مقتل محمد بن أبي بكر











مقتل محمد بن أبي بکر



ومن صخايا ملک معاوية العضوض، وذبايح حکومته الغاشمة، وليد حرم أمن الله، وربيب بيت العصمة والقداسة: محمد بن أبي بکر.

بعث معاوية عمرو بن العاص إلي مصر في ستة آلاف رجل، ومحمد بن أبي بکر عامل أمير المؤمنين عليها، فخرج عمرو وسار حتي نزل أداني أرض مصر فاجتمعت العثمانية إليه فأقام بهم وکتب إلي محمد بن أبي بکر:

أما بعد: فتنح عني بدمک يا ابن أبي بکر فإني لا احب أن يصيبک مني ظفر إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا علي خلافک ورفض أمرک، وندموا علي اتباعک، فهم مسلموک لو قد إلتقت حلقتا البطان، فاخرج منها فإني لک من الناصحين، والسلام. وبعث إليه عمرو بکتاب کتبه معاوية إليه ايضا وفيه:

أما بعد: فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفک الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا ومن التبعة الموبقة في الآخرة، وإنا لا نعلم أحدا کان أعظم علي عثمان بغيا، ولا أسوأ له عيبا، ولا أشد عليه خلافا منک، سعيت عليه في الساعين، وسفکت دمه في السافکين، ثم أنت تظن اني عنک نائم أو ناس لک، حتي تأتي فتأمر علي بلاد أنت فيها جاري، وجل أهلها أنصاري، يرون رأيي، ويرقبون قولي، ويستصرخوني عليک، وقد بعثت إليک قوما حناقا عليک تستسقون دمک، ويتقربون إلي الله بجهادک، وقد أعطوا الله عهدا ليمثلن بک، ولو لم يکن منهم إليک ما عدا قتلک ما حذرتک ولا أنذرتک، ولاحببت أن يقتلوک بظلمک وقطيعتک وعدوک علي عثمان يوم يطعن بمشاقصک بين خششائه وأوداجه، ولکن أکره أن امثل بقرشي، ولن يسلمک الله من القصاص أبدا أينما کنت والسلام.

فطوي محمد کتابيهما وبعث بهما إلي علي، وکتب إلي معاوية جواب کتابه:

أما بعد: فقد أتاني کتابک تذکرني من أمر عثمان أمرا لا اعتذر إليک منه، وتأمرني بالتنحي عنک کأنک لي ناصح، وتخوفني المثلة کأنک شفيق، وأنا أرجو أن تکون لي الدائرة عليکم فأجتاحکم في الوقيعة، وإن تؤتوا النصر ويکن لکم الامر في

[صفحه 65]

الدنيا فکم لعمري من ظالم قد نصرتم، ومن مؤمن قد قتلتم ومثلتم به؟ وإلي الله مصيرکم ومصيرهم، وإلي الله مرد الامور وهو أرحم الراحمين، والله المستعان علي ما تصفون، والسلام.

وکتب إلي عمرو بن العاص:

أما بعد: فقد فهمت ما ذکرت في کتابک يا ابن العاص! زعمت انک تکره أن يصيبني منک طفر وأشهد أنک من المبطلين، وتزعم انک لي نصيح واقسم انک عندي ظنين، وتزعم أن أهل البلد قد رفضوا رأيي وأمري وندموا علي اتباعي فاولئک لک وللشيطان الرجيم أولياء، فحسبنا الله رب العالمين، وتوکلنا علي الله رب العرش العظيم والسلام.

فأقبل عمرو بن العاص حتي قصد مصر فقام محمد بن أبي بکر في الناس فحمد الله وأثني عليه وصلي علي رسوله ثم قال:

أما بعد: معاشر المسلمين والمؤمنين! فإن القوم الذين کانوا ينتهکون الحرمة، وينعشون الضلالة، ويشبون نار الفتنة، ويتسلطون بالجبرية قد نصبوا لکم العداوة وساروا إليکم بالجنود، عباد الله! فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلي هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله، انتدبوا إلي هؤلاء رحمکم الله مع کنانة بن بشر.

