انقياده المطلق لرسول الله في قضية حاطب بن أبي بلتعة











انقياده المطلق لرسول الله في قضية حاطب بن أبي بلتعة



ومن ذلک أنّ النبي صلّي الله عليه وآله لما أراد فتحَ مکّة، سأل الله - جلّ اسمه - أن يعَمِّيَ أخبارَه علي قريش ليَدْخُلَها بغتةً، وکان عليه وآله السلام قد بني الأمرَ في مسيره إليها علي الأستسرار بذلک، فکتب حاطِب بن أبي بلتعة إلي أهل مَکّة يُخبِرهم بعزيمة رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله علي فتحها، وأعطَي الکتابَ امرأةً سَوْداء[1] کانت وَرَدت المدينةَ تستميح بها

[صفحه 57]

الناس وتَسْتَبِرُّهم[2] ، وجعل لها جُعٍلاً علي أن تُوصِلَه إلي قوم سمّاهم لها من أهل مَکّة، وأمَرَها أن تَأخُذَ علي غير الطريق.

فنزل الوحيُ علي رسول الله صلي اللّه عليه وآله بذلک، فاستدعي أميرَ المؤمنين عليه السلام وقال له: «إنّ بعضَ أصحابي قد کتَبَ إلي أهل مکّة يخُبرهم بخَبَرنا، وقد کنتُ سألتُ الله أن يُعَمِّيَ أخبارَنا عليهم، والکتابُ مع امرأةٍ سودْاء قد أخَذَتْ علي غير الطريق، فَخُذْ سيفَک والحَقْها وانتزِعِ الکتابَ منها وخَلّها وصرْ به إليّ» ثمّ استدعي الزبير بن العَوّام فقال له: «امض مع عليّ بن أبي طالب، في هذه الوجه» فمضيا وأخذا علي غير الطريق فأدْرکا المرأةَ، فسَبَق إليها الزُبيرُ فسألها عن الکتاب الذي معها، فأنکرتْه وحَلَفَتْ أنّه لا شيءَ معها وبکت، فقال الزُبير: ما أري- يا أبا الحسن - معها کتاباً، فارجع بنا إلي رسول الله صلّي اللّه عليه وآله لنخْبِره ببراءة ساحتها.

فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: «يُخْبِرُني رسولُ الله صلّي اللّه عليه وآله أنّ معها کتاباً ويأمُرُني بأخذه منها، وتقول أنت أنَّه لا کتاب معها» ثمّ اخترط السيفَ وتَقَدَّمَ إليها فقال: «أما واللّه لئن لم تُخْرِجِي الکتابَ لأکْشِفَنّک، ثمّ لأَضرِبَنَّ عُنُقَک» فقالت له: إذا کان لا بُدَّ من ذلک فاعْرِضْ يا ابنَ أبي طالب بوجهِک عنّي، فاعْرَض عليه السلام بوجهه عنها فکشفَتْ قِناعَها، وأخرجت الکتاب من عَقِيصَتها[3] .

فاخذه أميرالمؤمنين عليه السلام وصار به إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه

[صفحه 58]

وآله فأمرأن يُنادي بالصلاة جامعةً، فنودي في الناس فاجتمعوا إلي المسجد حتّي امتلأ بهم، ثمّ صَعِدَ رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله المِنْبرَ وأخَذَ الکتابَ بيده وقال: «أيّها الناس، إنّي کنتُ سألتُ اللّه عزّ وجلّ أن يُخْفِيَ أخبارَنا[4] عن قريش وإنّ رجلاً منکم کتب إلي أهل مکّة يُخْبِرهُم بخبرنا، فليَقُمْ صاحبُ الکتاب، وإلاّ فضَحَه الوحي» فلم يَقُمْ أحدٌ، فأعاد رسولُ اللّه صلّي اللّه عليه وآله مقالته ثانيةً، وقال: «ليَقُمْ صاحبُ الکتاب وإلاّ فَضَحَه الوحي» فقام حاطِب بن أبي بَلْتَعَةَ وهو يُرْعَدُ کالسَعفة في يوم الريح العاصف فقال: يا رسول اللّه أنا صاحبُ الکتاب، وما أحْدَثتُ نفاقاً بعدَ إسلامي، ولا شکّاً بعد يقيني. فقال له النبي صلّي اللّه عليه وآله: «فما الذي حَمَلَک علي أن کتبتَ هذا الکتاب؟» فقال: يا رسول اللّه، إنّ لي أهلاً بمکّة، وليس لي بها عَشيرة، فاشفقت أن تکون الدائرةُ لهم علينا، فيکونُ کتابي هذا کفاً لهم عن أهلي، ويداً لي عندهم، ولم أفعل ذلک لشکٍ في الدين.

فقال عمر بن الخَطّاب: يا رسولَ اللّه مُرني بقتله فإنّه قد نافق.

فقال النبيّ صلّي اللّه عليه واله: «إنّه من أهل بدر، ولعلّ اللّه تعالي اطّلع عليهم فغفرلهم. أخرِجُوه من المسجد».

قال: فجعل الناس يَدْفَعون في ظَهْره حتّي أخرجوه، وهو يَلتفِت[5] إلي النبي صلّي اللّه عليه وآله ليرقّ عليه[6] ، فامرالنبي صلّي اللّه عليه

[صفحه 59]

وآله بردّه وقال له: «قد عَفَوْتُ عنک وعن جُرمک، فاستغفرْ ربّک[7] ولاتعُدْ لمثل ما جَنَيْتَ»[8] .


صفحه 57، 58، 59.








  1. في هامش «ش» و«م»: کان اسمها سارة.
  2. في هامش «ش»: تستبرهم: أي تطلب منهم البرّ.
  3. العقيصة: الضفيرة. «الصحاح -عقص -3: 1046».
  4. في هامش «ش» و «م»: نسخة اخري: آثارنا.
  5. في هامش «ش» و«م»: يتلفّت.
  6. في هامش «ش» و «م»: نسخة اخري: له.
  7. في هامش «ش»: نسخة اخري: فاستغفر اللّه لذنبک.
  8. انظر تاريخ اليعقوبي 2: 58، صحيح البخاري 5: 184، صحيح مسلم 4: 2494/1941، مسند أحمد 1: 79، سيرة ابن هشام 4: 40، تاريخ الطبري 3: 48، دلائل النبوة للبيهقي 5: 14، المستدرک علي الصحيحين 3: 301.