مقدمة المولف











مقدمة المولف



خالجتني فکرة البحث في هذا الموضوع منذ زمن بعيد، غير ان امورا کثيرة قد حالت ـ مع الاسف الشديد ـ بيني وبين اخراجها الي حيز الوجود، وعند ما قررت الحکومة العراقية اعفائي عن الخدمة ـ بالشکل المعروف ـ ساورني الم وامتعاض شديدان، فطفت ابحث عن وسائل تعينني علي التعبير عن ذلک الالم وهذا الامتعاض، وما هذه الدراسة في جوهرها الا احد الجوانب الايجابية لذلک التعبير، وقد شجعني علي ذلک عامل اشار اليه ابوجعفر ابن ابي زيد نقيب البصرة قبل زهاء سبعمائة عام ذکره ابن ابي الحديد حين قال: «قلت لابي جعفر النقيب ما سبب حب الناس لعلي.. دعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة؟... فضحک وقال... ان اکثر الناس موتورون في الدنيا. اما المستحقون فلا ريب في ان اکثرهم محرومون! نحو عالم يري ان لاحظ له في الدنيا، ويري جاهلا غيره مرزوقا وموسعا عليه، وشجاع قد ابلي في الحرب.. وليس له عطاء يکفيه.. ويري غيره ـ وهو جبان ـ مالکا لقطر عظيم.. وعاقل سديد التدبير قد قدر عليه رزقه، وهو يري غيره احمق مائقا تدر عليه الخيرات.

فاذا عرفت هذه المقدمة فمعلوم ان عليا کان مستحقا محروما، بل هو امير المستحقين المحرومين.

ومعلوم ان الذين ينالهم الضيم يتعصب بعضهم لبعض.. وعلي رجل عظيم القدر جليل الخطر کامل الشرف جامع للفضائل.. وهو مع ذلک محروم محدود قد جرعته الدنيا علاقمها.. وعلا عليه من هو دونه.. ثم کان في آخر الامر ان قتل هذا الرجل الجليل في محرابه، وقتل بنوه وسبي حريمه ونساؤه، وتتبع اهله وبنوه بالقتل والطرد والتشريد والسجون، مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم وسخائهم وانتفاع الخلق بهم»[1] .

[صفحه 12]

طفقت اذن ابحث في هذا الموضوع المعقد الشائک، وقد انار امامي سبيل البحث کبار المؤرخين المسلمين من حيث تدوين الوقائع التاريخية، کما انار سبيلي کذلک ـ من حيث تحليل تلک الحوادث وتفسيرها ـ فريق من الکتاب المصريين المحدثين، فانقسمت هذه الدراسة من حيث وحدة موضوعها الي ثلاثة اقسام:

بحثت في القسم الاول منها: قصة الخلافة بثلاثة فصول، تطرقت في الفصل الاول الي مسألة الوصية، وفي الفصل الثاني الي حديث السقيفة الذي بدأ ـ علي ما اري ـ والرسول مسجي علي فراش الموت، وانتهي بمقتل عثمان، لا بخلافة ابي بکر کما هو معروف، وبحثت في الفصل الثالث خلافة الامام.

اما القسم الثاني من الکتاب فيتضمن البحث فيما سميته «قميص عثمان» ـ ويقع في ثلاثة فصول ايضا، تطرقت في الفصل الاول منها الي حرکة الناکثين ـ اصحاب الجمل.

وفي الفصل الثاني الي تمرد القاسطين: اصحاب صفين.

وفي الفصل الثالث الي مسألة التحکيم وخروج المارقين ومصرع الامام.

لقد ساقني البحث ـ في معرض التحدث عن قميص عثمان ـ الي الاعتقاد بأن الصراع بين علي ومناوئيه ما وهو في جوهره الا صراع بين فلسفتين: فلسفة خلقية مثلي ـ تستمد اصولها من القرآن وسنة الرسول ـ سار عليها الامام في حکمه، وفلسفة ملتوية غادرة ـ تستمد مقوماتها من حياة العرب في جاهليتهم ـ انغمس فيها مناوئوه الي الاذقان. ولعل الصراع بين علي ومناوئيه يعيد الي الذاکرة قصة الصراع الذي حدث بين النبي وکفار قريش تحت زعامة الامويين. واذا کان النصر قد کتب للنبي في نزاعه مع مناوئيه لاعتصامهم بالاوثان فان النصر لم يکن في متناول الامام لتقمص مناوئيه[2] رداء الاسلام.

