التحكيم، المارقون، و مصرع الامام











التحکيم، المارقون، و مصرع الامام



لقد حاول علي ـ جهد استطاعته ـ ان يتجنب الحرب التي سعي معاوية ما امکنه ـ الي اشعال نارها. کما حاول عبثا ـ اقناع معاوية وصحبه بالکف عن ايذائه وايذاء رعاياه. فأوکل ـ مضطراً ـ أمره الي السيف. فبدأت الحرب بين الجانبين.

«ولما رأي عمرو بن العاص أن أمر العراق قد اشتد وخاف الهلاک قال لمعاوية: هل لک في أمر اعرضه عليک لايزيدنا الا اجتماعا ولايزيدهم الا فرقة؟

قال: نعم.

قال: نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها بيننا وبينکم.

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا حکم کتاب الله بيننا وبينکم. فلما رآها الناس قالوا: نجيب کتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله امضوا علي حقکم وصدقکم وقتال عدوکم. فان معاوية وعمرو وابن ابي معيط، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن.

أنا اعرف منکم بهم قد صحبتهم اطفالا ثم رجالا. ويحکم ما رفعوها الا خديعة.

فقال اصحابه: لا يسعنا ان ندعي الي کتاب الله فنأبي ان نقبله. فقال لهم علي: انما اقاتلهم ليدينوا لحکم کتاب الله. فانهم قد عصوا الله فيما امرهم. فأصر اصحابه الا وقف القتال وقبول التحکيم.

واقترح اصحاب معاوية ان يبعث کل فريق من يمثله علي ان يعمل الحکمان بما في کتاب الله لا يعدوانه ثم يتبع الفريقان ما اتفق عليه الحکمان، فاختار اهل الشام عمرو، وبعض اهل العراق ابا موسي الاشعري.

فقال علي لقومه: قد عصيتموني في أول الامر ـ فأوقفتم القتال ـ فلا تعصوني الآن.

[صفحه 169]

اني لا اري ان اولي ابا موسي. فانه ليس بثقة. قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني. فأبوا الا ابا موسي.

فقال: فاصنعوا ما اردتم.. فکتب کتاب التحکيم:

هذا ما تقاضي عليه علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان.

اننا ننزل عند حکم الله وکتابه.. فما وجد الحکمان في کتاب الله عملا به، وما لم يجداه.. فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة.

وأخذ الحکمان؛ من علي، ومعاوية، ومن الجندين، من العهد والمواثيق انهما آمنان واهليهما والامة»[1] .

وشهد علي مافي الکتاب من اصحاب علي:

«الحسن والحسين ابنا علي بن ابي طالب، وعبدالله بن عباس، وعبدالله ابن جعفر بن ابي طالب، والاشعث بن قيس، والاشتر بن الحارث، وسعيد ابن قيس، والحسين والطفيل ابنا الحارث بن عبدالمطلب وابو سعيد بن ربيعة الانصاري وعبدالله بن خباب ابن ارت وسهل بن حنيف، وابو بشر بن عمر الانصاري وعون بن الحارث بن عبدالمطلب، ويزيد بن عبدالله الاسلمي، وعقبة ابن عامر الجهني، ورافع بن خديج الانصاري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن العجلان الانصاري، وحجر بن عدي الکندي، ويزيد بن حجية النکري، ومالک بن کعب الهمداني، وربيعة بن شرحبيل، والحارث بن مالک، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجية.

ومن اهل الشام: حبيب بن مسلمة، وابو الاعور السلمي، وبسر بن ارطأة القرشي، ومعاوية بن خديج الکندي، والمخارق بن الحارث، ومسلم بن السکسکي، وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد، وحمزة بن مالک، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الکلبي، وخالد بن الحصين

[صفحه 170]

السکسکي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، ويزيد بن ايجر العيسي، ومسروق بن جبلة العکي، وبسر بن ابي يزيد الحميري، وعبدالله بن عامر القرشي، وعتبة بن ابي سفيان، ومحمد بن ابي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمار بن الاحرص الکلبي، ومسعدة بن عمرو العتبي، والصباح بن جهلمة الحميري، وعبدالرحمن بن ذي الکلام، وتمامة بن حوشب، وعلقمة بن حکم»[2] .

