حديث الراهب بارض كربلاء و ما قيل في ذلك











حديث الراهب بارض کربلاء و ما قيل في ذلک



ومن ذلکَ ما رواه أهلُ السِّيرة، واشتهرَ الخبرُ به عند[1] العامّةِ والخاصّةِ، حتّي نَظَمَتْه[2] الشُّعَراء، وخَطَبَتْ[3] به البُلَغاء، ورواه الفُقَهاء والعُلَماءُ، من حديثِ الرّاهب بأرضِ کربلاءَ والصّخرةِ، وشُهرتُه تُغني عن تکلًّفِ إِيرادِ الاسنادِ له. وذَلکَ أنّ الجماعةَ رَوَتْ: أن أميرَالمؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالب عليهِ السّلامُ لمّا توجّهَ إِلي صِفِّيْنَ، لَحِقَ أصحابَه عطشٌ شديدٌ ونَفِدَ ما کانَ معَهم منَ الماءِ، فأخذوا يميناً وشِمالاً يَلتمسونَ الماءَ فلم يجدوا له أثراً، فعَدَلَ بهم أميرُ المؤمنينَ عنِ الجادّةِ وسارَ قليلاً فَلاحَ لهم دَيْرٌ في وَسَطِ البَرِّيةِ فسارَ بهم نحوَه، حتّي إِذا صارَ في فِنائه أمرَ مَنْ نادي ساکِنَه بالاطِّلاعِ إِليهم فنادَوْه فاطَّلعَ، فقالَ له أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ: «هل قُرْبَ قائمِکَ هذا ماء يَتَغوَّثُ به هؤلاءِ القومُ؟» فقالَ: هَيْهاتَ، بيني وبينَ الماءِ أکثرُ من فَرْلسَخَيْن، وما بالقُرْب منِّي شيء منَ الماءِ، ولولا أنَني أُوتي بماءٍ يَکفيني کلًّ شهرٍ علي الَتّقتير لَتَلِفْت عَطَشاً.

فقالَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ: «أسَمِعْتُم ما قالَ الرّاهبُ؟» قالوا: نعم، أفَتَأْمُرُنا بالمَسِيْرِ إِلي حيثُ أومأ إِليه لَعَلَّنا نُدرِکُ الماءَ وبنا

[صفحه 335]

قوّةٌ؟ فقالَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ: «لا حاجةَ بکم إِلي ذلکَ» ولَوَي عُنقَ بغلتِه نحوَ القِبلةِ وأشارَ لهم إِلي مکانٍ يَقربُ منَ الدَّيْرِ فقالَ: «اکشِفوا الأرضَ في هذا المکانِ» فعَدَلَ جماعةٌ منهم إِلي الموضعِ فکشفوه بالمَساحي، فظهرتْ[4] لهم صخرةٌ عظيمةٌ تَلمعُ، فقالوا: يا أَميرَ المؤمنينَ، هنا صخرةٌ لا تَعملُ فيها المَساحي، فقالَ لهم: «إِنّ هذهِ الصّخرةَ علي الماءِ فإِنْ زالتْ عن موضعِها وَجَدْتُم الماءَ، فاجتَهِدوا في قَلْبِها» فاجتمعَ القومُ ورامُوا تحريکَها فلم يَجِدُوا إِلي ذلکَ سبيلاً واستصعبتْ عليهم. فلمّا رآهم عليهِ السّلامُ قدِ اجتمعوا وبذلوا الجهدَ في قلع الصّخرةِ فاستصعبتْ[5] عليهم، لوي عليهِ السّلامُ رِجْلَه عن سَرْجِه حتّي صارَ علي الأرضِ، ثمّ حَسَرَ عن ذِراعيه ووَضَعَ أصابِعَه تحتَ جانبِ الصّخرةِ فحرّکَها، ثمّ قَلَعَها بيدِه ودَحا بها أذرُعاً کثيرةً، فلمّا زالتْ عن مکانِها ظهرَ لهم بَياضُ الماءِ، فتَبادَروا إِليه فشرِبوا منه، فکان أَعذَب ماءٍ شرِبوا منه في سَفرِهم وأبردَه وأصفاه، فقالَ لهم: «تَزوَدوا وارتَوُوا» ففعلوا ذلکَ.

