معاوية في الميزان











معاوية في الميزان



کل شيء في الحياة الانسانية هين اذا هان الخلل في موازين الانسانية. وانها لاهون من ذلک اذا جاوز الامر الخلل الي انعکاس الاحکام وانقلابها من النقيض الي النقيض. فمن الناس من يحب ان تتغلب المنفعة علي الحقيقة او علي الفضيلة... لانه يرجع الي طبيعته فيشعر بحقارتها اذا غلبت مقاييس الفضائل المنزهة والحقائق الصريحة، ولانه يکره ان يدان الناس او تقاس الاعمال بمقاييس المثل العليا فيلوم نفسه ولايقدر علي التماس المعذرة لها في نقيصتها او في طبيعتها التي لافکاک منها.

وليس ابغض الي الإنسان من احتقاره لنفسه؛ وليس احب اليه من اعتذاره لها عن حقيقتها. إنه يتعصب في کل شعور يدفع به النقص ويمهد به العذر وينفي به الاضطرار الي الاقرار بسبق السابقين له، وارتفاع المرتفعين عليه.

وإنه ليعترف بالجهل اذا استطاع ان يدعي لنفسه تعلة يسمو بها علي اهل المعرفة.

وإنه ليعترف بالعجز اذا استطاع ان ينزل بالقادرين الي «مستواه» بخديعة من خداع النفس.

وإنه ليعترف بالرذيلة اذا استطاع ان يلوث الفضيلة التي يمتاز بها عليه ذوو الفضائل البينة... ويکفي ان ينسب الي العظيم المثالي عمل من الاعمال التي لايقدر عليها النهاز ولايسعي اليها ليشعر النهاز بالاختلاف والجفوة بينه وبين ذلک العمل العظيم المثالي... ويضطره الي ذلک وقوفه بين طريقين:

أحدهما غريب يصغره في نظر نفسه، والآخر مألوف يطرقه کل يوم.

واذا لم يرجح من اخبار فترة النزاع بين علي ومعاوية بعد مقتل عثمان الا الخبر الراجح

[صفحه 213]

عن لعن علي علي المنابر بأمر معاوية لکان فيه الکفاية لإثبات ما عداه مما يتم به الترجيح بين کفتي الميزان.

فإن الذي يعلن لعن خصمه علي منابر المساجد لا يکف عن کسب الحمد لنفسه في کل مکان وبکل لسان، ولو لم يرد من اخبار تلک الفترة الا ان معاوية کان يغدق الاموال علي الاعوان ومن يرجي منهم العون لکان لعن خصمه علي المنابر کافيا للإبانة عما صنعه لکسب الثناء عليه وإسکات القادحين فيه.

ولکن اخبار الاموال المبذولة لتغيير الحقائق في هذه الفترة تفيض بها کتب المادحين والقادحين ومن لايمدحون ولايقدحون.

جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الإمام احمد بن حنبل أنه سأل أباه عن علي ومعاوية؟ فقال:

اعلم ان علياً کان کثير الاعداء، ففتش له اعداؤه عيباً فلم يجدوا، فجاءوا الي رجل قد حاربه وقاتله فأطروه کياداً منهم له[1] .

وقتل عثمان فانقسمت الرقعة الإسلامية قسمين: أحدهما لا خلاف فيه وهو الشام حصة معاوية، والآخر لا وفاق فيه وهو حصة عليّ من الحجاز والعراق، وقد تدخل مصر فيها حيناً وتخرج منها اکثر الاحايين..

فکانت أعباء الخلافة کلها علي علي, وکانت احوال الملک کلها مع معاوية، مواتية له، محيطة به فيما يريد.. وفيما لا يريد.

کان الناس مع علي ينظرون الي سنة الرسول.

وکان الناس مع معاوية ينظرون الي هرقل وکسري...

[صفحه 214]

فکان المجتمع الإسلامي مجتمعين.. افترقا غاية افتراقهما في النزاع بين علي ومعاوية.

فکان علي يکبح تياراً جارفا لا حيلة في السير معه ولا في دفعه.

وکان معاوية يرکب ذلک التيار رخاء سخاهم بغير مدافعة وبغير حيرة...

وسبب آخر من اسباب الولع بالحديث عن الدهاء انه اصبح کفؤاً للشجاعة او راجحاً عليها في موازين الصفات الاجتماعية.

فإذا عيب رجل من رجالهم بقلة الشجاعة وجد العزاء ـ وفوق العزاء ـ بشهرة الدهاء.

فالدهاء عندهم مزية وضرورة وعزاء وغطاء للخوف والجبن..

لقد کانوا يطلقون الدهاء علي کل وسيلة غير صريحة يبلغ بها صاحبها مأربه.

وأبرع ما برع فيه معاوية من ألوان الدهاء إلقاء الشبهة بين خصومه.

وقد احتال بمثل هذه الحيلة علي قيس بن سعد حتي اوقع الريبة منه في نفس الإمام.

وحيلة أخري لانجزم بها ولکننا نشير اليها في مکانها مما رواه الرواة عن الوسائل الخفية التي توسل بها معاوية للغلبة علي خصومه ومنافسيه..

ومات الحسن، ومات مالک بن الأشتر.. ومات عبدالرحمن بن خالد بن الوليد وعوجلوا جميعاً بغير علة ظاهرة فسبق الي الناس ظن کاليقين انها غيلة مدبرة، وان صاحبها من کان له نفع عاجل بتدبيرها، وهو: معاوية.

