القاسطون











القاسطون



لقد مر بنا الحديث ـ في فصل سابق ـ عن حرکة الناکثين، تلک الحرکة التي زرعت بذور التمرد ـ علي النظام ـ في جسم المجتمع الاسلامي في عهد الامام

وحرکة الناکثين ماهي ـ في الواقع ـ الا جانب واحد من جوانب الصراع المسلح بين علي ومناوئيه، وهي صورة من اروع صور الصراع بين الحق والباطل.

وقد شجعت فتنة الجمل ـ القاسطين ـ الحائرين ـ معاوية واصحابه علي القيام بعصيان مسلح علي نظام الحکم في البلاد، کما أتاحت لهم فرصة التجمع وحشد قوي الشر والارهاب لمقاومة مباديء الدين الحنيف الممثلة في خلق الامام وفي سياسته العامة.

وقد انضوي تحت لواء معاوية کل من کان حاقداً علي الامام لعدالته وسلامة معتقداته في السياسة والدين والاخلاق. من ذلک مثلا:

أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب کان قد التحق بمعاوية «خوفا من علي ان يقيده بالهرمزان. وذلک ان ابا لؤلؤة ـ غلام المغيرة بن شعبة ـ قاتل عمر کان في ارض العجم غلاما للهرمزان فلما قتل عمر شد عبيد الله علي الهرمزان فقتله...

وکان الهرمزان عليلا في الوقت الذي قتل فيه عمر.. فعفا عثمان عن عبيد الله فلما صارت الخلافة لعلي اراد قتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان لقتله اياه ظلما من غير سبب استحقه. فلجأ الي معاوية»[1] .

[صفحه 156]

ولجأ الي معاوية کذلک مصقلة بن هبيرة الشيباني ـ عامل علي في احدي خطط فارس.

وسبب ذلک ان مصقلة کان قد اشتري اسري الخوارج من جماعة الخريت بن راشد السامي ولکنه التوي بما شرطه علي نفسه من ثمنهم. «فلما طالبه ابن عباس بأداء الدين قال: لو طلبت اکثر من هذا المال الي ابن عفان مامنعني اياه.

ثم احتال حتي هرب من البصرة ولحق بمعاوية. فتلقاه معاوية احسن لقاء واطمعه وارضاه حتي طمع مصقلة في ان يحمل اخاه نعيم بن هبيرة علي ان يلحق به.»[2] .

وهکذا نجد ابن هند يحتضن الجناة ـ الفارين من وجه العدالة ـ ويغدق عليهم العطاء من بيت مال المسلمين فيزرع بتصرفه هذا بذور فساد الاخلاق في المسلمين ويشجع الناس علي الخروج علي مباديء الدين الحنيف.

ولم تقتصر نتائج ذلک الزمن الذي عاش فيه ابن أبي سفيان بل تعدته فسارت في سجل الزمن منذ مصرع الإمام حتي يومنا هذا.

لقد تمرد معاوية علي الخليفة وتنکر لمباديء الدين متظاهرا بالطلب بدم عثمان ابن عفان[3] ومعاوية ـ کما ذکرنا هو:

ابن هند آکلة الاکباد، وأبوه ابو سفيان: الذي حارب النبي... ولم يسلم الا بأخرة حين لم ير من الاسلام بداً، وحين لم يکن الا ان يختار بين الاسلام والموت...

ولم تکن ام معاوية بأقل من أبيه تنکراً للاسلام وبغضا لاهله وحفيظة عليهم.. حتي فتحت مکة فأسلمت کارهة کما اسلم زوجها کارها.[4] .

[صفحه 157]

وکان علي معاوية ـ اذا فرضنا انه يجوز له ان يطالب بدم عثمان ـ[5] ولو انصف واخلص نفسه للحق ان يبايع کما بايع الناس.

ثم يأتي الي علي ـ مع اولياء عثمان ـ فيطالبون بالاقادة ممن قتله. ولکن معاوية لم يکن يريد ان يثأر لعثمان[6] بمقدار ما کان يريد ان يصرف الامر عن علي. وآية ذلک ان الامر استقام له ـ بعد مصرع الامام ـ فتناسي ثأر عثمان ولم يتبع قتلته..

