مبارزته لعمرو بن عبدود و قتله
فلما رأي المسلمين وَقَف هو والخيلُ التي معه وقال: هل من مبارز؟ فبرز إليه أميرالمؤمنين عليه السلام فقال له عمرو: اِرجع يا ابن أخِ فما أحِبّ أن أقتلک. فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: «قد کنتَ - يا عمرو- عاهدتَ اللّه ألاّ يدعوک رجل من قريش إلي إحدي خَصْلتين[1] إلا اخترتَها منه». قال: أجَلْ، فماذا؟ قال: «فإني أدعوک إلي الله ورسوله والإسلام». قال: لا حاجة لي بذلک. قال: «فإني أدعوک إلي النزال». فقال: ارجع فقد کان بيني وبين أبيک خلّة، وما أحبّ أن أقتلک. [صفحه 99] فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: «لکنّني - والله -أحب أن أقْتُلک ما دُمْتَ آبياً للحق». فَحَمِيَ عمروعند ذلک، وقال: أتَقْتُلني!؟ ونزل عن فرسه فعَقَره وضرب وجهَه حتّي نَفَر، وأقبل علي عليّ عليه السلام مُصْلِتاً سيفه، وبدره بالسيف فنشِب سيفهُ في تُرس علي،وضربه أميرالمؤمنين عليه السلام ضربةً فقتله. فلمّا رأي عِکرِمة بن أبي جهل وهُبَيْرة وضرار عَمراً صريعاً، ولّوا بخَيْلهم منهزمين حتي اقتحمت[2] الخندق لا تَلْوِي[3] علي شيء، وانصرف أميرالمؤمنين عليه السلام إلي مَقامه الأوّل - وقد کادت نفوسُ القوم الذين خرجوا معه إلي الخندق تَطيرجَزَعاً - وهويقول: «نَصَرَالحجارةَ من سفاهة رأيه فضربتُه وترکتُه مُتَجدِّلاً وعَفَفْتُ عن أثوابهِ ولَوِ آنني لا تَحْسَبَنَّ اللة خاذِلَ دينه [صفحه 100] وقد روي محمّد بن عُمر الواقدي قال: حدَّثنا[7] عبدُالله بن جعفر، عن ابن أبي عَوْن، عن الزُهري قال: جاء عَمرو بن عبدِ وَدّ وعِکرِمة بن أبي جَهْل وهُبَيرة بن أبي وَهْب ونَوْفَل بن عبدالله بن المُغيرة وضِرار بن الخطّاب - في يوم الأحزاب - إلي الخندق فجعلوا يطوفون به يطلُبون مَضيقاً منه فيعبرون، حتّي انتهوا إلي مکان أکْرَهوا خيولَهم فيه فَعبَرتْ، وجعلوا (يجولون بخيلهم) فيما بين الخندق وسَلْع، والمسلمون وُقوفٌ لايُقْدِم واحدٌ منهم عليهم، وجعل عمرَو بن عَبدِ وَدّ يدعو إلي البَراز و(يُعَرِّض بالمسلمين)[8] ويقول: ولقد بَحِحت من النداء بجمـ في کلّ ذلک يَقوُم عليّ بن أبي طالب من بينهم ليبارزه[9] فيأمُره رسول الله صلّي الله عليه واله بالجلوس انتظاراً منه ليتحرّک[10] غيرهُ، والمسلمون کأنّ علي رؤوسهم الطَير، لمکان عمرو بن عبدِ وَدّ والخوف منه وممّن معه ووراءه. فلمّا طال نداءُ عمرو بالبراز، وتتابع قيامُ أميرالمؤمنين عليه السلام قال له رسول الله صلّي الله عليه وآله: «أدنُ مني يا عليّ» فدنا منه، فنَزَع [صفحه 101] عِمامتَه من رأسه وعمّمه بها، وأعطاه سيفه - وقال له: «إِمضِ لشأنک» ثم قال:«اللهمّ أعِنْه» فسعي نحو عمرو ومعه جابر بن عبدالله الأنصاري - رحمه الله - ليَنْظُرَ ما يکون منه ومن عمرو. فلمّا انتهي أميرالمؤمنين عليه السلام إليه قال له: «يا عمرو، إنّک کنتَ في الجاهلية تقول: لا يدعوني أحدٌ إلي ثلاث إلاّ قَبِلتُها أو واحدةَ منها». قال: أجل. قال: «فإني أدعوک إلي شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول اللّه وأنْ تُسلِمَ لربّ العالمين». قال: يا ابن أخ أخّر هذه عنّي. فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: «أما إنّها خير لک لو أخذ تَها». ثمّ قال: «فها هنا أخري». قال: ما هي؟ قال: «تَرْجِع من حيث جئتَ». قال: لا ُتحدث نساءُ قريش بهذا أبداً. قال: «فها هنا أخري». قال: ما هي؟ قال: «تَنزلُ فتقاتلني». [صفحه 102] فضَحِک عمرو وقال: إنّ هذه الخَصلة ما کنتُ أظُنُ أنّ أحداً من العرب يَرومني عليها، وإنّي لأکره أن أقتُلَ الرجلَ الکريم مثلک، وقد کان أبوک لي نديماً. قال علي عليه السلام: «لکنّني احبّ أن أقتلک، فانزل إن شئت». فأسِف[11] عمرو ونزل فضرب وجهَ فرسه (حتي رجع)[12] . فقال جابر بن عبداللّه رحمه اللّه: وثارت بينهما قَتَرة، فما رأيتُهما وسمعتُ التکبيرتحتها، فعَلِمتُ أن عليّاً عليه السلام قد قتله، وانکشف أصحابُه حتي طَفَرت خيولهُم الخندقَ، وتبادر المسلمون حين سَمِعوا التکبيرَ ينظُرون ما صنع القوم، فوجدوا نَوْفَلَ بن عبدالله في جوف الخندق لم يَنْهضْ به فرسُه، فجعلوا يَرْمُونه بالحجارة، فقال لهم: قِتْلَةٌ أجملُ من هذه، يَنزِل بعضُکم اُقاتله، فنزل إليه أميرالمؤمنين عليه السلام فضربه حتي قتله، ولَحِق هُبَيرةَ فأعجزه فضرب قَربوسَ سَرْجه وسَقَطَتْ درعٌ کانت عليه، وفَرّ عِکرِمةُ، وهرب ضِرارُ بن الخطّاب. فقال جابر: فما شَبَّهْتُ قتلَ علي عمراً إلاّ بما قَصّ اللّه تعالي من قصّة داود وجالوت، حيث يقول: (فَهَزَمُوهُمْ بِاِذْنِ أللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ)[13] [14] . [صفحه 103] وقد روي قَيْس بن الرَبيع قال: حدَّثنا أبو هارون العَبْدي، عن رَبيعة السَّعدي قال: أتيتُ حًذَيفةَ بن اليَمان فقلت له: يا با عبدالله، إنّنا لنتحدّثُ عن عليّ عليه السلام ومناقبه، فيقول لنا أهل البصرة: إنکم تُفرِطون في عليّ، فهل أنت مُحدّثي بحديث فيه؟ فقال حُذَيفة: يا ربيعة، وما تسألني عن عليّ عليه السلام؟ والذي نفسي بيده، لو وُضِعِ جميعُ أعمال أصحاب محمّد في کفّة الميزان، منذ بَعَث اللّه محمّداً إلي يوم القيامة[15] ، ووُضِع عملُ عليّ في الکفّةُ الأخري، لرَجَحَ عملُ عليّ علي جميع أعمالهم. فقال رَبيعة: هذا الذي لا يُقام له ولا يُقْعَد[16] . فقال حُذَيفة: يا لُکَع، وکيف لا يًحْمَل؟! وأين کان أبو بکرٍ وعمر وحُذَيفة وجميعُ أصحاب محمّد يوم عَمرو بن عبدِ وَدٍّ،وقد دعا إلي المبارَزة!؟ فأحجَمَ الناسُ کلّهُم ما خلا علياً عليه السلام فإنّه بَرَز إليه فقتله الله علي يديه،والذي نفس حُذَيفة بيده، لَعَمَلُه ذلک اليوم أعظمُ أجراً من أعمال أصحاب محمّدٍ إلي يوم القيامة[17] . وقد روي هِشام بن محمّدٍ[18] ، عن مَعروف بن خرَّبوذ قال: قال عليّ يوم الخندق: [صفحه 104] «أعَلَيّ تَقْتَحِمُ الفوارسُ هکذا اليومَ تَمْنَعَنُي الفِرارَ حَفيظتي (أرديتُ عَمْرَاً حين أَخلص صَقْلَه)[20] . فصَدَدتُ حينَ تَرَکتُه مُتَجَدلاً وعَفَفْتُ عن أثوابه ولَو انّني وروي يونس بن بُکَير، عن محمّد بن إسحاق قال: لما قَتَل عليُّ ابن أبي طالب عليه السلام عَمراً أقبل نحوَ رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله ووجهُه يتهلّل، فقال له عمر بن الخطّاب: هلاّ سَلَبْتَه - يا عليّ - دِرعَه؟ فإنّه ليس تکون للعرب دِرْعُ مثلها، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: «إنّي استحيتُ أن أکشِفَ عن سوأة ابن عمّي»[22] . وروي عَمْرو[23] بن الأزهر، عن عَمْرو بن عُبَيد، عن الحسن: أنّ علياً عليه السلام لمّا قَتَل عَمرو بن عبدِوَدّ احتزّ رأسَه وحَمَله، فألقاه بين يدي رسول الله صلّي اللّه عليه وآله فقام أبو بکر وعمر، فقبّلا رأسَ علي [صفحه 105] عليه السلام[24] . وروي عليّ بن حَکِيْم الأوْديّ قال: سَمِعتُ أبا بکر بن عَيّاش يقول: لقد ضرب عليٌ عليه السلام ضربةً ما کان في الإسلام ضربةٌ أعزُّ منها - يعني ضربةَ عَمْرو بن عبد وَدّ - ولقد ضُرِب عليٌّ ضربةً ما کان في الإسلام أشأم منها - يعني ضربةَ ابن مُلْجَم لعنهَ الله -[25] . وفي الأحزاب أنزلّ الله عزّ وجلّ: (اِذْ َجآءُوکمْ مِنْ فَوقِکُمْ وَمِن اَسْفَلَ مِنْکُمْ وَاِذْ زَاغتً الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ اْلقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بآللّهِ آلظُّنُونَا، هُنَالِکَ ابْتُليَ اْلمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاّ شَدِيداً، وَإذُْ يقولُ اْلمُنَافِقُونَ وَآلَّذينَ فِي قُلُوَبهمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا أللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُوراً - إلي قوله: - وَکَفَي أللّهُ المُؤْمِنينَ الْقِتَالَ وکَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً)[26] . فتوجه العتَبُ إليهم والتوبيخ والتقريع والعِتاب، ولم ينجُ من ذلک أحدٌ - باتفاقٍ - إلاّ أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، إذ کان الفتحُ له وعلي يديه، وکان قَتْلُه عَمراً ونَوْفَل بنَ عبدالله سببَ هزيمة المشرکين. وقال رسولُ الله صلّي الله عليه واله بعد قتله هؤلاء النَفَر: «الآن [صفحه 106] نَغْزُوهم ولا يَغْزُونا»[27] . وقد روي يوسف بن کُلَيب، (عن سُفيان، عن زُبَيد، عن مرّة)[28] وغيره، عن عبدالله بن مسعود، أنّه کان يقرأ: (وَکَفَي الله المُؤْمِنينَ الْقِتَالَ) بعلي (وکَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً)[29] . وفي قتل عمرو يقول حسّان: أمسي الفَتي عَمروبن عبدٍ يَبتغي فلقد وجدتَ سُيوفَنا مشهورةً ولقد رأيتَ غَداةَ بدرٍ عُصْبةً [صفحه 107] أصبحتَ لا تُدعي ليوم عظيمةٍ ويقال: أنّه لمّا بلغ شعرُحَسّان بني عامرأجابه فَتيً منهم، فقال يَرُدُ عليه في افتخاره بالأنصار: کَذَبتم - وبيتِ اللّه - لم[32] تقْتُلوننا بسيف ابنِ عبدالله أحمدَ في الوَغي فلم تَقْتُلوا عَمرَو