ثم اتفق علي ومعاوية علي ما يذکر الدينوري[3] «علي ان يکون مجتمع الحکمين بدومة الجندل ـ وهو المنصف بين العراق والشام. ووجه علي مع ابي موسي شريح بن هانيء في اربعة الاف من خاصته وصير عبدالله بن عباس علي صلاتهم وبعث معاوية عمرو بن العاص وابا الاعور السلمي في مثل ذلک من اهل الشام.

فساروا من صفين حتي وافوا دومة الجندل. وانصرف علي بأصحابه حتي وافي الکوفة[4] ، وانصرف معاوية بأصحابه حتي وافي دمشق، ينتظران ما يکون من امر الحکمين.

وکان علي اذا کتب الي ابن عباس في امر اجتمع اليه اصحابه فقالوا: ماکتب اليک امير المؤمنين؟.. وتأتي کتب معاوية الي عمرو بن العاص فلا يأتيه أحد من اصحابه يسأله عن شيء من امره.. وعندما اجتمع الحکمان وتداولا في الامر[5] قال عمرو لابي موسي. وأين انت من معاوية؟ قال ابو موسي:

ما معاوية موضعا لها.. قال عمرو: الست تعلم ان عثمان قتل مظلوماً؟ قال بلي.

[صفحه 171]

قال: فان معاوية وليّ عثمان.. قال ابو موسي: ان ولي عثمان ابنه عمرو. ولکن ان طاوعتني احيينا سنة عمر بن الخطاب وذکره بتوليتنا ابنه عبدالله..

هلم نجعلها للطيب ابن الطيب. قال عمرو:

يا ابا موسي لايصلح لهذا الامر الا رجل له ضرسان يأکل بأحدهما ويطعم بالآخر.

قال ابو موسي: اري ان نخلع هذين الرجلين ـ علياً ومعاوية ـ ثم نجعلها شوري بين المسلمين يختارون لانفسهم من احبوا.

قال عمرو: فقد رضيت بذلک، وهذا الرأي الذي فيه صلاح الناس».

کان ابو موسي قد عوده عمرو ان يتقدم في الکلام عليه.

وکثيراً ما کان عمرو يقول له: «أنت صاحب رسول الله واسن مني فتکلم واتکلم، وتعود ذلک ابو موسي، واراد عمرو بذلک ان يقدمه في خلع علي.

فلما اتفقا علي خلع علي ومعاوية.. اقبلا الي الناس وهم مجتمعون. فقال عمرو:

يا ابا موسي اعلمهم ان رأينا اتفق، فتکلم ابو موسي فقال:

ان رأينا اتفق علي امر نرجو ان يصلح الله به امر هذه الامة.

فقال عمرو: صدق وبر. تقدم ياابا موسي فتکلم فتقدم ابو موسي ليتکلم فقال ابن عباس: ويحک اني والله لاظنه قد خدعک، ان کنتما قد اتفقتما علي رأي فقدمه ليتکلم به قبلک، ثم تکلم بعده، فانه رجل غادر ولا آمن ان يکون قد اعطاک الرضا بينکما. فاذا قدمت في الناس خالفک.

وکان ابو موسي مغفلا فقال: انا قد اتفقا وقال: ايها الناس انا قد نظرنا في امر هذه الامة فلم نر اصلح لامرها ولا الم لشعثها.. الا ان نخلع عليا ومعاوية، ويولي الناس امرهم من احبوا.. واني قد خلعت عليا ومعاوية..

ثم تنحي واقبل عمرو فقام وقال: ان هذا قد قال ماسمعتموه وخلع صاحبه. وانا اخلع صاحبه کما خلعه؛ واثبت صاحبي معاوية فانه وليّ ابن عثمان والطالب بدمه واحق الناس بمقامه.

[صفحه 172]

قال ابو موسي الاشعري لعمرو: لاوفقک الله غدوت وفجرت.