فالطلب بدم عثمان اذن لم يکن الا اقصوصة اشترک في صوغها کل منافس لعلي، حاقد عليه. وقد وسع کل شيء ووصل الي کثير من الغايات الا الثأر للشيخ القتيل».

[صفحه 158]

وکان رأي علي في الموضوع کما يذکر ابن حجر العسقلاني[7] «أن يدخل معاوية واصحابه في الطاعة.

ثم يقوم ولي دم عثمان بن عفان فيعمل الامام معه ما فيه حکم الشريعة.».

وقد اشار الامام علي الي ذلک في احدي رسائله الي اهل الامصار بعد صفين حين قال[8] :

«وکان بدء امرنا ان التقينا والقوم من اهل الشام والظاهر ان ربنا واحد ونبينا واحد ودعوتنا في الاسلام واحدة... والامر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء. فقلنا تعالوا نداوي مالا يدرک باطفاء الثائرة وتسکين العامة حتي يشتد الامر ويستجمع فنقوي علي وضع الحق في مواضعه.

فقالوا: بل نداويه بالمکابرة. فأبوا حتي ضجت الحرب.. فلما ضرستنا واياهم ووضعت مخالبنا فينا وفيهم اجابوا عند ذلک الي الذي دعوناهم اليه.».

ويلوح للباحث ان الخروج علي ما توطا الناس عليه من العرف والخلق کان هو القاعدة العامة للاسرة الاموية في الجاهلية والاسلام.

وکتب التاريخ العربي زاخرة بالامثلة علي ذلک. وقد مر بنا ـ في فصل سابق ـ ذکر کثير من الشواهد والامثلة في هذا الباب عندما تظاهر رؤوس الامويين في الانضواء تحت لواء الاسلام.

أما في الجاهلية فيجد الباحث:

علي الرغم من قلة الاخبار الموثوقة عن سيرتهم ـ قصصا ممتعة في هذا المضمار. من ذلک مثلا ماذکره ابن الاثير[9] حين قال:

«کان لعبدالمطلب جار يهودي يقال له: أذينة: يتجر وله مال کثير. فغاظ ذلک

[صفحه 159]

حرب بن امية.. فأغري به فتيانا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله. فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن حرب بن عمرو بن کعب التيمي جد ابي بکر».

وتتلخص حرکة القاسطين ـ من حيث وقوع حوادثها من الناحية التاريخية ـ علي الشکل التالي[10] :

«لما عاد علي الي البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الکوفة... وبعث جرير بن عبدالله البجلي... وکتب معه کتابا الي معاوية يدعوه فيه الي الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والانصار من طاعته، فسار جرير الي معاوية.

فلما قدم عليه ماطله معاوية واستنظره، واستشار عمرو بن العاص فأشار عليه ان يجمع اهل الشام ويلزم عليا دم عثمان ويقاتله بهم. ففعل معاوية ذلک. وکان اهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ـ الذي قتل فيه ـ مخضوبا بالدم..

وضع معاوية القميص مدة وهو علي المنبر. واقسموا الا يمسهم الماء للغسيل من الجنابة والا يناموا علي الفراش حتي يقتلوا: قتلة عثمان، ومن قام دونهم قتلوه.

فلما عاد جرير الي علي واخبره خبر معاوية واجتماع اهل الشام علي قتاله. خرج علي فعسکر بالنخيلة.. وسرح الاشتر ببعض الجند امامه.. وقال له:

اياک ان تبدأ القوم بقتال: ولاتدن منهم دنو من يريد ان ينشب الحرب، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس. حتي اقدم عليک..

واصبح علي علي غدوة الاشتر..

