ذكر حجة الوداع ولحاق أميرالمؤمنين برسول الله











ذکر حجة الوداع ولحاق أميرالمؤمنين برسول الله



ثمّ تلا وَفْدَ نَجْران من القصص المُنْبِئَة عن فضل أميرالمؤمنين عليه السلام وتَخَصُّصِه من المناقب بما بان به من کافّة العباد، حجةً الوداع وما جري فيها من الأقاصيص، وکان فيها لأميرالمؤمنين عليه السلام من جليل المقامات. فمن ذلک أنّ رسولَ الله صلّي الله عليه وآله

[صفحه 171]

کان قد أنفذَه عليه السلام إلي اليمن ليخمِّسَ زکاتهافي «م» وهامش «ش»: رِکازها.

، ويَقْبِضَ ما وافق عليه أهلُ نجران من الحُلَل والعَينْ وغيرِذلک، فتوجّه عليه السلام لما نَدَبه إليه رسولُ الله صلّي الله عليه وآله،فأنجزه ممتثلاً فيه أمره مسارعاً إلي طاعته، ولم يَأْتَمِنْ رسولُ الله صلّي الله عليه وآله أحداً غيرَه علي ما ائتمَنه عليه من ذلک، ولا رأي في القوم من يَصْلَحُ للقيام به سواه، فأقامه عليه السلام مقامَ نفسه في ذلک واستَنابَه فيه، مطمئناً إِليه،ساکناً إلي نُهوضه بأعباء ما کَلَّفه فيه.

ثمّ اراد رسول الله صلّي الله عليه واله التوجه للحجّ وأداء فَرْض الله تعالي عليه فيه، فأذَّنَ في الناس به، وبَلَغَتْ دعوتُه عليه السلام أقاصِيَ بلاد الإسلام، فتجهَّزَ الناسُ للخروج وتأهَّبوا معه، وحَضَرَ المدينةَ من ضَواحيها ومِنْ حَوْلها وبفربِ منها خلقٌ کثيرٌ، وتهيَّأؤا للخروج معه، فخرج النبيُّ صلّي الله عليه وَآله بهم لخَمْسٍ بقين من ذي القعدة، وکاتَبَ أميرَ المؤمنين عليه السلام بالتوجه إلي الحجّ من اليمن ولمِ يَذْکُرْ له نوعَ الحجّ الذي قد عَزَمَ عليه، وخَرَجَ عليه وآله السلام قارِناً للحجّ بسِياق الهَدْي، وأحْرَمَ من ذِي الحُلَيْفَة[1] وأحْرَمَ الناسُ معه، ولبّي[2] عليه السلام من عند المِيل الذي بالبَيْداء، فاتَّصل ما بين الحرمين بالتَلبِيَة حتّي انتهي إلي کُرَاعِ الغَمِيم[3] ،

[صفحه 172]

وکان الناسُ معه رکباناً ومُشاةً، فشَقًّ علي المُشاة المسيرُ، وأجْهَدَهم السيرُ والتعبُ به، فشَکَوْا ذلک إلي النبي صلّي الله عليه وآله واستحْمَلُوه فأعلَمَهمُ أنه لا يَجدُ لهم ظَهْراً، وأمَرَهم أن يَشُدًّوا علي أوساطهم يخلِطوا الرَمَلَ[4] بالنَسًل[5] ، ففَعَلوا ذلک واستَراحوا إليه، وخَرَجَ أميرُ المؤمنين عليه السلام بمن معه من العَسْکَر الذي کان صَحِبَه إلي اليمن، ومعه الحُلَلُ التي أخَذَها من أهل نَجران.

فلمّا قارَبَ رسولُ الله صلّي الله عليه وآله مکّة مَن طريق المدينة، قارَبَها أميرُ المؤمنين عليه السلام من طريق اليمن، وتقدَّمَ الجَيشَ للقاء النبي صلّي الله عليه وآله وخَلَّفَ عليهم رجلاً منهم، فأدرک النبيَّ عليه وآله السلام وقد أشرَفَ علي مکّة، فسلَّم وخَبَّرهَ بما صنع وبقَبْض ما قَبَض، وأنّه سارع للقائه أمامَ الجَيش، فسُرَّ رسولُ الله صلّي الله عليه واله بذلک وابتَهَج بلقائه وقال له: «بما أهْلَلْت يا عليّ؟ فقال له: يا رسولَ الله، إنّک لم تکْتُبْ إليّ باهلالک ولا عَرَّفْتَنِيه[6] فَعَقَدْتُ نيتي بنيّتِک؛ وقلتُ: اللهمّ إهلالاً کإهلال نبيک، وسُقْتُ معي من البدن أربعاً وثلاثين بدنَةً، فقال رسولُ الله صلّي الله عليه وآله: الله أکبر، فقد سُقْت أنا سِتّاً وستّين، وأنت شريکي في حَجّي ومناسکي وهَدْي، فأقِمْ علي إحرامک وعُدْ إلي جَيشک فعَجِّل بهم إليَّ حتّي نجتمع بمکّة إن شاء الله».

[صفحه 173]

فودَعه أميرُ المؤمنين عليه السلام وعاد إلي جيشه، فَلقيَهم عن قُربٍ فوجدهم قد لَبِسُوا الحُلَلَ التي کانت معهم، فأنکر ذلک عليهم، وقال للذي کان استخلفه فيهم: «وَيلک، ما دعاک إلي أن تًعْطِيَهم الحُلَلَ من قبل أن نَدْفَعَها إلي النبي عليه وآله السلام ولم أکُنْ أَذِنْتُ لک في ذلک؟» فقال: سَألوني أن يتجمّلوا بها ويحرمُوا فيها ثمّ يردّونَها عليّ. فانتزعها أميرُ المؤمنين عليهَ السلام من القوم وشدَّها في الأعْدال فاضطَغنوا لذلک عليه.

فلمّا دخلوا مکّةَ کَثُرَتْ شکايتهم من أميرالمؤمنين عليه السلام، فأَمَرَ رسولُ الله صلّي الله عليه واله مناديه فنادي في الناس: «اِرْفَعوا ألسنتَکم عن عليّ بن أبي طالب، فإنه خَشِنٌ في ذات الله عزّوجلّ، غيرُ مُداهِنٍ في دينه» فکفَّ الناسُ عن ذِکره، وعَلِمُوا مَکانَه من النبي صلّي الله عليه وآله، وسَخَطَه علي من رام الغَمِيْزَةَ فيه. فأقام أميرُ المؤمنين عليه السلام علي إحرامه تأسّياً برسول الله صلّي الله عليه واله.


صفحه 171، 172، 173.








  1. ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة المنورة ستة أميال أوسبعة، وفيها ميقات أهل المدينة. «معجم البلدان 2:295».
  2. لبّي اي رفَع صوتَه بالتَلبية.
  3. کراع الغميم: واد في طريق المدينة إلي مکة المکرمة. «معجم البلدان 4: 443».
  4. الرَمَل: الهرولة. «الصحاح - رمل - 4: 1713».
  5. النسل: الرکض بسرعة. انظر«الصحاح - نسل - 5: 1830».
  6. في «م» وهامش «ش»: عرفته.