غزوة الأحزاب و دوره فيها











غزوة الأحزاب و دوره فيها



وکانت غَزاة الأحزاب بعد بني النَضير.

وذلک أنّ جماعةً من اليهود منهم سلام بن أبي الحُقَيق النَضْري، وحُييّ بن أخطَب، وکِنانة بن الربيع، وهَوْذَة بن قَيْس الوالبي، وأبو عُمارة الوالبيّ[1] - في نفرمن بني والبة-خرجوا حتي قَدِموا مکة، فصاروا إلي أبي سُفيان صَخْرِ بن حَرْب، لعلمهم بعَداوته لرسول الله صلّي الله عليه وآله وتسّرعه إلي قتاله، فذکروا له ما نالهم منه وسألوه المعونة لهم علي قتاله.

فقال لهم أبوسُفيان: أنا لکم حيث تُحِبّون، فاخرجُوا إلي قريش فادعوهم[2] إلي حربه، واضمَنوا النصرةَ لهم، والثبوتَ معهم حتّي

[صفحه 95]

تستأصلوه.

فطافوا علي وجوه قريش، ودَعَوْهم إلي حرب النبي صلّي الله عليه وآله وقالوا لهم: أيدينا مع أيديکم ونحن معکم حتي تستأصلوه[3] فقالت قريش: يا مَعْشرَ اليهود، أنتم أهل الکتاب الأول والعلم السابق، وقدعَرَفتم الدين الذي جاء به محمّد وما نحن عليه من الدين، فديننا خيرٌ من دينه أم هو أولي بالحق منّا؟ فقالوا لهم: بل دينکم خير من دينه، فنَشِطَتْ قريش لما دَعَوْهم إليه من حرب رسول اللّه صلّي الله عليه وآله.

وجاءهم أبوسفيان فقال لهم: قد مکّنکم الله من عدوّکم، وهذه يهود تُقاتله معکم، ولن تَنْفَلّ[4] عنکم حتي يُؤتي علي جميعها، أو تستأصله ومن اتّبعه. فقَوِيت عزائمهُم - إذ ذاک - في حرب النبي صلّي الله عليه واله.

ثمّ خرج اليهودُ حتي أتَوا غَطَفان وقَيْسَ عَيْلان، فدعوهم إ لي حرب رسول الله صلّي اللّه عليه واله وضَمِنوا لهم النصرةَ والمعونةَ، وأخبروهم باتّباع قريشٍ لهم علي ذلک، فاجتمعوا معهم.

وخرجت قريش وقائدها - إذ ذاک - أبو سفيان صَخْر بن حَرْب، وخرجت غَطَفان وقائدُها عُيينةُ بن حصن في بني فَزارة، والحارثُ بن عَوْف في بني مُرّة، ووَبَرَةُ بن طُرَيْف في قومه من أشجَع، واجتمعت قريشٌ معهم.

[صفحه 96]

فلما سمِع رسولُ الله صلّي اللّه عليه وآله باجتماع الأحزاب عليه، وقوّة عزيمتهم في حربه، استشار أصحابه، فأجمع رأيهم علي المُقام بالمدينة، وحرب القوم إن جاؤوا إليهم علي أنقابها[5] .

وأشار سلمان الفارسي - رحمه اللّه - علي رسول الله صلّي اللّه عليه وآله بالخَنْدَق، فأمر بحَفْره وعَمِل فيه بنفسه، وعَمِل فيه المسلمون.

وأقبلت الأحزابُ إلي النبي صلّي اللّه عليه وآله فهال المسلمين أمرُهم وارتاعوا من کثرتهم وجمعهم، فنزلوا ناحيةً من الخَنْدق، وأقاموا بمکانهم بِضعاً وعشرين ليلة ثمّ لم يکن بينهم حرب إلاّ الرمي بالنَبْل والحصار.