وکان معاوية قد سبق.. فأخذ شريعة الفرات.. فطلب اصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا. فأتوا عليا فأخبروه بعطشهم.. فدعا صعصعة بن صوحان. فأرسله الي معاوية يقول له:

[صفحه 160]

انا سرنا سيرنا هذا ونحن نکره قتالکم قبل الاعتذار اليکم. فقدمت لنا خيلک ورجالک فقاتلتنا قبل ان نقاتلک، ونحن من رأينا الکف حتي ندعوک ونحتج عليک. وهذه اخري قد فعلتموها، منعتم الناس عن الماء.. فأبعث الي اصحابک فليخلوا بين الناس وبين الماء... لننظر فيما بيننا وبينک، وفيما قدمنا له..

فأصر معاوية واصحابه علي المنع..

فلما علم علي بذلک قال:

قاتلوهم علي الماء... فقاتلوهم حتي خلوا بينهم وبين الماء.

وصار الماء في ايدي اصحاب علي، فقالوا:

والله لاتسقيه اهل الشام، فأرسل علي الي اصحابه ان خذوا من الماء حاجتکم وخلوا عنهم..

ثم ان عليا دعا أبا عمر وبشير بن عمرو بن محصن الانصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم: ائتوا هذا الرجل وادعوه الي الله والي الطاعة والجماعة... فأتوه.. فبتدأ بشير... وقال يامعاوية:

انشدک الله ان تفرق هذه الامة وتسفک دماءها بينها..

فقطع معاوية عليه الکلام وقال:

ونترک دم عثمان؟ والله لا افعل ذلک ابداً. فذهب سعيد بن قيس يتکلم فبادره شبث بن ربعي... فقال: يامعاوية.

والله لايخفي علينا ما تطلب، انک لم تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم الا قولک قد قتل امامک مظلوما، فنحن نطالب بدمه.. وقد علمنا انک ابطأت عنه بالنصر واحببت له القتل لهذه المنزلة التي اصبحت تطلب.

فاتق الله يا معاوية ولا تنازع الامر اهله، قال معاوية:

ان اول ماعرفت به سفهک... ان قطعت علي هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه، ثم... کذبت ولؤمت ايها الاعرابي الجلف...

[صفحه 161]

انصرفوا من عندي فليس بيني وبينکم الا السيف.. فأتوا عليا فأخبروه بذلک.. فجرت مناوشات بالسلاح بين الفريقين بدأها أهل الشام في اوخر عام 36 هـ.

ثم دخلت سنة 37 هـ وفيها جرت موادعة بين علي ومعاوية، توادعا علي ترک الحرب بينهما حتي ينقضي المحرم طمعاً في الصلح.

واختلف بينهما الرسل.. فلم يسفر ذلک عن شيء.. فلما انسلخ المحرم.. خرج معاوية وعمرو يکتبان الکتائب ويعبثان الناس.. وعلي يقول لاصحابه:

لا تقاتلوهم حتي يقاتلوکم، فأنتم علي حجة وترککم قتالهم حجة اخري، فاذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً، ولاتجهزوا علي جريح، ولاتکشفوا عن عورة، ولاتمثلوا بقتيل.

ولاتهتکوا ستراً، ولاتدخلوا داراً، ولاتأخذوا شيئاً، ولاتهيجوا امرأة وان شتمن اعراضکم وسببن امراءکم وصلحاءکم.

وکان علي يقول بهذا المعني لاصحابه في کل مکان».

ذلک مايتصل بالمرحلة التمهيدية لحرب صفين قبل ان ينشب القتال بين الطرفين، ونحسب ان القاريء قد لاحظ معنا جملة أمور:

منها: سعي الامام الي دعوة ابن ابي سفيان ـ بالطرق السليمة المألوفة ـ الي عدم شقه عصا الطاعة علي النظام، واحداث الفتنة بين المسلمين، ليتسني للخليفة ـ بعد ذلک ـ ان ينظر في الطلب الذي يقدمه له عمرو بن عثمان بن عفان ـ ولي عثمان حسب منطوق الآية التي ذکرناها ـ بشأن المتهمين بقتل عثمان کي يجري التحقيق اللازم ويتخذ الاجراءات القانونية بحق الجناة.

