غزوة خيبر و ما بان فيها من فضله دون الجميع











غزوة خيبر و ما بان فيها من فضله دون الجميع



ثمّ تلت الحُدَيبيةَ خَيْبُر، وکان الفتحُ فيها لأميرالمؤمنين عليه السلام بلا ارتياب، وظَهَر من فضله في هذه الغَزاة (ما اجتمع علي نقله)[1] الرُواة، وتفرّد فيها من المناقب بما لم يَشْرکه فيه أحدٌ من الناس.

فروي محمّد بن يحيي الأزْدِيّ،عن مَسْعَدة بن اليَسَع وعُبَيْدالله[2] ابن عبد الرحيم، عن عبد المَلِک بن هِشام ومحمّد بن إسحاق وغيرهم من أصحاب الآثار قالوا: لمّا دنا رسولُ الله صلّي الله عليه واله من خَيبر، قال للناس: «قِفُوا» فوقف الناسُ، فرَفَع يدَيْه إلي السماء وقال: «اللهمّ ربَّ السماوات السبع وما أظْلَلن، وربَّ الأرضينَ السبع وما

[صفحه 125]

أقْلَلن، وربَّ الشَياطين وما أضْلَلن، أسالک خيرَ[3] هذه القَرْية وخيرَما فيها، وأعوذُ بک من شرّها وشرّ ما فيها«ثمّ نزل تحت شجرةٍ (في المکان)[4] فأقام وأقمنا بقية يومنا ومِن غده[5] .

فلمّا کان نصفَ النهار نادانا منادي رسول الله صلّي اللّه عليه وآله، فاجتمعنا إليه فإذا عنده رجلٌ جالسٌ، فقال: «إنّ هذا جاءني وأنا نائم، فسَلَّ سيفي وقال: يا محمّد، مَن يَمْنَعک منّي اليوم! قلت: الله يَمْنَعني منک، فشامَ السيف[6] وهو جالس کما تَرَوْن لا حَراک به» فقلنا: يا رسولَ الله، لعلّ في عقله شيئاً، فقال رسول الله صلي الله عليه واله: «نعم دَعُوه» ثمّ صَرَفه ولم يُعاقبه.

وحاصر رسولُ اللّه صلّي الله عليه واله خَيبرَبضعاً وعشرين ليلةً؛ وکانت الرايةُ يومئذ لأميرالمؤمنين عليه السلام فَلَحِقَه رَمَدٌ أعجزه عن الحرب، وکان المسلمون يناوَشون[7] اليهودَ من بين أيدي حصُونهم وجَنَباتِها.

فلمّا کان ذات يوم فتحوا الباب، وقد کانوا خَنْدَقوا علي أنفسهم، وخرج مَرْحَب برِجْلهِ يتعرّض[8] للحرب، فدعا رسولُ الله صلّي الله عليه وآله أبا بکر فقال له: «خذُ الرايةَ» فأخذها - في جَمع من المهاجرين -

[صفحه 126]

فاجتهد ولم يُغنِ شيئاً، فعاد يُؤَنّب القومَ الذين اتبعُوه ويُؤَنبونه.

فلمّا کان من الغد تعرض لها عمر، فساربها غيرَبعيد، ثمّ رجع يُجبِّن أصحابه ويجبِنونه.

فقال النبي صلّي الله عليه وآله: «ليست هذه الرايةُ لمن حَمَلها، جيئوني بعليّ بن أبي طالب» فقيل له: إنّه أرمَد، فقال: «أرونيه تروني رجلاً يُحِبّ الله ورسولَه ويُحبّه الله ورسولُه، يَأخُذُها بحقّها ليس بفرارِ».

فجاؤوا بعلي عليه السلام يَقودونه إِليه، فقال له النبي صلّي الله عليه وآله: «ما تَشتکي يا علي؟ قال: رَمَدٌ ما أُبْصِرُمعه، وصُداعٌ برأسي، فقال له: اِجلس وضَعْ رأسَک علي فَخذِي» ففعل عليّ عليه السلام ذلک، فدعا له النبي صلي الله عليه وآله وتَفَل في يده فمسحها علي عَيْنَيه[9] ورأسه، فانفتحَتْ عَيْناه وسَکَن ما کان يجِده من الصُداع، وقال في دعائه له: «اللهم قِه الحرَّ والبَرْد» وأعطاه الرايةَ - وکانت رايةً بيضاء - وقال له: «خذ الراية وامضِ بها، فجبرئيل معک، والنصر أمامک، والرُعب مبثوث في صدور القوم، واعلم - يا علي - أنهم يَجدون في کتابهم: أنّ الذي يُدَمّرعليهم إسمه الِيا[10] ، فإذا لقيتَهم فقل: أنا علي، فإنّهم يُخْذَلون إن شاء اللّه».