انما مثلک کمثل الکلب ان تحمل عليه يلهث وان تترکه يلهث، قال عمرو:

ان مثلک کمثل الحمار يحمل اسفاراً.. والتمس اهل الشام ابا موسي فهرب الي مکة.

ثم انصرف عمرو واهل الشام الي معاوية فسلموا عليه بالخلافة»[6] .

يتضح مما ذکرنا: ان رفع المصاحف حيلة دبرها عمرو بن العاص للحيلولة بين القاسطين وبين الفرار امام جيوش الامام.

وقد فطن الامام الي ذلک ووصف عمرو معاوية وابن ابي معيط بأنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن.

وقد مر بنا ذکر شيء من سيرة معاوية وابن ابي معيط، ونود في هذه المناسبة ـ ان ننقل الي القاريء قبل الاسترسال في موضوع التحکيم ـ طرفاً من سيرة عمرو بن العاص ليتبين الاسس التي استند اليها علي في وصمه عمرواً وصاحبيه بالبعد عن الدين والقرآن، وعمرو هو: ابن العاص السهمي الذي «کان من المستهزئين بالنبي.

وقد انزل الله فيه قول: ان شانئک هو الابتر»[7] .

أما المستهزؤون الآخرون فقد ذکرهم ابن خلدون[8] بقوله:

«ولما رأت قريش النبي قد امتنع بعمه وعشيرته، وانهم لايسلمونه، طفقوا يرمونه ـ عند الناس ممن يفد علي مکة ـ بالسحر والکهانة والجنون والشعر، يرومون بذلک صدهم عن الدخول في دينه ثم انتدب جماعة منهم لمجاهرته بالعداوة والايذاء، منهم:

عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعقبة بن ابي معيط ـ احد المستهزئين.

وابو سفيان من المسهتزئين، والحکم بن امية من المستهزئين ايضاً.

[صفحه 173]

والعاص بن وائل السهمي وابنا عمه: نبيه ومنبه.

وقاموا يستهزئون بالنبي ويتعرضون له بالاستهزاء والاذاية حتي لقد کان بعضهم ينال منه بيده». اما ام عمرو بن العاص «فثمة صحيفة من صحائف فجور الجاهلية تنتشر عن الباغية ام عمرو کامرأة تلقفتها آونة مضاجع الرجال.

فلما خرج ابنها الي النور تهامست الالسن عن ابيه وتاهت حقيقة نسبة بين بضعة نفر.. منهم العاص ومنهم ابو سفيان. ولکن الام حزمت امرها علي ان تلصق وليدها بأول الرفيقين اذ کان اوفر النفر ثروة واسخاهم عليها في الانفاق فکأنها بهذا الاختيار قد ضربت لابنها اول مثل في تغليب المادة علي اوثق العلاقات وانه لمبدأ رضعه من ثدييها وظل يدين بناموسه مدي عمره المديد»[9] .

هذا هو البيت الذي نشأ فيه عمرو بن العاص.

أما مواقف عمرو نفسه من الاسلام ـ في اوائل عهده ـ فمعروفة لدي الکثيرين.

فقد کان اشد الکفار خصومة للنبي يوم احد.

ويحضرنا ـ في هذه المناسبة ـ بعض شعره:


لما رأيت الحرب ينزو شرها بالرضف نزوا
ايـقنت أن الــموت حق والحياة تکون لغوا


حملت أثوابي علي عُتَد يبذ الخيل رهوا[10] .

ولما يئس عمرو من الانتصار علي النبي في الحرب لجأ الي الغدر والدس والتواري عن الانظار. قال عمرو، علي ما يذکر ابن هشام[11] :

«لما انصرفنا من الاحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش کانوا يرون رأيي ويسمعون مني. فقلت لهم: اني اري أمر محمد يعلو الامور علواً

[صفحه 174]

منکراً.. فأري ان نلحق بالنجاشي فنکون عنده. فان ظهر محمد علي قومنا کنا عند النجاشي، فانا ان نکون تحت يديه احب الينا ان نکون تحت يدي محمد.

وان ظهر قومنا: فنحن من عرفوا.»

وقد کان عمرو ـ کما رأينا ـ من أکبر المؤلبين علي عثمان.

