في معني القضاء و صواب الرأي و إرشاد القوم إلي مصالحهم











في معني القضاء و صواب الرأي و إرشاد القوم إلي مصالحهم



وِممَّا جَاءَ عَنْه عَلَيْهِ السَّلامُ في مَعنْي القَضَاءِ وصَوَاب الرَّأْي، وإِرْشَادِ القَوْمِ إِلي مَصَالِحِهِمْ وَتَدَارُکِ مَا کَادَ يَفْسُدْ بهِمْ[1] لَولاَ تَنْبيْهُهُ عَلي وَجْهِ الرَّأْي فِيْه؛مَا حَدَثَ بِهِ شَبَابَةُ بْنً سَوَّار، عن أَبي بَکْر الهُذًليّ قال: سَمِعْعتُ رِجَالاً مَنْ عُلَمَائنا يقولون: تَکاتَبَتِ الأعاجِمُ مِنْ أَهْلِ هَمَذانَ وأهلِ الرَّيِّ وأهل أَصْفَهانَ وقوْمِسَ[2] ونَهَاوَنْدَ، وأرْسَلَ بعضُهُمْ إلي بعضٍ:أَنَّ مَلِکَ العَرَب الذَّي جاءَ بدينِهِمْ وأخْرَجَ کِتابَهًمْ قد هَلَکَ- يَعْنُوْنَ النبي صلّي الله علَيه واله- وانهُ مَلَکَهُمْ مِنْ بَعْدِهِ

[صفحه 208]

رَجُل مُلْکاً يَسِيْراً ثمَّ هَلَکَ- يعنون أَبا بکر- وَقامَ بعده آخَرُ قَدْ طالَ عُمُرُهُ حتّي تَنَا اوَلَکُمْ في بلادِکُمْ وأَغْزَإکُمْ جُنُودَهُ- يعنون عُمَرَ بنَ الخَطَّاب- وأنه غيرمنتهٍ عَنکم حتي تُخرجوا من في بلادکم من جنوده، وتخرجوا إليه فتغزوه في بلاده، فتعاقدوا علي هذا وتعاهدوا عليه.

فلمّا انتَهي الخَبَرُإِلي مَنْ بِالکُوْفَةِ مِنَ المُسْلمين أَنهوه إلي عمربن الخَطّاب، فلمّا انتهي إليه الخبر فزع عمر لذلک فزعاً شديداً، ثمّ أتي مسجد رسول الله صلّي الله عليه واله فصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثمّ قال: معاشر المهاجرين والأَنصار، إِنّ الشيطان قد جمع لکم جُموعاً، وأقبل بها ليطفي نور الله، أَلا إِن أهل همذان وأهل اصفهان والري وقُومِس ونهاوند مختلفة أَلسنتُها وأَلوانها وأَديانُها، قد تعاهَدوا وتعاقدوا أن يُخرجوا من بلادهم إخوانکم من المسلمين، ويخرجوا إِليکم فيغزُوکم في بلادکمْ، فأَشيروا عليَّ وأَوجِزوا ولا تُطنبوا في القول، فإِنَّ هذا يومٌ له ما بعده من الأيام.

فتکلّموا، فقام طلحة بن عبيدالله- وکان من خطباء قريش- فحمد الله وأَثني عليه ثمّ قال: يا أميرالمؤمنين، قد حَنَکَتْک الأُمور، وجَرَّستک[3] الدهور، وعَجَمَتک البلايا، وأَحکمتک التجارب، وأَنت مُبارَک الأَمر، ميمون النقيبة، قد وليت فخَبَرت واختبرت وخُبِرت، فلم تنکشف من عواقب قضاء الله إلاّعن خيار، فاحضر هذا الأَمر برأيک ولا تَغِب عنه. ثمّ جلس.

فقاک عمر: تکلّموا، فقام عثمان بن عَفّان فحمد الله وأَثني عليه

[صفحه 209]

ثمّ قال: أما بعد- يا أميرالمؤمنين- فإِنّي أري أن تُشْخِص أهلَ الشام من شامهم، وأهلَ اليمن من يمنهم، وتسير أنت فِي أهل هذين الحرمين وأهل المصرين الکوفة والبصرة، فتلقي جمع المشرکين بجمع المؤمنين، فإِنّک- يا أميرالمؤمنين- لا تستبقي من نفسک بعد العرب باقيةً، ولا تُمَتَع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز، فاحضره برأيک ولا تغب عنه. ثمّ جلس.