[صفحه 13]

فکان خصوم الرسول المندحرين من الامويين ومن هم علي شاکلتهم قد حاربوا ابن عمه بعقائد آبائهم الکامنة وراء ستار الاسلام. فمعاوية ـ مثلا ـ هو ابن هند آکلة الاکباد، وابوه ابوسفيان اول المشرکين في کل حرب، ورأسهم في کل فتنة، لم ترفع علي الاسلام راية الا وکان صاحبها. تظاهر بالاسلام غير منطو عليه، واخفي الکفر غير مقلع عنه، ويلوح لي ان غدر معاوية قد اصاب روح الاسلام قبل ان يصيب ابا تراب[3] فقد انفسح باغتيال علي المجال واسعا امام قوي الشر التي حبسها الامام في نطاق ضيق من خشية الله، ومباديء الدين الحنيف. فتلاشت من القلوب حرارة الايمان التي کانت تجمع بين قلب الخليفة الکبير وقلوب رعاياه. واستهان الولاة والحکام بتطبيق مباديء الاسلام علي شئون الحياة، وعمدوا الي کسب ولاء الناس بوسائل فاسدة من الرشوة والملاينة، او الارهاب والتجويع. فذري روح الاسلام وانطوت مبادئه علي نفسها بدلا من ان تسير في طريق التوسع والانتشار. وکانت حصيلة ذلک انتشار التذمر والالحاد في جسم المجتمع العربي وتدني المستويات الخلقية الرفيعة بين الحکام والمحکومين علي السواء. فبرز الاستهتار والظلم والخروج علي القرآن، وتعاليم الرسول من جهة الحاکمين، والانقياد والملق والنفاق من جهة الرعايا. واختفي القائلون بالحق وراء سحب المطاردة والاضطهاد. فأصبح المطالبون بحقوقهم «زنادقة» و «ملحدين» و «رافضة» وصار الوصوليون والمنافقون اصحاب الحظوة والکلمة النافذة، فجريرة معاوية ـ اذن ـ اکبر من مجرد غدره بالامام لانها اصابت صرح الاسلام من حيث هو نظام للحکم ومجموعة من المثل العليا ومکارم الاخلاق.

ذلک ما يتصل بالقسمين الأول والثاني من هذه الدراسة.

اما القسم الثالث فيروي للقاريء مقتطفات من سيرة الامام ـ رواها کبار المؤرخين المسلمين ـ ونماذج من سيرة معاوية اثناء نزاعه مع الخليفة. وبما اني کتبت هذا البحث متأثرا بالمثل العليا التي جاء بها محمد؛ والتي حرص عليٌّ علي تطبيقها في الحکم ـ وبخاصة ما يتصل منها بتوزيع العدالة الاجتماعية بين الناس وبالتحلي بمکارم الاخلاق.

[صفحه 14]

فلا عجب ان وجدني القاريء انتقد الذين خرجوا علي تلک المثل في الاقوال وفي الاعمال من الحکام والامراء والولاة. قال تعالي في سورة آل عمران: «ان الذي يکفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط بين الناس فبشرهم بعذاب اليم. اولئک الذين حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرة وما لهم من ناصرين 3: 21و 22».

وذکر مسلم بن الحجاج في صحيحه بأسانيد مختلفة عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: «اربع من کن فيه کان منافقا خالصا ومن کانت فيه خلة منهن کانت فيه خلة من نفاق حتي ينزعها: اذا حدث کذب، واذا عاهد غدر؛ واذا وعد اخلف، واذا خاصم فجر»[4] .

والمنافقون؛ کما وصفهم الله في سورة المنافقين الاية: 3 «اتحذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله انهم ساء ما کانوا يعملون».

وسوف نتخذ هاتين الآيتين والحديث الآنف الذکر مقياسا للحکم علي علي ومناوئيه اثناء البحث في «قميص عثمان».

حق وباطل، ابديان سرمديان. لکل زمان حقه وباطله. ولکل زمان علي ومناوئوه.

بغداد في: 1/ 1 / 1956

نوري جعفر

[صفحه 16]



صفحه 12، 13، 14، 16.





  1. يدنف: اي يجهز عليه بالقال.
  2. معاوية ومن هم علي شاکلته، ومن المحزن حقا ان يتخذ بعض الناس من هؤلاء ابطالا يدرسون سيرتهم للناشئة في الوقت الذي يريدون من تلک الناشئة ان تتحلي بمکارم الاخلاق التي جاء بها الدين الحنيف، فالاستقامة التي يدعو اليها الدين، والغدر الذي سار عليه معاوية ضدان لايجتمعان.
  3. لامجال للتفکيک بين الاسلام وعلي عليه السلام «الناشر».
  4. انظر صحيح مسلم ج 1 ص 42.