قال عليّ عليه السلام: «فمَضَيتُ بها حتّي أتيتُ الحصونَ، فخَرَج مَرْحب وعليه مغْفَر وحجرقد ثقَّبه[11] مِثل البيضة علي رأسه، وهو

[صفحه 127]

يرتجز ويقول:


قد عَلِمَتْ خَيبرأنّي مَرْحَبُ
شاکٍ سِلاحي بَطَل مُجَرَّبُ


فقلت:


أنا الذي سَمَّتنْي أًمّي حَيْدَرة
لَيثٌ لِغاباتٍ[12] شديدٌ قَسْوَرة


أَکيلُکم بالسَيف کَيل السَنْدَرة[13] .

فاختلفنا ضربَتين، فبَدَرْتُه فضربتُه فَقَددْت الحَجَر والمِغْفَر ورأسَه حتّي وَقع السيفً في أضراسه وخَرّ صَريعاً».

وجاء في الحديث أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام لمّا قال: «أنا عليّ ابن أبي طالب» قال حَبْر من أحبار القوم: غُلِبْتم وما أُنْزِل علي موسي[14] . فدخل قلوبَهم من الرُعب ما لم يُمکِنْهم معه الاستيطانُ به.

ولمّا قَتَل أميرُ المؤمنين عليه السلام مَرْحَباً، رجع من کان معه وأغلَقوا بابَ الحِصْن عليهم دونه، فصار أميرُ المؤمنين عليه السلام إليه فعالجَهُ حتّي فَتَحه، وأکثرُ الناس من جانب الخَندق لم يَعْبُروا معه، فأخذ أميرُ المؤمنين عليه السلام بابَ الحِصْن فجعله علي الخَنْدَق جِسْراً لهم حتي عَبَروا وظَفِروا بالحِصْن ونالوا الغنائم.

[صفحه 128]

فلما انصرفوا من الحُصون، أخذه أميرُ المؤمنين بيُمْناه فدحا به أذرُعاً من الأرض، وکان البابُ يُغْلِقه عشرون رجلاً منهم.

ولمّا فَتَحَ أميرُ المؤمنين عليه السلام الحِصْن وقَتَل مَرْحَباً، وأغْنَمَ اللّه المسلمين أموالهَم، استأذن حَسّان بن ثابت رسول الله صلّي الله عليه وآله أن يقول شعراً. فقال له: «قُلْ».

فأنشأ يقول:


وکان عليٌ أَرْمَدَ العينِ يَبْتَغي
دَواءً فلمّا لم يُحِسَّ مُداوِيا


شفاهُ رسولُ الله مِنه بتَفْلةٍ
فبُورِکَ مَرْقِيّاً وبُورکَ راقِيا


وقال سأُعْطِي الرايةَ اليومَ صارِماً
کَمِيّاً مُحبّاً للرسولِ مُوالِيا[15] .


يُحبُّ إلهي والإلهُ يُحبّه
به يَفْتَحً اللّه الحصُونَ الأوابيا


فأصْفي بِها دونَ البَرِيّة کُلِّها
َعلِيّاً وسمّاه الوزيرَ المُؤاخيَا


وقد رَوي أصحابُ الاثار عن الحسن بن صالح، عن الأعْمَش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبداللّه الجَدَليّ قال: سَمِعتُ أميرَ المؤمنين عليه السلام يقول: «لمّا عالجتُ بابَ خَيْبرَجَعَلْتُه مجَنّاً لي وقاتلتُ القومَ فلمّا أخزاهم اللّه وَضَعتُ البابَ علي حِصْنهم طريقاً، ثمّ رَميتُ به في خَندقهم؛ فقال له رجل: لقد حَمَلْتَ منه ثقلاً! فقال: ما کان إلاّ مثلَ جُنَّتي التي في يَدي في غيرذلک المقام»[16] .

وذکر أصحابُ السِير: أنّ المسلمين لمّا انصرفوا من خَيْبرراموا

[صفحه 129]

حَمْل الباب فلم يُقِله[17] منهم إلاّ سبعون رجلاً[18] .