فقال عمر: تکلّموا، فقال أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: «الحمد للّه- حتّي تم التحميد والثناء علي الله والصلاهَ علي رسول الله صلي الله عليه وآله- ثمّ قال: أما بعد، فانَکَ إِن أشخَصْتَ أهلَ الشام من شامهم، ساريَ الروم إِلي ذَراريهم؛وإِن أشخصْتَ أهل اليمن من يمنهم، سارت الحبشة إِلي ذَراريهم؛وإِن أشخصتَ مَنْ بهذين الحرمين، انتقضتِ العُرْب عليک من أطرافها وأکنافها، حتي يکون ما تدع وراء ظهرک من عيالات العرب أهمّ إِليک ممّا بين يديک. وأما ذکرُک کثرةَ العجم ورَهبتک من جُموعهم، فإِنّا لم نکن نُقاتل علي عهد رسول الله صلّي الله عليه وآله بالکثرة، وإنّما کُنّا نقاتل بالنصر، وأمّا ما بلغک من اجتماعهم علي المسير إِلي المسلمين، فإِنّ الله لمسيرهم أکره منک لذلک، وهو أولي بتغيير ما يکره، وِانّ الأعاجم إِذا نظروا إِليک قالوا: هذا رجل العرب، فإِن قطعتموه فقد قطعتم العرب، فکان أشدّ لکَلَبهم، وکنت قد ألّبتهم علي نفسک، وأمدّهم من لم يکن يُمدّهم. ولکنّي أري أن تقر هؤلاء في أمصارهم، وتکتب إِلي أهل البصرة فليتفرّقوا علي ثلاث فرق: فلتَقمْ فرقةٌ منهم علي ذراريهم حَرَساً لهم، ولتَقمْ فرقةٌ في أهل عهدهم لئلا ينتقِضوا، ولتسِرْ

[صفحه 210]

فرقةٌ منهم إِلي إِخوانهم مدداً لهم» فقال عمر: أجل هذا الرأي، وقد کنتُ أُحب أن أُتابع عليه. وجعل يکرّر قول أميرالمؤمنين عليه السلام وينسِقه إِعجاباً به واختياراً له[4] .

قال الشيخ المفيد رضي الله عنه: فانظروا- أيّدکم الله- إلي هذا الموقف الذي يُنبئ بفضل الرأي إِذ تنازعه أولو الألباب والعلم، وتأمّلوا التوفيقَ الذي قرن الله به أميرالمؤمنين عليه السلام في الأحوال کلّها، وفزع القوم إِليه في المعْضِل من الأمور، وأضيفوا ذلک إِلي ما أثبتناه عنه من القضاء في الدين الذي أعجز متقدّمي القوم حتّي اضطرّوا في علمه إِليه، تجدوه من باب المعجز الذي قدّمناه، والله وليّ التوفيق.

فهذا طرف من موجز الأخبار فيما قضي به أميرالمؤمنين عليه السلام في إِمارة عمر بن الخَطّاب، وله مثل ذلک في إمارة عثمان بن عفان.


صفحه 208، 209، 210.








  1. في «م» وهامش «ش»: يفسدهم.
  2. قومِسُ: تعريب کومس، وهي کورة کبيرة واسعة تشتمل علي مدن وقري ومزارع، وهي في ذيل جبال طبرستان، وقصبتها المشهورة دامغان وهي بين الري ونيسابور، ومن مدنها المشهورة بسطام وبيار وبعض يدخل فيها سمنان. «معجم البلدان 4: 414».
  3. جَرّسته الأمور. جربته وأحکمته. «الصحاح- جرس- 3: 913».
  4. انظر: تاريخ الطبري 4: 124، الفتوح لابن اعثم 1: 287- 292 بتفصيل، ونقله العلامة المجلسي في البحار 40: 253 / 28.