فلما رأي رسول اللّه صلّي اللّه عليه واله ضعفَ قلوب أکثر المسلمين من حصارهم لهم ووهنهم في حربهم، بعث إلي عُيَيْنَة بن حِصْن والحارث بن عَوْف - وهما قائدا غَطَفان - يدعوهم إلي صلحه والکفّ عنه، والرجوع بقومهما عن حربه، علي أن يُعطيهم ثلثَ ثِمار المدينة.

واستشار سعدَ بن مُعاذ وسعدَ بن عُبادة فيما بعث به إلي عُيَينة والحارث، فقالا: يا رسول الله، إن کان هذا الأمر لا بُدّ لنا من العمل به، لأنّ الله أمَرَک فيه بما صنعتَ، والوحيُ جاءک به، فافعل ما بدا لک، وإن کنتَ تُحِبُّ أن تَصْنَعه لنا، کان لنا فيه رأي.

فقال عليه واله السلام: «لم يأتني وحيٌ به، ولکنّي رأيتُ العرب قد رمتکم عن قوس واحدة وجاؤوکم من کلّ جانب، فأردتُ

[صفحه 97]

ان أکْسِر عنکم من شوکتهم إِلي أمر ما».

فقال سعدً بن مُعاذ: قد کنّا نحن وهؤلاء القوم علي الشرک بالله وعبادة الأوثان، لا نعبدُ الله ولا نَعْرِفه، ونحن لا نطعمهم من ثمرنا إلاّ قِريً أو بيعاً، والآن حين أکرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بک، نُعطيهم أموالنا؟ ما لنا إلي هذا من حاجة، واللّه لا نعطيهم إلآ السيف حتّي يحکم الله بيننا وبينهم.

فقال رسولُ اللّه عليه واله: «الآن قد عرفتُ ما عندکم، فکونوا علي ما أنتم عليه، فإنّ اللّه تعالي لن يَخْذُل نبيّه ولن يُسْلِمه حتي يُنْجِز[6] له ما وعده».

ثم قام رسول اللّه صلّي الله عليه وآله في المسلمين، يدعوهم إلي جهاد العدو[7] ، ويُشَجّعهم ويَعِدهم النصر.

وانتدبَتْ فوارسُ من قريش للبراز، منهم: عَمرو بن عبدِ وَدّ بن أبي قَيْس بن عامر بن لُؤَيّ بن غالب، وعِکْرمة بن أبي جهل، وهُبَيرة ابن أبي وَهْب - المخزوميّان - وضِرار بن الخَطَّاب، ومرداس الفِهْري، فلَبِسوا للقتال ثم خرجوا علي خيلهم، حتي مَرّوا بمنازل بني کِنانة فقالوا: تهيؤوا- يا بني کِنانة- للحرب، ثمّ أقبلوا تُعْنِق[8] بهم خيلُهم، حتي وَقَفوا علي الخَندق.

فلما تأملوه قالوا: واللّه إنّ هذه مکيدةٌ ما کانت العرب تَکيدها.

[صفحه 98]

ثمّ تيمّموا مکاناً من الخندق فيه ضيق، فضربوا خَيْلَهم[9] فاقتحمَتْه، وجاءت بهم في السَبخَة بين الخَندق وسَلْع[10] .


صفحه 95، 96، 97، 98.








  1. اختلفت المصادر في اسمه، ففي سيرة ابن هشام 3:225 والطبري 2: 565: أبو عمّار، وفي مغازي الواقديَ 2: 441 والسيرة للحلبي 2: 309: أبو عامر.
  2. في هامش «ش»: فادعوها.
  3. في هامش «ش» و «م»: نستأصله.
  4. في «م»: تنفتل.
  5. الأنقاب: جمع نقب، وهو الطريق في الجبل. «الصحاح - نقب - 1: 227».
  6. في هامش «ش» و«م»: يُتمَّ.
  7. في هامش «ش» و «م»: القوم.
  8. العنق: سير فيه کبر وخُيلاء. «الصحاح - عنق - 4: 1533».
  9. في هامش «ش» و«م»: خيولهم.
  10. سلع: موضع قرب المدينة المنورة. «معجم البلدان 3: 236».