ما بان من فضله و شجاعته في غزوة حنين
فلمّا التقَوْا مع المشرکين لم يَلْبَثوا حتي انهزموا بأجمَعِهم، فلم يَبْقَ منهم مع النبي صلّي اللّه عليه واله إلاّ عشرةُ أنفس: تسعةٌ من بني هاشم خاصّةً، وعاشرُهم أيمنُ بن أُمّ ايمَن، فقًتِل أَيْمَن - رحمه الله - وثبت تسعة النفر الهاشميّون حتي ثابَ إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله من کان انهزم، فرجعوا أوّلاً فأوّلاً، حتي تلاحَقوا، وکانت الکَرة لهم علي المشرکين. وفي ذلک أنزل الله تعالي وفي إعجاب أبي بکر بالکثرة: (وَيَوْمَ حنين اِذْ اَعْجَبَتْکُمْ کَثْرَتکُمْ فَلَمْ تغْنِ عَنْکُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْکُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرينَ [صفحه 141] رَسُولِهِ وَعليَ الْمُؤْمِنينَ)[2] يعني أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ومن ثبت معه من بني هاشم يومئذٍ وهم ثمانية - أميرالمؤمنين تاسعهم -: العَباسُ بن عبدِ المطّلب عن يمين رسول اللّه. والفَضْلُ بن العباس بن عبد المطلب عن يساره. وأبوسفيان بن الحارث مُمْسِکٌ بسَرْجه عند ثَفَر[3] بَغْلتَه. وأميرُ المؤمنين عليه السلام بين يَدَيْه بالسيف. ونَوْفَلُ بن الحارث، ورَبيعةُ بن الحارثِ، وعبدالله بن الزُبَير بن عبد المطلب، وعُتْبةٌ ومُعَتِّبٌ ابنا أبي لَهَبٍ حوله. وقد وَلَت الکافَةُ مُدبِرين سوي من ذکرناه، وفي ذلک يقول مالکُ بن عُبادة الغافقي: لم يُواسِ النبيَّ غيرُبَني ها هَرَبَ الناسُ غيرَتسعةِ رَهْطٍ ثُمَّ قامُوامع النبي علي المَوْ وثَوئ أيمنُ الأمين من القَوْ وقال العبّاسُ بن عبد المطّلب رضي الله عنه في هذا المقام: نَصرَنا رسولَ الله في الحَرْب تسعة * وقَدْ فَرّ مَنْ قَدْ فَرَّ عنه فأقْشَعُوا [صفحه 142] وَقَوْلي إذا ما الفَضْل شَدََّ بسَيْفه وعاشرنا لاقَي الحِمامَ بنَفْسه يعني به أَيْمَنَ بن أُمّ أَيْمَن. ولمّا رأي رسولُ اللّه صلّي اللّه عليه واله هزيمةَ القوم عنه، قال للعبّاس رضي اللّه عنه - وکان رجلاً جَهْوَرِيّاً صَيّتاً -: «نادِ في القوم وذَکِّرْهم العَهْد» فنادي العّباسُ بأعلي صوته: يا أهلَ بَيْعَةِ الشجرة[4] ، يا اصحابَ سورة البقرة[5] إلي أين تَفِرّون؟ اُذْکُروا العهدَ الذي عاهدتم[6] عليه رسول الله صلّي الله عليه وآله، والقومُ علي وُجوهِهم قد وَلَّوْا مُدْبِرين، وکانت ليلةً ظَلماء، ورسولُ الله في الوادي والمشرکون قد خَرَجُوا عليه من شِعاب الوادِي وجَنَباته ومَضايِقِه مُصْلِتين بسيوفهم وعمدهم وقِسيّهم. قالوا: فنظَرَرسولُ الله صلّي الله عليه واله إلي الناس ببعض وجهه في الظَلْماء، فأضاءَ کأنّه القمرُ ليلةَ البَدْر. ثمّ نادي المسلمين: «أينَ ما عاهدتم اللّه عليه؟» فأسمع أوّلهُم وآخِرهم، فلم يَسْمَعْها رجلٌ إلاّ رَمي بنفسه إلي الأرض، فانحدَرُوا إلي حيث کانوا من الوادي، حتّي لحِقوا بالعدو فواقعوه. قالوا: وأقبل رجلٌ من هَوازِن علي جَمَل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رُمْحٍ طويلٍ أمامَ القوم، إذا أدرک ظَفَراً من المسلمين [صفحه 143] اکَبَّ عليهم، وإذا فاتَه الناسُ رَفَعه لمَن ؤراءه من المشرکين فاتَّبعوه، وهو يرتجز ويقول: أنَا