ولکن معاوية ألب الناس علي الامام واتخذ قميص عثمان ستاراً للخروج علي النظام؛ وسار بجيوشه متمرداً باغيا يريد العراق. واستولي علي ماء الفرات في موقع تجمع الجيشين ومنع اصحاب الامام الذين لم يخرجوا لقتاله بل للتفاوض معه عساه يثوب الي رشده فيحقن دماء المسلمين.

[صفحه 162]

فاضطر الامام الي دعوة اصحابه لقتالهم علي الماء فقط، بعد ان فشلت مساعي صعصعة ابن صوحان کما رأينا، وبعد أن بلغ العطش بأصحابه حداً لا يطاق.

وعندما اصبح الماء بحوزة اصحابه امرهم بالسماح لخصومه بالاستقساء.

ولم يثنه غدر ابن ابي سفيان وامشاجه ـ وخروجهم متمردين من الشام، وابتداؤهم اصحابه بالقتال وحجزهم الماء عنهم ـ عن مواصلة مساعيه السلمية.

فأرسل بشير الانصاري، وسعيد الهمداني، وشبث التميمي، لمفاوضة معاوية واقناعه بالانصياع الي اوامر الله وسنة الرسول.

فأغلظ معاوية لهم القول وشتمهم وطردهم بعد ان حاول ان يوقع ـ بين سعيد، وشبث ـ العداوة والبغضاء باثارة العصبية الجاهلية التي حاربها الاسلام. فأبي معاوية الا الاستمرار في الطيش والعبث بأرواح الناس ومقدراتهم والاستهانة بمباديء الدين الحنيف.

فحدث القتال المرير بين الجانبين وانهزمت قوي الشر امام جيوش الامام. فلجأ معاوية الي الحيلة والغدر ـ کعادته ـ فرفعت المصاحف وحصل التحکيم وخرج المارقون واغتيل الامام کما سنري.

وفي ضوء ما ذکرنا نستطيع ان نقول مرة اخري:

ان الصراع بين القاسطين وبين قوي الامام ماهو ـ في جوهره ـ الا صراع بين رجلين يختلفان ـ کل الاختلاف ـ في الخلق وفي العقيدة. فمعاوية: «رجل لم يردعه وازع عن التماس اي اسلوب... مشروع او غير مشروع للوصول الي هدفه وهو انتزاع الحکم من الامام ـ ولم ير حرجا في الدس، ولافي الغدر ولافي الادعاء الباطل.

فقد کان همه ان يغدر وان وطئت قدمه الملوثة قدس الحق وقيم الاخلاق.

وکانت الخطة التي درج عليها الامام تغاير ذلک.

لهذا فقد تباينت الاسلحة. فهي في يد علي معدومة وفي يد خصمه وفيرة، وتعددت ميادينها امام معاوية وضاقت حلقتها علي الامام ـ الا ما أقره منها الدين وارتضته المثل

[صفحه 163]

الانسانية الرفيعة»[11] .

وتباين المقربون کذلک في الخلق والدين والهدف. فهم عند علي من خيرة اصحاب النبي وهدفهم السير وفق مستلزمات الاسلام. وهم ـ عند معاوية ـ من الوصوليين الانتهازيين:

عمار بن ياسر ومن هم علي شاکلته من جهة، وعمرو بن العاص ومن لف لفه من جهة اخري.

وتباين الاتباع کذلک. فقد کان معاوية يحارب الامام «بمئة الف ما فيهم ـ علي حد قوله ـ من يفرق بين الناقة والجمل»[12] .

وقد بلغت طاعة اهل الشام لمعاوية حداً يفوق الوصف[13] .

فقد صلي بهم علي ما يذکر المسعودي ـ عند مسيرهم الي صفين ـ الجمعة: يوم الاربعاء، واعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها».

وفي معرض التحدث عن موقف اهل الشام ازاء معاوية.