وهو الذي صرفه عن تطبيق حد الله في عبيد الله بن عمر بن الخطاب لقتله الهرمزان.

«فقد اقبل ابن العاص علي عثمان ـ حين رأي عثمان أن ينظر في الاقتصاص من عبيد الله...

فقال له: يا أمير المؤمنين ان الله قد اعفاک ان يکون هذا الحدث کان ولک علي المسلمين سلطان. انما کان الحدث ولاسلطان لک»[12] .

ولما بلغ عمرو ـ وهو بفلسطين کما ذکرنا ـ بأن الناس قد بايعوا عليا بأن معاوية يأبي البيعة اتصل عمرو بمعاوية وحبذ له فکرة المطالبة بدم عثمان.

ومن الطريف ان نذکر ـ في هذه المناسبة ـ: ان المؤرخين يکادون يجمعون علي ذکر قصة استشارة عمرو لولديه عبدالرحمن ومحمد، وهو بفلسطين ـ في شأن موقفه من النزاع بين علي ومعاوية «فقال له عبدالله: ان کنت لابد فاعلا فالي علي. قال عمرو: اني ان اتيت علياً يقول لي: انما انت رجل من المسلمين. وان اتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشرکني في الامر. وکان محمد ابنه الآخر علي هذا الرأي.

فقال لهما عمرو: اما انت ياعبدالله فقد اخترت لآخرتي.

واما انت يامحمد فقد اخترت لدنياي.. وقدم عمرو علي معاوية.. وسأله اتري اننا خالفنا عليا لفضل منا عليه؟.. لا والله ان هي الا الدنيا نتکالب عليها»[13] .

[صفحه 175]

ولاندري ما صلة ذلک بالمطالبة بدم عثمان!!

هذا هو ممثل معاوية في التحکيم.

أما ممثل علي فهو ابو موسي الاشعري الذي کان يخذل الناس عن نصرة الخليفة حين کان واليا له علي الکوفة الامر الذي اضطر الخليفة الي عزله.

ولنعد الآن الي موضوع التحکيم.

فاذا نظرنا اليه من الناحية المبدئية العامة ـ اي تحکيم کتاب الله وسيرة نبيه فيما يحصل من اختلاف بين وجهات نظر المسلمين في امورهم الدينية، والدنيوية ـ فان الامام علي لا يرضي بغير ذلک بديلاً.

وقد بني سياسته العامة ـ في السلم والحرب ومع انصاره واعدائه علي السواء ـ وفق مستلزمات القرآن والسنة. وتألب عليه خصومه ـ وهرب منه بعض انصاره ـ لتمسکه بذلک في جميع تصرفاته. وقد مر بنا رفضه ـ قبول الخلافة اثناء الشوري ـ لوضع شرط ثالث بجانب الکتاب والسنة. کما مر بنا جانب من موقفه مع الناکثين ودعوته اياهم الي تحکيم الکتاب والسنة فيما خرجوا عليه، فلم يعترض الامام «اذن» علي التحکيم الذي دعا اليه معاوية واصحابه ـ من حيث المبدأ.

وانما اعترض علي الشکل الذي جاء فيه والظروف التي احاطت به.

فقد رفع خصومه المصاحف علي الرماح في الوقت الذي کانت فيه جيوشه سائرة الي نصرها المبين.

ودعوا )کاذبين( الي تحکيم القرآن الذي حاربوا، وحاربوا من انزل عليه في الجاهلية والاسلام.

واخترقوا نصوصه )وسنة الرسول( في تصرفاتهم العامة من الناحيتين الدينية والدنيوية.

فقد امر معاوية ـ باقتراح من ابن العاص کما ذکرنا ـ اصحابه ان يربطوا المصاحف علي اطراف القنا، فربطت المصاحف.

واول ما ربط مصحف دمشق الاعظم، ربط علي خمسة ارماح يحملها خمسة رجال.

[صفحه 176]

ثم ربطوا سائر المصاحف، جميع ما کان معهم. واقبلوا في الغلس[14] ونظر اهل العراق الي اهل الشام قد اقبلوا وامامهم شيبه بالرايات، فلم يدروا ما هو حتي اضاء الصبح، فنظروا فاذا هي المصاحف. واقبل ابو الاعور السلمي علي برذون[15] اشهب وعلي رأسه مصحف وهو ينادي:

يا أهل العراق هذا کتاب الله حکماً فيما بيننا وبينکم.