وفي حَمل أميرالمؤمنين عليه السلام الباب يقول الشاعر:


إنّ امرءاً حمل الرِتاج[19] بخَيبر
يومَ اليهودِ بقدرهٍ لَمؤيد


حَمَل الرِتاجَ رتاجَ باب قَمُوصها[20] .
والمسلمون وأهلً خيبر شُهَّدُ[21] .


فَرَمي به ولقد تًکَلَّفَ رَدَّهُ
سبعون شخصاً کلّهم متشدّد


رَدّوه بعدَ مَشقَةٍ وتکلُّفٍ[22] .
ومَقالِ بعضِهم لبعض اٍردُدوا[23] .


صفحه 125، 126، 127، 128، 129.








  1. في هامش «ش» و«م»: ما اجمع عليه نقلة.
  2. کذا في متن النسخ، وفي هامش «ش»: عبدالله واخره علامة (ج)، وفي هامش «م»: عبدالله وآخر الکلمة مخروق.
  3. في «م» وهامش «ش»: من خير.
  4. في «ش» و «م»: من المکان، وما اثبتناه من هامشهما.
  5. المغازي 2: 642، السيرة النبوية 3: 343، مجمع البيان 9: 119، دلائل النبوة 4: 204، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار 21: 14 / 11.
  6. شام السيف: أغمده. «الصحاح - شيم - 5: 1963».
  7. في «ش»: يتناوشون.
  8. في هامش «ش»: فتعرض.
  9. في هامش «ش»: عينه.
  10. في هامش «ش» و «م»: إِيليا.
  11. في هامش «ش» و «م» نَقَبهُ.
  12. في هامش «ش» و «م»: کريهات.
  13. في هامش «ش» و «م»: عبل الذراعين شديد القصرة. والسندرة: مکيال ضخم. «الصحاح - سدر- 2: 680».
  14. اخرج نحوه في السيرة النبوية 3: 349.
  15. في هامش «ش»: مواسياً.
  16. نقله العلامة المجلسي في البحار 21: 16. وذکر ذيله في المناقب لابن شهرآشوب 2: 68.
  17. يقلّه: يحمله. «المصباح المنير 2: 514».
  18. اُنظر: دلائل النبوّة 4: 212، مجمع البيان 9: 121، مناقب ابن شهرآشوب 2: 293.
  19. الرتاج: الباب العظيم. «الصحاح - رتج - 1: 317».
  20. القموص: جبل بخيبر عليه حصن أبي الحقيق اليهودي. «معجم البلدان 4: 398».
  21. في هامش «ش»: حُشدُ.
  22. في «م» وهامش «ش»: وتعتّب.
  23. بعد هذه الأبيات في «ش» و «م» سطور اُخر، ولکن في هامش «ص» صرح بانه: «لم يکن في نسخة الشيخ المفيد» وقريب منه في هامش «م». وهي:

    وفيه أيضاً قال الشاعر من شُعراء الشيعة يَمْدَح أميرَ المؤمنين عليه السلام ويهَجْو أعداء‌ه، علي ما رواه أبو محمّد الحسن بن محمّد بن جمهور، قال: قرأت علي أبي عُثمان المازني:


    بَعثَ النبيُّ برايةٍ مَنصورةٍ
    عُمَربنَ حَنْتَمةَ الدَُلامَ الأدلما


    فمضي بها حتي إذا بَرَزوا له
    دونَ القَموصِ ثني وهابَ وأحْجما


    فأتي النبي برايةٍ مردودةٍ
    ألاّ تَخوَفَ عارَها فَتَذَمّما


    فبکي النبي لها وأنَّبَهُ بها
    ودعا أمرأً حسنَ البصيرةِ مُقْدِما


    فغدا بها في فَيْلَقٍ ودعا له
    ألاّ يَصُدَّ بها وألآ يُهْزَما


    فَزَوي اليهودَ إلي القَمُوصِ وقد کَسا
    کَبْشَ الکتيبة ذا غِرارٍ مُخْذِما


    وثني بناسٍ بعده فقَراهم
    طُلْسَ الذُئابِ وکل نَسْرٍ قَشْعَما


    ساطَ الإلهُ بحب آلِ محمّدٍ
    وبحُبِّ مَن والاهمِ مِنّي الدَما


    في أبيات اُخر.