ثمّ جاءَ إِلي الصّخرةِ فتَناوَلهَا بيدِه ووَضَعَها حيثُ کانت، وأمرَ أنْ يُعفي أثرُها بالتُّراب، والرّاهبُ ينَظرُ من فوقِ دَيْرِه ، - فلمّا استوفي عِلْمَ. ما جري نادي: ياَ مَعْشَرَ النّاس أنْزِلُوني أنْزِلُوني. فاحتالوا في إنزالهِ فوقفَ بين يَدَيْ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السَّلامُ فقالَ له: يا هذا أَنتَ نبيٌ مُرسَل؟ قالَ: «لا» قالَ: فمَلَکٌ مقرَّبٌ؟ قالَ: «لا» قالَ: فمن أَنتَ؟

[صفحه 336]

قالَ: «أنا وصي رسولِ الله محمّد بنِ عبدِالله خاتمِ النّبيِّينَ» قالَ: ابسُطْ يدَکَ أُسْلِمْ للهِ تبارکَ وتعالي علي يدِکَ، فبسطَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ يدَه وقالَ له: «اشهَدِ الشّهادَتَين» فقالَ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ الله، وأشهَدُ أنّ محمّداً رسولُ اللهِ، وأشهَدُ أنًّکَ وصيُّ رسولِ اللّهِ وأحقُ النّاسِ بالأمرِ من بعدِه. فأخذَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ عليه شرائطَ الإسلامِ ثمّ قالَ له: «ما الّذي دعاکَ الآنَ إِلي الإسلامِ بعدَ طولِ مُقامِکَ في هذا الديْرِ علي الخِلافِ؟» فقالَ: أُخبرُکَ- يا أميرَ المؤمنينَ- إنّ هذا الديْرَ بًنِيَ علي طَلَب قالِع هذهِ الصّخَرةِ ومُخرِجِ الماءِ من تحتِها، وقد مضي عالم قبليَ لم يُدرِکوا ذلکَ، وقد رَزَقَنِيْه اللّهُ عزّوجلّ، وإنّا نَجِدُ في کتابٍ من کُتُبنا ونَأْثُرُعن علمائنا، أنّ في هذا الصّقعِ عيناً عليها صخرةٌ لا يَعرِفُ مکَانَها إِلاّ نبي أو وصيُّ نبيٍّ، وانّه لا بدّ من وليٍّ للّهِ يَدعوإِلي الحقِّ آيتهُ معرِفةُ مکانِ هذهِ الصّخرةِ وقدرتهُ علي قلعِها، وإِثَي لمّا َرأيتُک قد فعلتَ ذلکَ تَحَقَقْتُ ما کُنّا ننتظِرُه وبَلَغْتُ الأمْنِيّةَ منه، فأنا اليومَ مُسلِمٌ علي يدِکَ ومؤمنٌ بحقِّکَ ومولاکَ.

فلمّا سَمِعَ ذلکَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ بکي حتّي اخضَلّتْ لحيتهُ منَ الدُّموعِ ثمّ قالَ:«الحمدُ للّهِ الّذي لم أکُنْ عندَه مَنْسِيّاً، الحمدُ لله الّذي کُنتُ في کُتُبِه مَذکوراً» ثمّ دعا النّاسَ فقالَ لهم: «اسمَعوا ما يَقولُ أخوکم هذا المُسلِمُ» فسَمِعُوا مَقالتَه[6] ، وکَثُرَ حَمْدُهم للهِّ وشُکْرُهم علي النِّعمةِ الّتي أَنعمَ اللّهُ بها عليهم في معرفتِهم بحقِّ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ.

