غزوة تبوك و استخلاف رسول الله له في المدينة











غزوة تبوک و استخلاف رسول الله له في المدينة



ثم کانت غَزاة تَبوک، فاوحي اللهُ تبارک وتعالي اسمه إلي نبيه صلّي اللة عليه واله: أن يَسيرَ إليها بنفسه، ويستنفِرَ الناسَ للخروج معه، وأعلمه أنّه لا يحتاجُ فيها إلي حَرْب، ولا يمني بقتال عدُوٍّ، وأنّ الأمورَ تنقادُ له بغير سَيف، وتَعَبَّدهَ بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم، ليتميّزوا بذلک وتظَهرَ سرائرهُم.

فاستنفرهم النبي صلّي اللّه عليه وآله إلي بِلاد الروم، وقد أيْنَعَتْ ثمارهم واشتدَّ القَيْظُ عليهم، فابطأ أکثرهُم عن طاعته، رغبةً في العاجل، وحِرصاً علي المعيشة وإصلاحِها، وخوفاً من شدّة القَيْظ

[صفحه 155]

وبُعْدِ المسافة[1] ولقاءِ العدوّ، ثمّ نهض بعضُهم علي استثقال للنهوض، وتخلّف آخرون.

ولما أراد رسولُ الله صلّي اللّه عليه وآله الخروجَ استخلف أميرَ المؤمنين عليه السلام في أهله وولده وأزواجه ومهاجره، وقال له، «يا عليُّ إنّ المدينةَ لا تَصْلَحُ إلاّ بي أو بک».

وذلک أنّه عليه السلام عَلِم من خُبث نيّات الأعراب، وکثيرٍ من أهل مکّة ومَن حولها، ممّن غَزاهم وسَفکَ دماءهم، فأشْفَقَ أن يَطلبُوا المدينةَ عند نَأيه عنها وحصُولهِ ببلاد الروم أو نحوها، َفمتي لم يکنْ فيها من يقومُ مَقامه، لم يُؤْمَنْ مِن مَعَرَّتهم، وإيقاع الفَساد في دار هِجرته، والتخطّي إلي ما يَشين أهلَه ومُخَلَّفِيه.

وعَلِم علهيه السلام أنّه لا يقوم مقامَه في إرهاب العدُوّ وحراسة دار الهجرة وحِياطَة من فيها، إلاّ أميرُ المؤمنين عليه السلام، فاستخلفه استخلافا ًظاهراً،ونَصَّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جلياً.

وذلک فيما تظاهرت به الرواية أنَّ أهلَ النفاق لمّا عَلِموا باستخلاف رسولِ الله صلّي اللّه عليه وآله عليّاً عليه السلام علي المدينة، حَسَدُوه لذلک وعَظُم عليهم مُقامُه فيها بعد خروجه، وعلِموا أنها تَنْحَرِس به، ولا يکون للعدوّ فيها مَطْمَع، فساءهم ذلک، وکانوا يؤثرون خروجَه معه، لِما يَرجُونه من وقوع الفَساد والاختلاط عند نأيِ النبي صلّي اللّه عليه وآله عن المدينة، وخُلُوّها من مرهوب مخوفٍ يَحرُسُها.

[صفحه 156]

وغَبطوه عليه السلام علي الرفاهيّة والدَعَةِ بمُقامه في أهله، وتکلّفِ من خرج منهم المشاقَّ بالسفر والخَطَر.

فأرجَفوا به عليه السلام وقالوا: لَمْ يستخلفه رسول اللّه صلّي الله عليه واله إکراماً له وإجلالاًَ ومودّةً، وإنّما خَلّفه استثقالاً له. فبَهَتوه بهذا الإرجاف کبَهْتِ قُريش للنبي عليه وآله السلام بالجنَّة تارةً، وبالشعر أُخري، وبالسِحر مرّة، وبالکِهانة اُخري.وهم يعَلَمون ضِدَّ ذلک ونقيضَه، کما عَلِم المنافقون ضِدَّ ما أرجفوا به علي أميرالمؤمنين عليه السلام وخلافَه، وأَنّ النبيَ صلّي الله عليه وآله کان أخصّ الناس بأميرالمؤمنين عليه السلام، وکان هو أحبَّ الناس إليه وأسعدَهم عنده وأفضلَهم لديه.