فتکلم علي وقال:

عباد الله انا احري من اجاب الي کتاب الله... ان القوم ليسوا يريدون بذلک الا المکر، وقد عضتهم الحرب، والله لقد رفعوها وما رأيهم العمل بها. وليس يسعني ـ مع ذلک ـ ان ادعي الي کتاب الله فلا اجيب. وکيف! وانما قاتلتهم ليدينوا بحکمه!»[16] .

وعندما وقف القتال، وانصاع القاسطون ـ في الظاهر ـ الي رأي الامام في تحکيم القرآن والسنة لحسم النزاع بين المعسکرين.

وافق الامام علي قبول التحکيم ـ التحکيم الذي هو مبدؤه في تصرفاته کافة ـ استمع اليه يخاطب ابن ابي سفيان: ان البغي والزور يوقعان بالمرء في دينه ودنياه... ويبديان خلله عند من يعيبه. قد علمت انک غير مدرک ما قضي فواته.

وقد رام اقوام امراً بغير الحق فتأولوا علي الله فأکذبهم... وقد دعوتنا الي حکم لقرآن ولست من اهله. ولسنا اياک اجبنا ولکننا اجبنا القرآن في حکمه»[17] .

وخاطبه ـ في موضع آخر ـ فقال: «لقد ابتلاني الله بک وابتلاک بي. فجعل

[صفحه 177]

أحدنا حجة علي الآخر. فغدوت علي طلب الدنيا بتأويل القرآن وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني، وعصيته انت واهل الشام بي. والب عالمکم جاهلکم وقائمکم قاعدکم»[18] فالامام اذن لم يعترض علي مبدأ التحکيم.

بل التحکيم بالشکل الذي دعاه اليه معاوية والظروف التي حصل فيها. وبعد ان زالت تلک الظروف ووضعت الحرب اوزارها اختفت عوامل ممانعة الامام بقوله.

غير ان الامام اعترض ـ بعد ذلک ـ علي تعيين بعض اصحابه ابا موسي الاشعري ليمثله في ذلک.

وقد کان اعتراض الامام مبنياً ـ من حيث الاساس ـ علي القول بأن الممثل يجب ان يتبني فکرة من يمثله ـ بغض النظر عن سلامتها ـ ليتسني له القيام بواجبه علي وجهه الاتم. فعمرو بن العاص خير من يمثل معاوية في هذه الناحية.

فلما اصر اصحاب الخليفة علي رأيهم في تعيين ابي موسي رجع الامام الي نفسه ـ علي مايبدو ـ وقلب الامر علي وجوهه فلم ير بأسا من الموافقة علي ذلک لان موضوع التحکيم سوف يسير ـ حسبما اتفق الجانبان المتعاقدان ـ علي نصوص القرآن وسنة النبي حيث ينکشف لابي موسي زيفه السابق في التخذيل عن الامام.

وما دام موضوع التحکيم ـ برأي الامام ـ منصبا علي حسم الخلاف بينه وبين معاوية ـ وهو نزاع يتصل ـ علي ما ادعي معاوية ـ بالمطالبة بدم الخليفة القتيل، فسوف ينظر الحکمان ـ في القرآن والسنة ـ فيما اذا کان عثمان قد قتل مظلوماً من جهة؟

وفيما اذا کان لمعاوية الحق في المطالبة بدم عثمان من الناحية الشرعية ـ اي انه ولي عثمان ـ من جهة ثانية؟

وفيما اذا کان الاسلوب الذي اتبعه معاوية للمطالبة المذکورة ـ في حالة شرعيتها ـ هو الاسلوب السليم من جهة ثالثة؟

وفيما ينبغي للخليفة ان يفعله من جهة رابعة؟

[صفحه 178]

فاطمأن علي الي ذلک کل الاطمئنان.