[صفحه 337]

ثمّ سارَ عليهِ السّلامُ والرّاهبُ بينَ يديهِ في جملةِ أصحابه حتّي لَقِيَ أهلَ الشّام، فکانَ الرّاهب من جملةِ مَنِ اسْتُشْهِدَ معَه، فتولي عليهِ السّلامُ الصّلاةََ عليهِ ودَفنَه وأکثرَ منَ الاستغفارِ له، وکانَ إِذا ذکرَه يقولُ: «ذاکَ مولاي»[7] .

وفي هذا الخبرِ ضرُوبٌ منَ المعجزِ: أحدُها: علمُ الغيبِ، والثّاني: القوّةُ الّتي خَرَقَ العادةَ بها وتميّزَ بخصوصيَّتِها منَ الأنامِ، معَ ما فيه من ثبوتِ البشارةِ به في کُتُب اللّهِ الأولي، وذلکَ مِصداقُ قولهِ تعالي: (ذَلِکَ مَثًلهُمْ فيِ التَّورَاةِ وَمَثَلُهُمْ فيِ الإنْجِيْلِ )([8] وفي ذلکَ يقولُ إِسماعيلُ بنُ محمّدٍ الحِمْيريّ في قصيدتِه البائيّةِ المُذهبَةِ:


[1] وَلَقَدْسَرَي فِيْما(يًسَيِّرُ ليلَةً)[9] .
بَعْدَ العِشَاءِ بِکَربلا فِيْ مَوْکِبِ


[2] حتَي أتَي متبتلاً فيْ قَائم
ألْقَي قَوَاعِدَهُ بِقَاع مُجْدِب


[3] يأتيه ليس بِحَيْثُ (يُلْفِيْ عامراً)[10] .
(غيرالوحوشِ )[11] وغير أصْلَعً أشيَبِ


[4] َفدَنَا فَصَاحَ بهِ فَأشْرَفَ مَاثِلاً
کَالنَّسْرِفَوْقَ شَظِيَّةٍ مِنْ مَرْقَبٍ


[5]هَلْ قُرْبَ قَائِمِکَ الَّذِيْ بُوِّئتهُ
مَاءٌ يُصَاب فقالَ مَامِنْ مَشْرَب


[6] إلاّبِغَايَةِ فَرْسَخَيْنِ ومَنْ لَنَا
بِاْلمَاءِبَيْنَ نَقَاًوَقِيّ سَبْسَبِ

[صفحه 338]

[7] فَثَنَي الأعِنَةَ نَحْوَ وعث َفاجْتَلَي
مَلْسَاءَ تَلْمَعُ کَاللُّجَيْنِ المُذْهَب


[8] قَالَ اقْلِبُوْهَا إِنَّکمْ إِنْ تَقْلِبُوْ
تَرْوَوْا وَلاَ تَرْوَوْنَ إِنْ لَمْ تقْلَبَ


[9] فَاعْصَوْصَبوْا في قَلْبهَا فَتَمَنَعَتْ
عَنْهُمْ تَمَنُّعَ صبَةٍ لَم تُرْکَب


[10] حَتَي إِذَا أعْيَتْهُمُ أَهْوَت[12] لَهَا
کَفٌّ مَتَي تَرُمِ[13] المُغَالِبَ تَغْلِبَ


[11] فَکَأنَّهَا کُرَة بِکَفِّ حَزَوَرٍ
عَبْلِ الذِّرَاعِ دَحَا بهَا فيْ مَلْعَبِ


[12] فَسَقَاهُمُ مِنْ تَحْتِهَا مُتَسَلْسلاً
عَذْبَاً يَزِيْدُ عَلَي الألَذًّ الأعَذَبِ


[13] حَتَّي إذاشَرِبُوْا جَمِيْعَا ًرَدَهَا
وَمَضَي فَخِلْتَ مَکَانَهَالَمْ يُقْرَب


[14] أعْنِي ابْنَ َفاطمة الْوَصِيّ ْومن يَقُلْ
فيْ فضلِهِ وفعاله لم[14] يَکْذِبِ[15] .

[صفحه 339]


صفحه 335، 336، 337، 338، 339.