بنَ عبدٍ ببأسکم[33] . عليُّ الذي في الفخر طال بناؤُه[35] . ببَدرٍ خَرَجتم للبَراز فَرَدَّکم فلمّا أتاهم حمزةٌ وعُبَيدةٌ فقالوا: نعم،أکفاءُ صِدْقٍ، فأقبلوا فجال عليٌّ جَوْلةً هاشميةً فليس لکم فَخرٌ علينا بغيرنا وقد روي أحمدُ بن عبد العزيز قال: حدَّثنا سليمان بن أيّوب، عن أبي الحسن المَدائني قال: لمّا قَتَل عليُّ بن أبي طالب عليه السلام عَمرو بنَ عبدِ وَدّ، نُعِيَ إلي اخته فقالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟ [صفحه 108] فقالوا: ابن أبي طالب. فقالت: لم يَعدُ يومَه عَلي يد کُفء کريم، لا رَقات دَمْعتي إن هَرَقْتها عليه، قَتَل الأبطالَ وبارز الأقران، وکانت مَنِيّتُه علي (يد کُفء کريمِ قومه)[39] ، ما سَمِعت أفخَرمن هذا يا بني عامر، ثمّ أنشأت تقول: وکان قاتلُ عَمروغيرَ قاتله لکنّ قاتلَ عَمروٍ لا يُعاب به وقالت أيضاً في قتل أخيها، وذِکْرِ عليّ بن أبي طالب عليه السلام: أَسَدان في ضِيقِ المَکرّ تَصاولا فتخالسا مُهَجَ النفوس کلاهما وکلاهماحَضَرالقِراعِ حَفيظةً فاذهَبْ -علِيٌّ - فما ظَفِرْتَ بمثله فالثأرعندي - ياعليُّ - فليتَني ذلّت قريشٌ بعد مقتل فارسٍ [صفحه 109]
وخرج أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في نفرمعه من المسلمين، حتي أخَذوا عليهم الثغْرة التي اقتحموها، فتقدّم عَمرو ابن عبدِ وَدّ الجماعةَ الذين خرجوا معه، وقد أعْلَمَ ليري مکانهُ.
ونصرت ربَّ محمّد بصَواب[4] .
کالجذْغ بين دکادِک ورَوابي[5] .
کنت المقَطَّر بَزَّني أثوابي[6] .
ونبيّهِ يا مَعْشرَ الأحزاب»
ـعهم هل من مبارز؟
عنّي وعنها خَبِّروا[19] أصحابي
ومُصَمِّمٌ في الرأس ليس بِنابي
صافي الحَديد مُجَرّبِ قَضّاب
کالجِذْع بينَ دَکاَدِکٍ ورَوابي
کُنْتُ المُقَطَّر بَزّني أثوابي[21] .»
بجُنًوبِ[30] يَثْرِبَ غارةً لم تُنْظَر
ولقد وجدتَ جيادَنا لم تُقصِر
ضَرَبوک ضرباً غيرَضربِ المحسر[31] .
يا عَمرو أوْ لِجسيم أمر مُنْکَر
ولکن بسيف الهاشميّين فافخَروا
بکفّ عليّ نلْتم ذاک فاقصُروا
ولکنّه الکُفءُ[34] الهِزَبْرُ الغَضَنْفر
فلاتُکثِروا[36] الدعوي علينا فتفخروا[37] .
شيوخُ قريشٍ جَهرةً وتَأَخّروا
وجاء عليٌّ بالمُهَنّد يَخْطِر
إليهم سِراعاً إذ بَغَوْا وتَجبروا
فدمّرهم لمّاعَتَوا وتَکَبّروا
وليس لکم فخرٌ يُعَدّ ويُذْکَر[38] .
لکنتُ أبکي عليه آخرَ الأبد
من کان يُدعي قَديماً بيضةَ البلد[40] [41] .
وکلاهما کُفء کريم باسل
وَسْطَ المَذاد[42] مخاتِل ومُقاتل
لم يَثْنِهِ عن ذاک شُغلٌ شاغل
قولٌ سديدٌ ليس فيه تحامل
أدرکتُه والعقلُ منّي کامل
فالذُلّ مُهْلِکها وخِزْيٌ شامل
صفحه 99، 100، 101، 102، 103، 104، 105، 106، 107، 108، 109.
والصواب: يوسف بن کليب عن سفيان عن زبيد عن مرّة، انظر: ميزان الاعتدال. وسفيان هو سفيان الثوري، وزبيد هو زبيد بن الحارث اليامي، ومرة هو مرة بن شراحيل الهمداني، انظر الجرح والتعديل 3: 623، 8: 366، تهذيب التهذيب 4: 112، 3: 311، 10: 88.