غزاة السلسلة و ما بان فيها من فضله دون باقي الصحابة











غزاة السلسلة و ما بان فيها من فضله دون باقي الصحابة



ثمّ کانت غَزاة السلسلة، وذلک أنَّ أعرابياً جاء إلي النبي عليه وآله السلام فجَثا بين يدَيْه وقال له: جئتُک لأنْصَحَ لک. قال: «وما نصيحتُک؟» قال: قوم من العرب قد اجتمعوا بواديَ الرَمْل، وعَمِلوا علي أن يًبَيّتُوک بالمدينة. ووَصَفهم له.

فأمر النبيُّ صلّي اللّه عليه وآله أن يُنادي بالصلاة جامعة، فاجتَمَعَ المسلمون فصَعِدَ المِنْبَر، فحمد الله وأثنيَ عليه، ثمّ قال: «أيّها الناسُ، إنّ هذا عدوُّ اللّه وعدوُّکم قد عَمِل علي تبييتکم، فمَنْ لهم؟» فقام جماعةٌ من أهل الصُفّة، فقالوا: نحن نَخْرج إليهم - يا رسولُ الله - فولِّ علينامَنْ شئتَ. فأقْرَعَ بينهم، فخرجتِ القُرْعةُ علي ثمانين رجلاً منهم ومن غيرهم،فاستدعي أبا بکر فقال له: «خُذ الراية في «م» وهامش «ش»: اللواء.

[صفحه 163]

وامضِ الي بَني سلَيْم فإنّهم قريبٌ من الحَرَّة» فمض ومعه القوم حتّي قارب أرضَهم، فکانت کثيرةَ الحجارة والشجر، وهم ببَطْن الوادي، والمنحدَرُ إليه صعبٌ.

فلمّا صار أبو بکر إلي الوادي وأراد الانحدار خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً کثيراً، وانهزم أبوبکرمن القوم.

فلمّا وَرَدوافي «م» وهامش «ش»: قدموا.

علي النبي صلّي الله عليه واله عَقَد لعُمَر بن الخَطّاب وبعثه إليهم، فکَمنوا له تحت الحجارة والشجر، فلمّا ذهب ليَهْبِط خرجوا إليه فهزموه.

فساء رسولُ الله صلّي الله عليه واله ذلک، فقال له عمرو بن العاص: اِبعَثْني - يا رسولَ الله - إليهم، فإنّ الحربَ خُدعةٌ، ولَعَلّي أخْدَعُهم. فأنفذه مع جماعة ووصّاه، فلما صار الي الوادي خرجوا إليه فهزموه، وقَتَلوا من أصحابه جماعةً.

ومکث رسولُ الله صلّي الله عليه وآله أيّاماً يدَعُو عليهم،ثمّ دعا اميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فعَقَد له، ثمّ قال: «أرسلتُه کرّاراً غيرَ فَرّار» ورفع يديه إلي السماء وقال: «اللهمّ إن کنتَ تَعلم أنّي رسولُک، فاحفَظني فيه وافعَلْ به وإفعَلْ» فدعا له ما شاء الله.

وخَرَج عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، وخَرَج رسولُ الله صلّي الله عليه وآله لتشييعه، وبَلَغ معه الي مسجد الأحزاب،وعليّ عليه

[صفحه 164]

السلام علي فرَس أشْقَرَ مَهْلوبالمهلوب: هو المقصوص شعر الهلب، وهو الذنب. «القاموس المحيط 1: 140».

، عليه بُردان يمانيان، وفي يده قَناةٌ خَطِيةالخط: موضع باليمامة، وهو خط هجر، تنسب إليه الرماح الخطَية، لأنها تحمل من بلاد الهند فتقوّم به. «الصحاح - خطط - 3: 1123».

، فَشَيَّعه رسولُ الله صلّي الله عليه واله وأنفذَ معه فيمن أنفذ أبا بکر وعُمَر وعَمرو بن العاص، فسار بهم عليه السلام نحوَ العراق مُتَنکّبْاً للطريق حتّي ظَنّوا أنّه يُريد بهم غيرَذلک الوجه، ثمّ أخَذَ بهم علي مَحَجَّة غامِضة، فسار بهم حتّي استقبل الوادي من فمه، وکان يَسيرُ الليل وَيکْمن النهار.