  1. في «ش»: في.
  2. في هامش «ش». نظمه.
  3. في هامش«ش»: خطب.
  4. في «م» وهامش «ش»: وظهرت.
  5. في هامش «ش» و«م» نسخة: فامتنعت.
  6. في «م» وهامش «ش»: مقاله.
  7. نقل هذه الحادثة باختلاف في الالفاظ کل من الرضي في خصائص الائمة: 50، وابن شاذان في فضائله: 104، والراوندي في الخرائج 1: 222 /67، والطبرسي في اعلام الوري: 178، وکذلک نقلها نصر بن مزاحم في وقعة صفين: 144، وعن ابن ابي الحديد في الشرح 3: 204، ونقلها العلامة المجلسي في البحار 41: 260 / 21؛ولمزيد من المصادر انظر احقاق الحق 8: 722
  8. الفتح 48: 29.
  9. في هامش «ش» و«م»: يَسِيْرُ بلَيْلَةٍ.
  10. في هامش «ش» و «م»: يُلْقَيَ عَامر غَيْرُ.
  11. في «ش»: الا الوًحُوْشَ.
  12. في «ش» أهوي.
  13. في «م» وهامش «ش»: تُردِ.
  14. في «م»: لا.
  15. قال السيد المرتضي- رضي الله عنه- في شرح هذه القصيدة- وقد وزعناه علي تسلسل الابيات- قال:

    [1] السري: سير الليل کله.

    [2] والمتبتّل: الراهب، والقائم: صومعته، والقاع: الارض الحرّة الطين التي لا حزونة فيها ولا انهباط، والقاعدة: اساس الجدار وکلّ ما يبني، والجدب: ضدّ الخصب.

    [3] ومعني «يأتيه»: أي يأتي هذا الموضع الذي فيه الراهب، ومعني [ليس بحيث يلقي] «عامراً»: أنه لا مقيم فيه سوي الوحوش، ويمکن أن يکون مأخوذاً من العمرة التي هي الزيارة، والأصلع الأشيب: هو الراهب.

    [4] الماثل: المنتصب، وشبه الراهب بالنسر لطول عمره، والشظيّة: قطعة من الجبل مفردة. والمرقب: المکان العالي.

    [6] والنقا: قطعة من الرمل تنقاد محدودبة، والقيّ: الصحراء الواسعة، والسبسب: القفر.

    [7] والوعث: الرمل الذي لا يسلک فيه، ومعني «اجتلي ملساء»: نظر الي صخرة ملساء فتجلت لعينه، ومعني «تبرق»: تلمع، ووصف اللجين بالمذهب لأنه أشدّ لبرقيه ولمعانه.

    [9] ومعني «اعصوصبوا»: اجتمعوا علي قلعها وصاروا عصبة واحدة.

    [10] ومعني «اهوي لها»: مدّ إِليها، والمغالب: الرجل المغالب.

    [11] والحزوّر: الغلام المترعرع، والعبل: الغليظ الممتک.

    [12] والمتسلسل: الماء السلسل في الحلق، ويقال انه البارد أيضاً.

    [14] وابن فاطمة:هوأميرالمؤمنين عليه السلام.انتهي کلامه رفع الله مقامه، نقله العلامة المجلسي في البحار41: 264- 266.

    انظر مصادر حديث الراهب في:

    وقعة صفيم ت: 144، امالي الصدوق: 150، خصائص الأئمة: 51، شرح النهج لابن ابي الحديد 3: 204.

    وفي المطبوعة زيادة: «وزاد فيها ابن ميمون قوله:


    وَأبَانَ رَاهِبهَا سرَيرةَ مُعْجِزٍ
    فيْهَا وآمَنَ بالوَصي المُنتجب


    وَمَضَ شَهِيْدَاً صَادِقَاَ فيْ نَصْرِه
    أَکْرمْ بهِ من رَاهِب مُتَرتهبَ


    رجُلاً کِلا طَرَفَيْهِ منْ سَام وَمَا
    حَامٌ لَهَُ بأَب وَلاًَ بأبي أبِ


    منْ لا يَفِرّ وَلاَ يرَي فيْ مَعْرَکٍ
    إِلأَ وَصَارِمُهَُ الْخَضِيبَ المَضرْب».