غير أن اجتماع الحکمين قد جعل الموضوع يسير باتجاه آخر لا صلة له اطلاقاً بموضوع المطالبة بدم عثمان ابن عفان.

فأغفل عمرو صاحبه ابتداءً ـ کما رأينا.

والقي في روعه ان موضوع التحکيم ينحصر في تعيين خليفة جديد للمسلمين کأن خلع علي من الخلافة قد بات أمراً مفروغاً معه.

فاقترح عمرو اسم معاوية فرفضه ابو موسي کما رأينا. واقترح عمرو ـ بعد ذلک ـ اسم ابنه عبدالله فرفضه ابو موسي ايضا، الامر الذي حدا بأبي موسي ان يتقدم هو بمرشح جديد. وهو عبدالله بن عمر بن الخطاب.

ولما اطمأن عمرو الي ثبوت ذلک الرأي في ذهن زميله ـ اي فکرة خلع الخليفة وتعيين آخر بدله ـ جعل موضوع البحث ينحصر في الاتفاق علي المرشح الجديد.

ولما ظهر انهما لم يتفقا علي شخص معين بالذات، طلب من ابي موسي ان يقترح حلا للخروج من ذلک المأزق الحرج الذي يتوقف عليه مصير الحکم في البلاد والذي يرقبه المسلمون ـ بفارق الصبر ـ في کل مکان.

فتقدم ابو موسي باقتراح جديد ظنه کسبا له واندحار لعمرو بن العاص.

فقد خيل اليه انه سينتصر اذا ماوافق عمرو علي «خلع» معاوية بعد أن بات خلع الامام امرا متقفا عليه. فوافق عمرو ـ في الظاهر ـ علي الفکرة واغراء باعلانها علي الناس، ثم عاد فغدر به علي الشکل الذي وصفناه.

وقد برز عمرو ـ في ذلک کله ـ بأبشع مايبرز فيه الرجل من الخداع، والدس، والتدني عن مستويات الاخلاق الرفيعة. فأغفل صاحبه وأغراه علي خلع علي ومعاوية علي السواء ليترک الامر للمسلمين يختارون من يشاؤون.

فلما اعلن ابو موسي رأيه علي الناس ـ کما مر بنا ـ نهض عمرو فأکد خلع علي

[صفحه 179]

وتثبيت ابن ابي سفيان. ولاندري علاقة ذلک کله بالمطالبة بدم عثمان!! وهل تنازع علي ومعاوية علي الخلافة؟

وهل کان معاوية خليفة حتي يخلعه ابو موسي ويثبته ابن العاص؟

ومهما يکن من شيء فقد حصل خلع الامام وتثبيت معاوية. فارتاع دعاة التحکيم في عسکر الامام.

فظهر المارقون من الخوارج.. وقالوا: لاحکم الا لله وهي کلمة حق يراد بها باطل علي ما ذکر الخليفة. واراد اصحاب علي قتال الخوارج في باديء الامر ولکنه ابي عليهم ذلک وانکره ـ کشأنه في مواقفه الاخري ضد مناوئيه ـ وقال:

«ان سکتوا ترکناهم وان تکلموا حاججناهم وان افسدوا قاتلناهم»[19] .

بدأ المارقون نشر الفساد في المناطق التي کانوا يسکنون فيها، فنهبوا واغتالوا وتعاطوا کثيرا من الموبقات. «فقتلوا عبدالله بن الخباب بن الارت ـ وخباب من خيرة الصحابة ـ وقتلوا نسوة کن مع عبدالله. وجعلوا يتعرضون الناس ويذيعون الذعر.

فأرسل اليهم علي رجلاً من اصحابه يسألهم عن هذا الفساد.

فلم يکد هذا الرسول يدنو منهم حتي قتلوه»[20] .

فلم يجد علي بداً من مقاتلتهم في النهروان.

وقد وجد الامام نفسه مع ذلک کله، وامام هذه الامور العظام، وفي قلب هذه الفتنة الغليظة المظلمة.. کأحسن ما يجد الرجل نفسه.

صدق ايمان، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة علي الطريق المستقيمة، لاينحرف ولا يميل ولا يداهن من أمر الاسلام في قليل ولاکثير.

