اسامة قائدا للجيش رغم احتجاج کبار الصحابة؟

لماذا احجم القوم عن تنفيذ اوامره؟

هل رغب الرسول في اخلاء الجو لعلي؟ وشعر القوم بذلک فأحجموا؟

تلک اسئلة محيرة دون شک.

ثم هل هناک من صلة بين مسألة جيش اسامة وبين رواية الدواة والقرطاس؟

ومما يجعل هذا الامر المعقد اکثر تعقيدا، هو: ان الرسول قد فقد قدرته علي النطق قبيل وفاته[51] واثناء الانشغال بجيش اسامة، ولکن اشارته باليد الي اسامة ابلغ وسيلة للتعبير عن رغبته في انفاذ ذلک الجيش الذي لو نفذ لتغير مجري التاريخ الاسلامي تغيرا کبيرا.

[صفحه 39]



صفحه 18، 19، 20، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 27، 28، 29، 30، 31، 32، 33، 34، 35، 36، 37، 38، 39.





  1. عبدالحسين احمد الاميني النجفي «الغدير في الکتاب والسنة والادب» الطبعة الاولي مطبعة الغري في النجف؛ 1945 م، ص 8 ـ 11.
  2. المائدة: الاية 67.
  3. انظر «عبقات الانوار» مجلد حديث الولاية.
  4. المائدة: الاية 3.
  5. ما بين المعقوفين سقط من الاصل. )الناشر(.
  6. الخطط 1/ 288 ـ 389.
  7. وفي نسخة: مولاي ومولي.. الخ. )الناشر(.
  8. يراجع: سيرة ابن هشام، والسيرة الحلبية، والبخاري، وعيد الهجرة: في ربيع الاول.
  9. السقيفة اسم لايوان کبير کانت تجتمع فيه العرب في الجاهلية للمشورة والمداولة بالامور الباطلة، ومجازا يطلق علي الکلام التافه، انظر غياث اللغات طبعة الهند، مادة «سقف» )الناشر(.
  10. عبدالفتاح عبدالمقصود ـ الامام علي بن ابي طالب ـ لجنة النشر للجامعين بالقاهرة 1953 م، ج 5 ص 104.
  11. راجع الغدير للشيخ الاميني صدر منه 11 جزءاً طبع في العراق وايران ولبنان.
  12. ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة ـ 1 / 3 الطبعة الاولي.
  13. شرح النهج 2 / 572 الطبعة الاولي طبعة مصر. )الناشر(.
  14. الکامل في التاريخ: 2 / 217.
  15. قضية ايتوني بدواة وبيضاء: ان النبي صلي الله عليه وآله وسلم علم وهو في مرض موته ما حدث في المجتمع الاسلامي من تطورات ووقوع احداث يخشي علي الاسلام منها فقد کثرت القالة حول الخلافة من بعده من تنفيذ امره «بغدير خم» او يعود الامير للمجتمع في الاغلبية الساحقة التي تعارض تلک الفکرة وهل هناک مجموعة تسعي لکسب الاکثرية لاخذ الحکم وما هو موقف الانصار وکبار الصحابة من هذا الامر... الخ.
  16. صحيح البخاري 5 / 137 و 138 طبع مصر.
  17. الطبقات الکبري 4 / 60 ـ 61.
  18. النجم: 3 و4.
  19. کتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاکبر 2 / 297.
  20. قال ابن الاثير في النهاية 5 / 246 في مادة هجر؟ الهجر بالضم هو الخنا والقبيح من القول ومنه حديث مرض النبي صلي الله عليه وآله وسلم: ما شأنه: اهجر؟.. والقائل کان عمر. «الناشر».
  21. ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 3 / 97 وذکر هذا الخبر احمد ابن ابي طاهر صاحب کتاب «تاريخ بغداد» في کتابه مسندا.
  22. ابن ابي الحديد شرح النهج 3 / 16 الطبعة المصرية الاولي.
  23. سيرة النبي محمد 1 / 276 ـ 279.
  24. الطبقات الکبري 1 / 101.
  25. الکامل في التاريخ 2 / 59 ـ 62.
  26. ابن الاثير «الکامل في التاريخ» 2 / 59 ـ 63.
  27. کتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاکبر 2 /171.
  28. يذهب الشيعة الامامية الي من عصمة النبي )ص( ذاتية «الناشر».
  29. المصدر نفسه 2 / 179 و 180.
  30. عبدالفتاح عبدالمقصود: الامام علي بن ابي طالب 1 / 70.
  31. عبقرية الامام: للعقاد ص 13.
  32. الفتنة الکبري: عثمان بن عفان ص 151.
  33. سيرة النبي محمد: لابن هشام 2 / 95.
  34. ابن خلدون: کتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاکبر 2 / 187.
  35. ابن الاثير: الکامل في التاريخ 2 / 75.
  36. ابن هشام: سيرة النبي محمد 2 / 95 و 98 و 111.
  37. الطبري: «تاريخ الامم والملوک» 3 / 154 والمسعودي «مروج الذهب» 2 / 284.
  38. الطبري: «تاريخ الامم والملوک» 3 / 154.
  39. ابن الاثير: الکامل في التاريخ 2 / 25.
  40. ابن الاثير: الکامل في التاريخ 2 / 70.
  41. صحيح مسلم 2 / 323.
  42. «صحيح مسلم» 2 / 324.
  43. ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة 3 / 17 طبعة مصر الاولي.
  44. الطبقات الکبري لابن سعد 4 / 3 و4.
  45. کذا وجدناه في المطبوع.
  46. الجرف بالضم ثم السکون محل بينه وبين المدينة ثلاثة اميال من ناحية الشام، قاله: في مراصد الاطلاع طبعة عيسي الحلبي بالقاهرة 1 / 326. «الناشر».
  47. ابن الاثير «الکامل في التاريخ» 2 / 215.
  48. کتاب «العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في ايام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاکبر» 2 / 265.
  49. هذا مخالف لرأي اکثر العامة والخاصة، لانهم ذکروا ان النبي )ص( کان يتکلم الي حين وفاته. «الناشر».
  50. ابن الاثير، المصدر نفسه.
  51. راجع تعليقنا علي هامش الصفحة المتقدمة من ان النبي )ص( لم يکن ليفقد قدرته علي الکلام. «الناشر».