فانتدب مع کنانة نحو من ألفي رجل وخرج محمد في ألفي رجل، واستقبل عمرو ابن العاص کنانة وهو علي مقدمة محمد، فأقبل عمرو نحو کنانة، فلما دنا من کنانة شرح الکتائب کتيبة بعد کتيبة، فجعل کنانة لا تأتيه کتيبة من کتائب أهل الشام إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتي يقر بها بعمرو بن العاص، ففعل ذلک مرارا فلما رأي ذلک عمرو بعث إلي معاوية بن حديج السکوني فأتاه في مثل الدهم[1] فأحاط بکنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من کل جانب، فلما رأي ذلک کنانة بن بشر نزل عن فرسه ونزل أصحابه وکنانة يقول: وما کان لنفس أن تموت إلا باذن الله کتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها، وسنجزي الشاکرين، فضاربهم بسيفه حتي استشهد رحمه الله.

وأقبل عمرو بن العاص نحو محمد بن أبي بکر وقد تفرق عنه أصحابه لما بلغهم قتل

[صفحه 66]

کنانة حتي بقي وما معه أحد من أصحابه، فلما رأي ذلک محمد خرج يمشي في الطريق حتي انتهي إلي خربة في ناحية الطريق فأوي إليها، وجاء عمرو بن العاص حتي دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتي انتهي إلي علوج في قارعة الطريق فسألهم هل مر بکم أحد تنکرونه؟ فقال أحدهم: لا والله إلا اني دخلت تلک الخربة فإذا أنا برجل فيها جالس. فقال إبن حديج: هو هو ورب الکعبة. فانطلقوا يرکضون حتي دخلوا عليه فاستخرجوه وقد کاد يموت عطشا فأقبلوا به نحو فسطاط مصر، ووثب أخوه عبدالرحمن بن أبي بکر إلي عمرو بن العاص وکان في جنده فقال: أتقتل أخي صبرا؟ ابعث إلي معاوية بن حديج فانهه. فبعث إليه عمرو بن العاص يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بکر، فقال معاوية: أکذاک قتلتم کنانة بن بشروا خلي أنا عن محمد بن أبي بکر؟ هيهات أکفارکم خير من اولئکم أم لکم براءة في الزبر؟ فقال لهم محمد: اسقوني من الماء؟ قال له معاوية بن حديج: لا سقاه الله إن سقاک قطرة أبدا، انکم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتي قتلتموه صائما محرما فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لاقتلنک ياابن أبي بکر فيسقيک الله الحميم والغساق. قال له محمد: يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلک إليک وإلي من ذکرت إنما ذلک إلي الله عزوجل يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وضرباؤک ومن تولاه، أما والله لو کان سيفي في يدي ما بلغتم مني هذا، قال له معاوية: أتدري ما أصنع بک؟ أدخلک في جوف حمار ثم أحرقه عليک بالنار. فقال له محمد: إن فعلتم بي ذلک فطال ما فعل ذلک بأولياء الله، وإني لارجو هذه النار التي تحرقني بها أن يجعلها الله علي بردا وسلاما کما جعلها علي خليله إبراهيم، وأن يجعلها عليک وعلي أوليائک کما جعلها علي نمرود وأوليائه، إن الله يحرقک ومن ذکرته قبل وإمامک يعني معاوية وهذا- وأشار إلي عمرو بن العاص- بنار تلظي عليکم کلما خبت زادها الله سعيرا.

قال له معاوية: إني إنما أقتلک بعثمان. قال له محمد: وما أنت وعثمان؟ إن عثمان عمل بالجور ونبذ حکم القرآن وقد قال الله تعالي: ومن لم يحکم بما أنزل الله فاولئک هم الفاسقون. فنقمنا ذلک عليه فقتلناه وحسنت أنت له ذلک ونظراؤک، فقد برأنا الله إن شاء الله من ذنبه وأنت شريکه في إثمه وعظم ذنبه وجاعلک علي مثاله. قال: فغضب

[صفحه 67]

معاوية فقدمه فقتله ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه بالنار. فلما بلغ ذلک عائشة جزعت عليه جزعا شديدا وقنتت عليه في دبر الصلاة تدعو علي معاوية وعمرو.[2] .