وانما يري الحق فيمضي اليه لا يلوي علي شيء ولايحفل بالعاقبة، ولا يعنيه

[صفحه 180]

ان يجد في آخر طريقه نجحا او اخفاقا، ولا ان يجد في آخر طريقه حياة او موتا.

وانما يعنيه کل العناية ان يجد اثناء طريقه ـ وفي آخرها ـ رضا ضميره ورضا الله»[21] .

فلا عجب ان رأينا حياته بعد النهروان خاصة، علي ما يقول الدکتور طه حسين[22] .

«محنة شاقة الي اقصي حدود المشقة، کان يري الحق واضحا صريحا.. وقد ظل الخوارج معه بعد ذلک يعايشونه في الکوفة؛ ويعايشون عامله في البصرة، وينبثون في اطراف السواد بين المصريين.. وکانوا يکيدون للامام.

يشهدون صلاته ويسمعون خطبه واحاديثه، وربما عارضه منهم المعارض فقطع عليه الخطبة والحديث، وهم علي ذلک مطمئنون الي عدله.

ويأخذون تعيينهم من الفيء وحظوظهم من المال!!

فأطمعهم عدله واسماحه، واغراهم لينه وبره.

جاء احدهم ذات يوم وهو: الحريث بن راشد السامي فقال له: والله لا اطعت امرک ولا صليت خلفک.. فلم يغضب علي ذلک ولم يبطش به، وانما دعاه الي ان يناظر ويبين له وجه الحق لعله ان يثوب اليه.

فقال له الحريث: اعود اليک غداً فقبل منه علي فانصرف الرجل الي قومه.

ثم خرج بهم في ظلمة الليل من الکوفة يريد الحرب. ولقي الحريث واصحابه في طريقهم رجلين سألوهما عن دينهما.

وکان احدهما يهوديا، فلما انبأهم بدينه خلوا سبيله.

وأما الآخر فکان مسلما من الموالي، فلما انبأهم بدينه سألوه عن رأيه في علي

[صفحه 181]

فقال خيراً، فوثبوا عليه فقتلوه»[23] .

واستمر الحريث واصحابه علي عبثهم وفسادهم بأرواح الناس وممتلکاتهم مما اضطر الامام الي تجهيز حملة لتأديبهم وانقاذ الناس من اعتدائهم.

ولم يقف امتحان الامام عند الحد الذي وصفناه من خروج الناکثين فالقاسطين فالمارقين، وانما تعداه الي ابن عباس عامله علي البصرة اقرب الناس اليه. «وکان لابن عباس من العلم بأمور الدين والدنيا، ومن المکانة في بني هاشم وفي قريش عامة، وفي نفوس المسلمين جميعاً ما کان خليقا ان يعصمه من الانحراف»[24] .

ويلوح للباحث ان ابن عباس «آثر نفسه بشيء من الخير وسار في بيت المال سيرة تخالف المألوف من امر علي ومن امره هو.

وکأنه أنس من صاحب بيت المال ـ وهو ابو الاسود الدؤلي ـ شيئاً من النکير فأغلظ له في القول ذات يوم.

وضاق ابو الاسود بما رأي وسمع فکتب الي علي... فروعه...

ولکن علياً صبر نفسه علي ما تکره، کما تعود ان يفعل دائما..

فکتب الي ابن عباس... بلغني عنک امر ان کنت فعلته فقد اسخطت ربک وخنت امانتک وعصيت امامک وخنت المسلمين.

فارفع الي حسابک، واعلم ان حساب الله اشد من حساب الناس..

وليس غريبا ان يکتب علي الي ابن عباس ما کتب، فهو لم يتعود الرفق في امر المال، ولا الادهان في امر من امور المسلمين..

ولکن ابن عباس اعرض عن هذا کله، فاعتزل عمله ولکنه مع ذلک لم يستعف

[صفحه 182]

امامه ولم ينتظر ان يعفيه، وانما اعفي نفسه وترک البصرة، ولحق بمکة حيث لا يبلغه سلطان الامام».

غير ان ابن عباس «لم يکتف بما بلغ من هذه المغاضبة، ولا بما انتهي اليه من هذا التصرف الغريب بل اضاف اليه شراً عظيما لم يسوء به الامام وحده.