أبو جَرْوَلَ لأ بَراح فصمِد له أميرُ المؤمنين عليه السلام فضرب عَجُز بَعيره فصَرَعه، ثم ضربه فقَطَّره[8] ، ثم قال: قدعَلِم القومُ لدي الصَباح فکانت هزيمةُ المشرکين بقَتْل أبي جَرْوَل لعنه الله. ثمّ التأم المسلمون وصَفّوا للعدو، فقال رسول اللّه صلّي الله عليه وآله: «اللّهم إنّک أَذَقْتَ أوّلَ قريشٍ نکالاً فأَذِقْ آخِرَها نوالاً» وتجالَدَ المسلمون والمشرکون، فلمّا رآهم النبيُّ عليه واله السلام قام في رِکابَيْ سَرْجِهِ حتّي أشرف علي جماعتهم وقال: «الآن حَمِيَ الوطيس[9] : أَنَا النبيُّ لأ کَذِب فما کان بأسرع مِن أن وَلّي القومُ ادبارَهم، وجيءَ بالأَسْري إلي رسول اللّه صلّي الله عليه واله مُکَتَّفِين. [صفحه 144] ولمّا قَتَل أميرالمؤمنين عليه السلام أبا جَرْوَل وخُذِلَ القومُ لقتله، وَضَع المسلمون سيوفهم فيهم، وأميرُ المؤمنين عليه السلام يَقْدُمهم حتّي قتل أربعين رجلاً من القوم، ثمّ کانت الهزيمة والأَسْر حينئذٍ، وکان أبو سفيان صَخْر بن حَرْب بن اُميّة في هذه الغَزاة، فانهزم في جُملة من انهزم من المسلمين. فرُوِي عن معاوية بن أبي سفيان أنّه قال: لَقيت أبي منهزماً مع بني أبيه من أهل مکّة، فصِحْت به: يا بن حرب واللّه ما صبرتَ مع ابن عمِّک، ولا قاتلتَ عن دينک، ولا کَفَفْتَ هؤلاء الأَعرابَ عن حريمک. فقال: مَنْ أنت؟ فقلت: معاوية، قال: ابن هِند؟ قلت: نعم. قال: بأبي أنت واُمي، ثمَّ وَقَف فاجتمع معه أناسٌ من أهل مکّة، وانضممتُ إليهم ثمّ حَمَلنْا علي القوم فضَعْضَعْناهم، وما زال المسلمون يَقْتلُون المشرکين ويَأسرون منهم حتّي ارتفع النهار، فأمر رسولُ الله صلّي الله عليه واله بالکَفّ عنه ونادي: أنْ لا يُقْتَلَ أسيرٌ من القوم. وکانت ئذَيْلٌ بَعَثَتْ رجلاً يقال له ابنُ الأکْوَع[10] أيامَ الفتح عيناً علي النبي عليه السلام حتّي عَلِمَ عِلْمه، فجاء إلي هُذَيْل بخَبَره فاُسِر يوم حُنَين، فمرّ به عُمَر بن الخطاب، فلمّا رآه أَقْبَلَ علي رجل من الأنصار وقال: عَدوّ اللّه الذي کان عَيْناً علينا، ها هو أسيرٌ فاقتُلْه، فضَرَب الأنصاريُ عنقَه، وبلغ ذلک النبي صلّي الله عليه وآله فکَرِهَهُ وقال: «ألم آمرُکم ألاّ تَقْتلوا أسيراً!». [صفحه 145] وقُتِل بعده جَميلُ بن مَعْمَر بن زهَير وهو أسير.
ثمّ کانت غَزاة حنَين، استظهَرَ رسولُ الله صلّي اللّه عليه وآله فيها بکِثرة الجَمْع، فَخَرج عليه السلام متوجّهاً إلي القوم في عشرة الاف من المسلمين، فظَنَّ أکثرُهم أنّهم لن يُغْلَبوا لمِا شاهَدوه من جمعهم وکثرة عُدَّتِهم وسِلاحهم، وأعْجَب أبا بکر الکثرةَ يومَئذٍ فقال: لن نُغلب اليوم من قلة، فکان الأمر في ذلک بخلاف ما ظنّوه، وعانهم[1] أبوبکر بعجبه بهم.
ثُمَّ أنْزَلَ أللّهُ سَکِينَتهُ عَلي
شِم عندالسُيوف يومَ حُنَيْن
فهُمُ يَهْتِفون بالناس أيْن
تِ فآبوا ْزيناً لنا غيرَشَينْ
مِ شَهيداً فاعتاضَ قُرَّةَ عَيْن
عَلَي القَوْم أُخري - يابُنيَّ - ليَرْجعُوا
لما نالَه في اللهِ لا يَتَوَجَّع
حتّي نُبيحَ القومَ[7] أو نُباح
أنّي في الهَيْجاء ذو نِصاح
أَنَا ابنُ عَبدِ المُطَّلِب»
صفحه 141، 142، 143، 144، 145.
قال الأصمعي: يضرب مثلاً للأمر اذا اشتد. «لسان العرب - وطس - 6:255».