فلمّا بلغَ أميرَ المؤمنين عليه السلام إرجافُ المنافقين به، أراد تکذيبَهم وإظهارَ فَضيحتهم، فلَحِق بالنبي صلّي الله عليه وآله فقال: «يا رسولَ الله، إنّ المنافقين يَزْعًمون أنّک إنّما خَلَّفْتَني استثقالاً ومَقْتاً! فقال له رسولُ الله صلّي اللّه عليه وآله: اِرجِع يا أخي إلي مکانک، فإنّ المدينَة لا تَصْلَحُ إلاّ بي أو بک، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضي أن تکون منّي بمنزلة هارون من موسي، إلاّ أنَّه لا نبيَّ بعدي».

فتضمّن هذا القول من رسول الله صلّي اللّه عليه واله نصَّه عليه بالإمامة، وإبانته عن الکافّة بالخلافة، ودلّ به علي فضلٍ لم يَشْرَکه فيه سواه، وأوجَب له به عليه السلام جميعَ منازل هارون من موسي، إلاّ ما خصّه العُرْف من الاخُوّة واستثناه هو عليه السلام من النبوّة.

[صفحه 157]

ألا تري أنّه عليه وآله السلام جَعَل له کافّةَ منازل هارون من موسي، إلاّ المستثني منها لفظاً أوعقلًا. وقد علم کلُّ من تأمَّلَ معانيَ القران، وتصفّح الروايات والأخبار، أنّ هارون عليه السلام کان أخَا موسي لأبيه وأُمهِ وشريکَه في أمره، ووزيرَه علي نبوّته وتبليغِه رسالات ربّه، وأنّ الله تعالي شَدَّ به أزرَه، وأنّه کان خليفتَه علي قومه، وکان له من الإمامة عليهم وفَرْضِ الطاعةِ کإمامتهُ وفَرْضِ طاعته، وأنّه کان أحبَ قومه[2] إليه وأفضلَهم لديه.

قال الله عزّ وجل حاکياً عن موسي عليه السلامِ: (قَالَ رَبِّ أشْرَحْ لي صَدْرِي َ* ويسِّرْلِي أمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةَ مِنْ لِسَاني* يَفْقَهُوا قَوْلي * وَاجْعَلْ لي وَزيراً مِنْ اَهْلي * هَارُونَ اَخِي * اُشْدُدْ بِهِ اَزْرِي َ* وَأَشْرِکْهُ في اَمرِي)[3] فأجابَ اللّه تعالي مسألتَه وأعطاه سُؤْلَهُ في ذلک واُمنيته، حيث يقول: (قَدْ اُوتيتَ سُؤْلَکَ يَا موسي)طه 20: 36.

وقال حاکياً عن موسي عليه السلام:(وَقَالَ مُوسي لأخيهِ هَارُونَ اخْلًفْني فِي قَوْمِي وَاَصْلحْ وَلاَ تَتبِعْ سَبِيلَ اْلمفسْدِينَ) الأعراف 7: 142.

.

فلما جًعَل النبيُ صلّي الله عليه واله عليّاً عليه السلام منه بمنزلة هارون من موسي، أوجَب له بذلک جميعَ ما عَدَدناه، إلاّ ما خصَّه العُرْفُ من الأخُوّهَ واستثناه من النُبؤَة لفظاً.

وهذه فضيلةٌ لم يشرَک فيها أحدٌ من الخلق أميرَ المؤمنين عليه

[صفحه 158]

السلام ولا ساواه في معناها ولا قاربه فيها علي حال، ولو عَلِم اللّه تعالي أنَّ بنبيّه عليه السلام في هذه الغَزاة حاجةً إلي الحرب والأنصار، لمَا أذِنَ له في تخليفِ أميرالمؤمنين عليه السلام عنه حَسَب ما قدّمناه، بل عَلِم أنّ المصلحةَ في استخلافه، وأنً إقامتَه في دار هِجرته مُقامه أفضلُ الأعمال، فدبَّر الخلقَ والدين بما قضاه في ذلک وأمضاه، علي ما بيّناه وشرحناه.


صفحه 155، 156، 157، 158.








  1. وَجّ: الطائف. «معجم البلدان 5: 361».
  2. هامش «ش» و «م»: الخلق.
  3. طه 20: 25 ـ 32.