وانما اساء به الرعية کلها وعامة اهل البصرة خاصة.

فهو قد ازمع الخروج الي مکة ولکنه لم يخرج منها فارغ اليدين من المال کما دخلها حين ولي عليها.

وانما خرج منها وقد ملأ يديه بما کان في بيت المال مما ينقل.

وهو يعلم ان ليس له في هذا المال حق الإ مثل ما لأهل البصرة جميعا فيه»[25] .

فمضي امتحان علي «علي هذا النحو المر: خيانة من الوالي، وکيدا من العدو. وهو بين ذلک کله مصمم علي خطته الواضحة، لا يرضي الدنية من الامر، ولايداهن في دينه ولايتحول عن سياسته الصريحة قليلا ولا کثيراً.

والمحن تتابع عليه ويقفو بعضها اثر بعض، وهو ماض في طريقه لا ينحرف عنه الي يمين او شمال»[26] .

وفي غمرة النضال وزحمة الصراع مع الباطل تصدي له ابن ملجم فأصاب منه مقتلا «ويروي المؤرخون: ان عليا امر من حوله ان يحسنوا اطعام ابن ملجم ويکرموا منواه. فان بريء من ضربته نظر، فاما عفا واما اقتص.

وامرهم: ان مات ان يلحقوه به ولا يعتدوا: ان الله لا يحب المعتدين».

[صفحه 183]



صفحه 169، 170، 171، 172، 173، 174، 175، 176، 177، 178، 179، 180، 181، 182، 183.





  1. ابن الاثير: «الکامل في التاريخ» 3 / 160 ـ 168.
  2. الدينوري، «الاخبار الطوال» ص 198 و 199.
  3. الاخبار الطوال: ص 200 ـ 203.
  4. فامتنع الذين اصروا علي وقف القتال، وقبلوا التحکيم من اصحاب الامام من دخول الکوفة مع الامام، فيکون منهم المارقون الذي ارغموا الامام ـ بعد ذلک ـ علي حربهم بالنهروان.
  5. واوحي عمرو الي رفيقه: ان موضوع خلع علي من الخلافة قد بات مفروغاً منه، وان المشکلة هي اتفاقهما علي من سيخلفه.
  6. ابن الاثير «الکامل في التاريخ» 3 / 160 ـ 168.
  7. ابن الاثير «الکامل في التاريخ» 2 / 49 و 50.
  8. ابن خلدون «کتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر» 2 / 177.
  9. عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 275.
  10. ابن هشام «سيرة النبي محمد» 3 / 116. ينزو: يرتفع ويثب. وارضف الحجارة المحماة بالثار، العتد: الفرس الشديد، يبذ: يسبق، والرهو: الساکن، اللين.
  11. سيرة النبي محمد: 2 / 177.
  12. عبدالفتاح عبدالمقصود الامام علي بن ابي طالب 4 / 83، واذا کان الامر کذلک فقد قتل عثمان وليس لعلي سلطان علي الناس فلماذا اقام عمرو الدنيا عليه واقعدها.
  13. عباس محمود العقاد «معاوية بن ابي سفيان» ص 53 ـ 55.
  14. الغلس: بعد العشاء الآخرة وقبل الفجر «الناشر».
  15. البرذون، صنف من الخيل الغير العربية «الناشر».
  16. الدينوري: «الاخبار الطوال» ص 191 و 192.
  17. ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 113 و 114.
  18. ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 4 / 160 والاشارة هنا الي مقتل عثمان.
  19. الدکتور طه حسين «الفتنة الکبري، علي وبنوه» ص 113.
  20. المصدر نفسه ص 113.
  21. الدکتور طه حسين: «الفتنة الکبري، علي وبنوه» ص 122.
  22. المصدر نفسه 122 ـ 126.
  23. الدکتور طه حسين «الفتنة الکبري. علي وبنوه» ص 133.
  24. المصدر نفسه ص 130 و 138.
  25. الفتنة الکبري ـ علي وبنوه ص 129.
  26. المصدر نفسه ص 183.