لقد علم المراقبون لطبائع الحيوان ان المطاردة عنده تقوم علي حرکات متتابعة ولا تقوم علي حرکة واحدة.

فإذا لمح الحيوان من خصمه انه يجفل منه أخذ في الهجوم.

وإذا عدا خصمه امامه اخذ في العدو وراءه.

وإذا ادرکه ولم يجد منه مقاومة تمادي في صرعه وافتراسه.

وقد دخل حجر بن عدي علي معاوية ومعاوية ينتظر منه صدمة يتبعها حذر

[صفحه 215]

لواجب الحلم والأناة، فلما دخل حجر محيياً له بالإمارة وزال الحاجز الاول زالت معه الحواجز الاخريات، ولم يعلم الرجل اين يکون الوقوف. ونظن ان هذه الخليقة قد اوشکت ان تبرز في طوية معاوية من وعيه الباطن الي وعيه الظاهر.

وقد صبر معاوية علي الوان من الخضوع في طلب وجاهته السياسية لا يصبر عليها کثير من عامة الناس... واحتاج ان يقول مرة کما جاء في الطبري مستنداً الي سعيد بن سويد: ما قاتلتکم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزکوا... ولکن إنما قاتلتکم لأتأمر عليکم.

ثم نشبت الفتنة الوبيلة في خلافة عثمان، ومعاوية بمعزل منها.

وقتل عثمان فاتخذ مقتله ذريعة للخروج علي الإمام وإنکار بيعته.

وأسرف کل الإسراف في التذرع بهذه الذريعة قبل استقلاله بالخلافة.

فما کان له من مسوغ يتعلل به غير مقتل عثمان يردده في کل حديث وفي کل خطاب وفي کل جواب. وعلي قدر اللهج بهذه الفاجعة قبل استقلاله بالخلافة سکت عنها واغفلها بعد ذلک فلم يعد إليها قط لا ليعتذر الي قرابة الخليفة المقتول من سکوته وإغفاله.

وکان معاوية عظيم العناية بأطايب الخوان، کثير الزهو بالثياب الفاخرة والحلية الغالية، وکان يأکل ويشرب في آنية الذهب والصحاف المرصعة بالجوهر ويأنس للسماع واللهو ولا يکتم طربه بين خاصة صحبه.

وقد ألجأته الحاجة الي إنفاق المال في أبهة الملک والإغداق علي الاعوان والخدم الي ارهاق الرعية بالضرائب ومخالفة العهود مع اصحاب الجزية.

فکان من الولاة من نطيعه ومنهم من يحيبه معترضاً.

ومن الولاة الذين انکروا ان تستصفي الاموال لبيت مال الخليفة: والي خراسان الذي کتب اليه زياد يأمره الا بقسم في الناس ذهباً ولا فضة، فکتب الوالي الي زياد:

بلغني ماذکرت من کتاب امير المؤمنين وإني وجدت کتاب الله تعالي قبل کتاب

[صفحه 216]

کتاب أمير المؤمنين.. وليس أضل ضلاله ولا اجهل جهلاً من المؤرخين الذين سموا سنة إحدي وأربعين هجرية بعام الجماعة لانها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة.

فلم يشارکه أحد فيها لان صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الامة کما تفرقت في تلک السنة، ووقع فيها الشتات بين کل فئة من فئاتها کما وقع فيها.

إذ کانت خطة معاوية في الأمن والتأمين قائمة علي فکرة واحدة وهي التفرقة بين الجميع.

ولم يقصر هذه الخطة علي ضرب خصومه ببعضهم.. کضرب الشيعة بالخوارج. والعرب بالموالي.. واليمانية بالقيسية.. بل کان يفعل ذلک في صميم البيت الاموي من غير السفيانيين.

وواضح من هذه التفرقة انه کان يکف يده عن البطش والنکاية في معاملتهم جميعا.. لانه کان يغري بعضهم ببعض فيستغني بالوقيعة بينهم عن الإيقاع بهم، ولکنه ـ علي هذا کله ـ کان يؤيد سياسة الإيقاع مهما يکن من قسوتها.

وکان يختار لها من الولاة من يعلم انه يفرط فيها ولا يقتصد في شرورها وبقاتها.

ولا يبالي ان يأخذ البريء يذنب الاثيم ولا ان ينکل بالقريب قصاصاً من البعيد

وخرج معاوية من الملک بالأيام التي قضاها في نعمته وثرائه ولانقول في صولته وعزه فقد کان يذل لکل ذي بيعة منشودة ذلا لم يصبر من بايعوه علي مثله. أما تبعته العامة في امر الملک فأمر جسيم لا تعد له جسامة عمل في عصره لانه نکص بالملک خطوات... ولو انه أنشأ هذا الملک والناس لا يعرفون غيره لخف نصيبه من اللوم... غير ان الناس عرفوا في زمانه فارقا شاسعا بين ولي الامر الذي يتخذ الحکم خدمة للرعية... وبين الحکم الذي يجري علي سنة المساومة ويملي لصاحبه في البذخ والمتعة ويجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة بصغائر الحياة.

[صفحه 217]



صفحه 213، 214، 215، 216، 217.





  1. هذه الفترة وما يليها مقتطفات من کتاب العقاد «معاوية بن ابي سفيان في الميزان» ص 9 و 11 و 12 و 14 و 16 و 17 و 35 و 38 و 48 و 49 و 70 و 71 و 112 ـ 115 و 181 و 182 و 185 ـ 191 و 203 ـ 205.