وفي النجوم الزاهرة 110:1: وقيل: إنه قطع رأسه وأرسله إلي معاوية بن أبي سفيان بدمشق وطيف به وهو اول رأس طيف به في الاسلام.

صورة اخري

وجه معاوية عمرو بن العاص في سنة ثمان وثلاثين إلي مصر في أربعة آلاف، ومعه معاوية بن حديج، وأبوالاعور السلمي، واستعمل عمرا عليها حياته فالتقوا هم ومحمد بن أبي بکر وکان عامل علي عليها بالموضع المعروف بالمسناة فاقتتلوا حتي قتل کنانة بن بشر، وهرب عند ذلک محمد لاسلام أصحابه إياه وترکهم له، فاختبأ عند رجل يقال له: جبلة بن مسروق، فدل عليه، فجاء معاوية بن حديج وأصحابه فأحاطوا به، فخرج إليهم محمد بن أبي بکر فقاتل حتي قتل، فأخذه معاوية بن حديج وعمرو بن العاص فجعلوه في جلد حمار وأضرموه بالنار، وذلک بموضع في مصر يقال له: کوم شريک. وقيل: انه فعل به ذلک وبه شيئ من الحياة، وبلغ معاوية قتل محمد وأصحابه فأظهر الفرح والسرور. وبلغ عليا قتل محمد وسرور معاوية فقال: جزعنا عليه علي قدر سرورهم، فما جزعت علي هالک منذ دخلت هذه الحرب جزعي عليه، کان لي ربيبا وکنت أعده ولدا، کان بي برا، وکان إبن أخي[3] فعلي مثل هذا نحزن وعند الله نحتسبه.[4] .

قدم عبدالرحمن الفزاري علي علي عليه السلام من الشام وکان عينه بها وحدثه: انه لم يخرج من الشام حتي قدمت البشراء من قبل عمرو بن العاص تتري يتبع بعضها بعضا بفتح مصر وقتل محمد وحتي أذن بقتله علي المنبر، وقال: يا أميرالمؤمنين! قلما رأيت

[صفحه 68]

قوما قط أسر، ولا سرورا قط أظهر من سرور رأيته بالشام حين أتاهم هلاک محمد بن أبي بکر فقال علي: أما إن حزننا عليه قدر سرورهم به بل يزيد أضعافا، وحزن علي علي محمد بن أبي بکر حتي رؤي ذلک في وجهه وتبين فيه، وقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثني عليه وصلي علي رسوله صلي الله عليه وسلم وقال: ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة اولو الجور والظلم الذين صدوا عن سبيل الله وبغوا الاسلام عوجا، ألا وإن محمد بن أبي بکر قد استشهد رحمه الله فعند الله نحتسبه، أما والله إن کان ما علمت لممن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شکل الفاجر، ويحب هدي المؤمن. الخطبة.[5] .

وقال أبوعمر: يقال: إن محمد بن أبي بکر أتي به عمرو بن العاص فقتله صبرا. وروي شعبة وابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: اتي عمرو بن العاص بمحمد بن أبي بکر أسيرا فقال: هل معک عهد؟! هل معک عقد من أحد؟! قال: لا فأمر به فقتل، وکان علي بن ابي طالب يثني علي محمد بن أبي بکر ويفضله لانه کانت له عبادة واجتهاد.[6] .

وقال ابن حجر: قيل: انه اختفي في بيت امرأة من غافق آواه فيه أخوها، وکان الذي يطلبه معاوية بن حديج، فلقيتهم أخت الرجل الذي کان آواه وکانت ناقصة العقل فظنت انهم يطلبون أخاها فقالت: أدلکم علي محمد بن أبي بکر علي أن لا تقتلوا أخي؟ قالوا: نعم. فدلتهم عليه، فقال: احفظوني لابي بکر. فقال معاوية: قتلت ثمانين من قومي في دم عثمان وأترکک وأنت صاحبه؟! تهذيب التهذيب 80:9.

قال الاميني: إن أمثال هذه الفظايع والفجايع لبمقربة من مغازي إبن العاصي وأذنابه، ومن مرضات إبن آکلة الاکباد الذين لم يبالوا بإراقة الدماء الزاکية منذ بلغوا أشدهم، ولا سيما من لدن مباشرتهم الحرب في صفين إلي أن إصطلوا نار الحطمة فلم يفتأوا والغين في دماء الاخيار الابرار دون شهواتهم المخزية.