يقول المسعودي[14] : ان احد اخوته من اهل العلم قال له: «کنا نقعد فنتناظر في ابي بکر وعمر، وعلي ومعاوية، فقالت لي ذات يوم بعض اهل الشام ـ وکان من اعقلهم. واکبرهم لحية ـ کم تظنون في علي ومعاوية؟

فقلت له: من هو علي؟ فقال... قتل علي في غزوة حنين مع النبي.

ولما خرج عبدالله بن علي في طلب مروان الي الشام... وجه الي ابي العباس السفاح اشياخا من اهل الشام من ارباب النعم والرئاسة، فحلفوا للسفاح انهم ما علموا لرسول الله قرابة ولا اهل بيت يرثونه غير بني امية حتي وليتم الخلافة»

[صفحه 164]

وکان ذلک دون شک من آثار معاوية في تضليل الناس والتغرير بهم. فيکون معاوية ـ بالاضافة الي ما ذکرنا ـ مسئولا عن تشويه کثير من حقائق التاريخ الاسلامي وتزوير حوادثه.

أما أساليبه في الغدر بمناوئيه وتدبير المؤمرات لاغتيالهم فمعروفة لدي الکثيرين، فقد دبر قضية سم الاشتر والحسن، بعد ان نکث عهده.

وتتلخص قضية الاشتر النخعي في ان الامام عليا قد ولاه مصر بعد ان عزل عنها محمد بن ابي بکر. «ولکن الاشتر لم يکد يصل الي القلزم حتي مات».

واکثر المؤرخين يتحدثون بأن معاوية اغوي صاحب الخراج في القلزم... ان هو احتال في موت الاشتر، فدس هذا الرجل للاشتر سما في شربة من عسل فقتله ليومه.

وکان معاوية وعمرو يتحدثان فيقولان ان لله جنودا من عسل»[15] ، وکان غدره يترواح بين الشدة واللين حسب الظروف، فيلجأ الي القسوة اذا اعيته الحيلة والمراوغة والدس، من ذلک مثلا:

انه اختار بسر بن ارطأة المعروف بقساوته، وسيره علي رأس جيش لتعقب خصومه.

وقد اوصي معاوية بسر بن ارطأة أن يقسو علي البادية من شيعة علي.

فمضي بسر ونفذ وصية معاوية واضاف لها من عنده قسوة وغلظة واسرافاً في الاستخفاف بالدماء، والاموال، والحقوق والحرمات، فکان کثير الفتک في البادية، وجاء المدينة فروع اهلها... وامرهم بالبيعة لمعاوية ففعلوا مرغمين.

ومضي الي اليمن ففر عنها عامل علي واعوانه.

ونشر فيها الروع بالاسراف في القتل، ثم اخذ البيعة لمعاوية.

وبلغ خبره علياً فأرسل جارية بن قدامة ليرده عن اليمن، ففر عنها بسر بن ارطأة ورجع الي الشام مفسداً في الارض اثناء رجوعه ومسرفاً في القتل والنهب حتي ذبح ابني عبيد الله بن العباس وکانا صبيين.

[صفحه 165]

ورد جارية اليمن الي طاعة الامام، وعاد الي مکة فعرف فيها ان عليا قد قتل»[16] .

يتضح مما ذکرنا ان خلق معاوية کان اقرب الي الوحشية منه الي الانسانية، علي انه کان في ـ وحشيته الخلقية ـ کالوحش المفترس تارة، وکالثعلب المراوغ تارة اخري اما الامام فکان انسانا کاملا في دينه، وسياسته واخلاقه، فقد امتلأت نفسه الکبيرة من خشية الله، وحب الناس، ونشر العدالة والاخاء بين المسلمين.

وکان موقف اتباعه منه ـ علي حقه ـ مغايراً لموقف اتباع معاوية له علي باطله کما رأينا.

والي القاريء طائفة من اقوال الامام لاتباعه وهو في احرج ساعات نزاعه مع مناوئيه: «أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليکم ليس لانهم اولي بالحق منکم ولکن لاسراعهم الي باطلهم وابطائکم عن حقي.

ولقد اصبحت الامم تخاف ظلم رعاتها، واصبحت اخاف ظلم رعيتي.