فلمّا قَرب من الوادي أمر أصحابَه أنَ يکْعَمواکعم بعيره أو فرسه: شدّ فمه کي لا يظهر منه صوت.[1] الخيلَ، ووَقَفَهم مکاناً وقال: «لا تَبْرحوا» وانتبذ أمامَهم فأقامَ ناحيةً منهم.

فلمّا رأي عَمرو بن العاص ما صَنَع لم يَشُکَّ أنَ الفتح يکون له، فقال لأبي بکر: أنا أعلم بهذه البلاد من عليّ، وفيها ما هوأشدُّ علينا من بني سُلَيْم، وهي الضِباع والذِئاب، وإن خرجَتْ علينا خشيتُ أن تُقَطِّعنا، فکَلِّمْه يَخْلُ عنّا نَعْلو الوادي.

قال: فانطَلَق أبو بکر فکلَّمَه فاطال، فلم يُجِبْه أميرُ المؤمنين عليه السلام حرفاً واحداً، فرَجَعَ إليهم فقال: لا والله ما أجابَني حرفاً.

فقال عَمرو بن العاص لعُمَر بن الخَطّاب: أنتَ أقوي عليه، فانطلق عمَر فخاطبه فصَنَع به مثلَ ما صَنَع بأبي بکر، فرَجَع إليهم

[صفحه 165]

فأخبرَهم أنّه لم يُجبه.

فقال عَمرو بن العاص: إنّه لا ينبغي أن نُضَيِّعَ أنْفسَنا، اِنطلقوا بنا نعلو الوادي، فقال له المسلمون: لا والله لا نَفْعَل، أمَرَنا رسولُ الله صلّي الله عليه وآله أن نَسْمَعَ لِعَليٍّ ونُطيع، فَنتْرُک أمرَه ونسمَعُ لک ونُطيعُ؟!

فلم يزالوا کذلک حتي احسَّ أميرُ المؤمنين عليه السلام الفجرَ، فکَبَس کَبَسُوا دار فلان: أغاروا عليه فجأة.[2] القومَ وهم غارّون أي غافلون.

، فأمکنهُ الله منهم، ونزلت علي النبي صلّي الله عليه وآله: (وَالْعَادِيَاتِ ضبْحاً...)[3] إلي آخرالسورة، فبَشَّرَ النبيُ صلّي الله عليه وآله أصحابَه بالفتح، وأمرهم أن يستَقْبِلوا أميرَ المؤمنين عليه السلام فاستقبَلوه، والنبيُّ صلّي الله عليه وآله يَقْدًمُهم فقاموا له صَفّين.

فلمّا بَصُرَ بالنبي صلّي الله عليه وآله تَرَجَّل عن فرسه، فقال له النبي عليه وآله السلام: «اِرْکَبْ فإنّ الله ورسولَه راضيان عنک» فبکي أميرُ المؤمنين عليه السلام فَرَحاً، فقال له النبي صلّي الله عليه وآله: «يا عليّ، لولا أنّني أُشْفِقُ أن تقولَ فيک طوائفُ من اُمتي ما قالت النصاري في المسيح عيسي بن مريم، لقلتُ فيک اليومَ مَقالاً لا تَمُرُّ بملأٍ من الناس إلاّ أخذوا الترابَ من تحت قدَمَيْک».

[صفحه 166]

فکان الفتحُ في هذه الغَزاة لأَمير المؤمنين عليه السلام خاصّةً، بعد أن کان من غيره فيها من الإفساد ما کان، واختصَّ عليه السلام من مَديح النبي صلّي الله عليه واله فيها بفضائل لم يَحْصُل منها شيءٌ لغيره وبان له من المنقبة فيها ما لم يَشْرَکه فيه سواء.


صفحه 163، 164، 165، 166.








  1. اُنظر «الصحاح - کعم - 5: 2023».
  2. «الصحاح - کبس - 3: 969».
  3. العاديات 100: 1.