وهب أن محمدا نال من عثمان ما حسبوه، فعجيب أن ينهض بثاره مثل معاوية

[صفحه 69]

المتثبط عنه يوم استنهضه عثمان حتي قتل، وعمرو بن العاصي القائل المبتهج بقتله بقوله: أنا أبوعبدالله قتلته وأنا بوادي السباع. وقوله: أنا أبوعبدالله إذا حککت قرحة نکأتها. وقوله: أنا أبوعبدالله قد يضرط العير والمکواة في النار.

وکان يألب عليه حتي الراعي في غنمه في رأس الجبل[7] وهلا ساق معاوية ذلک الحشد اللهام إلي عائشة الرافعة عقيرتها بين جماهير الصحابة: اقتلوا نعثلا قتله الله فقد کفر. وأمثالها من الکلم القارصة[8] وإلي طلحة والزبير وکانا أشد الناس عليه، وطلحة هو الذي منع عنه الماء في حصاره، ومنع الناس عن تجهيزه، ومنعه أن يدفن إلا في حش کوکب جبانة اليهود. إلي فظايع مر تفصيلها في الجزء التاسع 92 تا 111، وقال الشهرستاني في الملل والنحل ص 25: کان امراء جنوده: معاوية عامل الشام، وسعد بن أبي وقاص عامل الکوفة، وبعده الوليد بن عقبة، وعبدالله بن عامر عامل البصرة، وعبدالله بن أبي سرح عامل مصر، وکلهم خذلوه ورفضوه حتي أتي قدره عليه.

نعم: هؤلاء قتلوه لکن معاوية لا يريد المقاصة إلا من أولياء علي عليه السلام فيستأصل شأفتهم تحت کل حجر ومدر، ويستسهل فيهم کل شقوة وقسوة، وليس له مع أضداد علي عليه السلام أي مقصد صحيح، وإلا فأي حرمة لدم أجمعت الصحابة علي سفکه؟ واحتجت عليه بآي الذکر الحکيم کما مر تفصيله في الجزء التاسع ص 164 تا 205 و 168 لو لم يکن اتباع القوم بالصحابة والاحتجاج بما قالوا وعملوا واعتبارهم فيهم العدالة جميعا تسري مع الميول والشهوات، فيحتجون بدعوي إجماعهم علي خلافة أبي بکر (ولم يکن هنالک إجماع) ولا يحتجون به في قتل عثمان (وقد ثبت فيه الاجماع).

وهب أن محمد بن أبي بکر هو قاتل عثمان الوحيد من دون أي حجة ولا مبرر له وهو المحکوم عليه بالقصاص، وفي القصاص حياة، فهل جاء في شريعة الاسلام قصاص

[صفحه 70]

کهذا بأن يلقي المقتص به في جيفة حمار ثم يحرق بالنار، ويطاف برأسه في البلاد؟ هل هذا دين الله الذي کان يدين به محمد بن أبي بکر؟ أو دين هبل إله معاوية وإله آباءه الشجرة المنعوتة في القرآن؟

نحن نقص عليک نبأهم بالحق، فسوف يأتيهم أنباء ما کانوا به يستهزئون، إن الحکم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين.

[صفحه 71]


صفحه 65، 66، 67، 68، 69، 70، 71.








  1. الدهم: العدد الکثير. وجيش دهم. اي: کثير.
  2. تاريخ الطبري 58:6 تا 61، الکامل لابن الاثير 154:3، تاريخ ابن کثير 314 و 313: 7، النجوم الزاهرة 110:1.
  3. کان محمد بن ابي بکر اخا عبدالله بن جعفر بن أبي طالب لامته.
  4. مروج الذهب 39:2، تاريخ ابن کثير 314:7.
  5. تاريخ الطبري 62:6، کامل ابن الاثير 155:3.
  6. الاستيعاب 235:2، تهذيب التهذيب 81:9.
  7. راجع ما اسلفناه في الجزء التاسع ص 136 تا 140.
  8. راجع ما مر في الجزء التاسع ص 78 تا 86.