أيها الشاهدة ابدانهم الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة اهواؤهم المبتلي بهم امراؤهم، صاحبکم: يطيع الله وانتم تعصونه، وصاحب اهل الشام: يعصي الله وهم يطيعونه

والله لکأني بکم فيما اخالکم ان لو حمس الوغي وحمي الضرب قد انفرجتم عن ابن ابي طالب انفراج المرأة عن قبلها، واني لعلي بينة من ربي، ومنهاج من نبي، واني لعلي الطريق الواضح القطه لقطاً»[17] ، وقال في مکان آخر:

«ولکن بمن والي من! أريد ان اداوي بکم وانتم دائي» کناقش الشوکة بالشوکة

[صفحه 166]

وهو يعلم ان ضلعها معها»[18] وأشار الامام ـ في مناسبة اخري ـ الي العامل الرئيسي في تقاعسهم عن نصرة الحق فقال: «أتأمرونني ان أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟؟

والله لا اطور به ما سمر سمير... ولو کان المال لي لسويت بينکم فکيف وانما المال مال الله؟؟ وان اعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويکرمه في الناس ويهينه عند الله»[19] .

وخاطب اتباعه ـ في موقع آخر ـ فقال:

«أيتها النفوس المختلفة، الشاهدة ابدانهم والغائبة عنهم عقولهم، اظأرکم علي الحق وانتم تنفرون منه، هيهات ان اطلع بکم سرار العدل، او اقيم اعوجاج الحق؟؟

اللهم انت تعلم انه لم يکن الذي کان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولکن لنرد المعالم من دينک، ونظهر الاصلاح في بلادک»، فيأمن المظلومون من عبادک، وتقام المعطلة من سننک»[20]

[صفحه 167]

وخاطبهم في موقف آخر فقال: «لم تکن بيعتکم اياي فلتة[21] ؛ وليس امري وامرکم واحداً، اني اريدکم لله وانتم تريدونني لانفسکم.

ايها الناس اعينوني علي انفسکم، وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه، ولاقودن الظالم بخزامته حتي اورده منهل الحق وان کان کارها»[22] .

[صفحه 168]



صفحه 156، 157، 158، 159، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 166، 167، 168.





  1. المسعودي «مروج الذهب ومعادن الجوهر» 2 / 261.
  2. الدکتور طه حسين «الفتنة الکبري، علي وبنوه» ص 127.
  3. في حين ان ولي عثمان الذي يسوغ له المطالبة بدمه من الناحية الشرعية هو ابنة عمرو کما ذکرنا.
  4. عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 61.
  5. عبدالفتاح عبدالمقصود «الامام علي بن ابي طالب» 2 / 301.
  6. ليس لدي الباحث من الادلة المقنعة ما يمنعه من الاعتقاد باشتراک معاوية ـ بطريقة غير مباشرة ـ في التآمر علي قتل عثمان، فقد وهن العظم من عثمان وبلغ من الکبر عتيا. وليس من الممکن او المعقول ان تنتقل الخلافة الي معاوية دون ان يقتل عثمان، وان بقاء عثمان سنتين او ثلاثا في الحکم ـ وتعديل سيرته السياسية ـ لم يکن في صالح معاوية واذا لم يکن معاوية قد الب الناس علي الشيخ او خذلهم عن نصرته فقد تقاعس عن مساعدته في احرج الظروف، فقد ساهم في قتله من الناحية السلبية علي أسوأ الفروض. ذلک لان معاوية، بحکم مرکزه في الشام الذي استمر زهاء عشرين عاما کان هو الوالي الوحيد الذي باستطاعته انقاذ حياة ابن عفان. ويجمل بنا في هذا الصدد، ان نذکر القاريء بالمحاورة الطريفة التي جرت بين معاوية وابي الطفيل حول تقاعس کل منهما عن نصرة عثمان. فقد سأل معاوية ابا الطفيل ـ متخابثا ـ عن تقاعسه عن نصرة الخليفة، فأجاب هذا بأن تقاعسه کان ضمن التقاعس العام الذي ابداه المهاجرون والانصار. ثم وجه السؤال نفسه الي معاوية فأجابه بأن طلبه بدمه ـ في خلافة علي ـ نصرة له. فضحک ابو الطفيل ثم قال: انت وعثمان کما قال الشاعر:


    لا الفينک بعد الموت تندبني
    وفي حياتي ما زودتني زادي


    هذا الي ان معاوية باسناده امارة مصر لابن العاص ـ الذي عزله عثمان عنها فجعله من المؤلبين عليه ـ قد برهن بوضوح علي ان المطالبة بدم عثمان وسيلة للثورة علي علي.

  7. الاصابة في تمييز الصحابة 2 / 501 و 502.
  8. شرح نهج البلاغة 4 / 161 و 162.
  9. الکامل في التاريخ 2 / 9.
  10. ابن الأثير: «الکامل في التاريخ» 3 / 141 ـ 160.
  11. عبدالفتاح عبدالمقصود: «الامام علي بن ابي طالب» 5 / 66 و 67.
  12. عباس محمود العقاد: «عبقرية الامام» ص 50.
  13. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 334.
  14. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 51.
  15. الدکتور طه حسين: «الفتنة الکبري، علي وبنوه» ص 131.
  16. الدکتور طه حسين «الفتنة الکبري علي وبنوه» ص 150.
  17. «شرح نهج البلاغة» لابن ابي الحديد 2 / 182 ـ 185.

    )حمس الوغي. اشتد وعظم. الوغي في الاصل: الاصوات والجلبة، وسميت الحرب نفسها وغي لما فيها من ذلک. وانفراج المرأة عن قبلها أي وقت الولادة. وقوله القطه لقطا يريد ان الضلال غالب علي الهدي وأنه التقط طريقه من ههنا وههنا کما يسلک الانسان طريقاً دقيقة قد اکتنفها الشوک والعوسج من جانبيها کليهما فهو يلتقط النهج التقاطا(.

  18. ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» ص 261 و 262.

    ولکن بمن کنت اعمل ذلک والي من اخلد في فعله.. واما الحاضرون لنصرتي فأنتم وحالکم معلومة في الخلاف والشقاق والعصيان.

    واما الغائبون من شيعتي ـ کأهل البلاد النائية ـ فالي ان يصلوا قد بلغ العدو غرضه مني ولم يبق من اخلد اليه في اصلاح الامر وابرام هذا الرأي... الا اذا استعين ببعضکم علي بعض فأکون کناقش الشوکة بالشوکة.

    يقول: لا تستخرج الشوکة الناشبة في رجلک بشوکة مثلها فان احداهما في القوة والضعف کالاخري. فکما ان الاولي انکسرت لما وطئتها فدخلت في لحمک فالثانية ـ اذا حاولت استخراج الاولي بها ـ تنکسر في لحمک.

  19. ابن ابي الحديد «شرج نهج البلاغة» 2 / 305.
  20. المصدر نفسه 378 و 379 أظأرکم: اعطفکم.. والسرار آخر ليلة في الشهر وتکون مظلمة، ويمکن عندي: ان يفسر علي وجه آخر وهو: ان يکون السرار ههنا بمعني السرر، وهي: خطوط مضيئة في الجبهة.. فيکون معني الکلام هيهات ان تلمع بکم لوامع العدل، وتتجلي اوضاعه، ويبرق وجهه وهو يمکن ان يکون فيه ايضا وجه آخر وهو ان ينصب سرار ههنا علي الظرفية ويکون التقدير: هيهات ان اطلع بکم الحق زمان استسرار العدل واستخقائه فيکون قد حذف المفعول به.
  21. الفلتة: الامر يقع في غير تدبر ولا روية. وفي الکلام تعريض ببيعة ابي بکر لان المشهور عن عمر انه قال: «ان بيعة ابي بکر فلتة وقانا الله شرها».
  22. ابن ابي الحديد «شرح نهج البلاغة» 2 / 403.