حديث الدار و مقامه











حديث الدار و مقامه



فأمّا مناقبه الغنيّةُ- بشهرتها، وتواتُر النقل بها، وإجماع العلماء عليها - عن إيراد أسانيد الأخبار بها، فهي کثيرةٌ يطولُ بشرحها[1] الکتاب، وفي رَسْمِنا منها طرفاً کفاية عن إيراد جميعها في الغرض الذي وضعنا له الکتاب، ان شاء اللّه.

فمن ذلک: أنّ النبي صلّي اللّه عليه واله جَمَعَ خاصّةَ أهله وعشيرته، في ابتداء الدعوة الي الاسلام، فعَرَضَ عليهم الإيمان، واستنصرهم علي أهل الکفر والعُدوان، وضَمِنَ لهم علي ذلک الحُظْوةَ في الدنيا، والشرفَ

[صفحه 49]

وثوابَ الجنان، فلم يُجبه أحدٌ منهم إلاّ أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلامَ فنَحَلَه بذلک تحقيقَ الأخوّة والوزارة والوصيّة والوراثة والخلافة، وأوجَبَ له به الجنّة.

وذلک في حديث الدار، الذي أجمع علي صحّته نُقّاد الآثار، حين جَمَعَ رسول اللّه صلّي اللّه عليه وآله بني عبد المطّلب في دارأبي طالب، وهم أربعون رجلاً - يومئذ - يَزيدون رجلاً أو يَنْقصُون رجلاً - فيما ذکره الرُواة- وأمر أن يُصْنَع لهم فَخِذُ شاةٍ مع مُدّمن البُرّ، ويُعَدَّ لهم صاعٌ من اللبن، وقد کان الرجل منهم معروفاً باکل الجَذَعَة في مقام[2] واحد، ويَشرب الفَرق[3] من الشراب في ذلک المَقام، وأراد عليه السلام بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهارَ الآية لهم في شِبعِهم وريّهم ممّا کان لا يُشْبِع الواحدَ منهم ولا يًروِيْه.

ثمّ أمر بتقديمه لهم، فأکَلَت الجماعةُ کلها من ذلک اليسيرحتّي تملّؤوا منه، فلم يَبِن ما أکَلُوه منه وشرَبوه فيه، فبَهَرَهم بذلک، وبَيّنً لهم اية نُبوّته، وعلامةَ صدقه ببرهان اللّه تعالي فيه.

ثمّ قال لهم بعد أن شَبِعوا من الطعام ورَوُوْا من الشراب: «يا بني عبد المطّلب، إنّ اللّه بعثني إلي إلخلق کافة، وبعثني إليکم خاصة، فقال عزّ وجلّ: (واَنذرْ عَشِيرَتکَ الأقْرَبينَ)[4] وأنا أدعوکم إلي کلِمتين خفيفتين علي اللسان ثقيلتين في الميزان، تَمْلِکون بهما العَرَب والعَجَم،

[صفحه 50]

وتنقادُ لکم بهما الأُممُ، وتَدْخُلون بهما الجنة، وتنجُوْن بهما من النار، شهادةِ أن لا إلهَ إلاّ اللّه وأنّي رسولُ اللّه، فَمنْ يُجِبْني إلي هذا الأمر ويُؤازرْني عليه وعلي القيام به، يَکُنْ أخي ووصيّ ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي» فلم يجب أحد منهم.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: «فقمتُ بين يديه من بينهم - وأنا إذ ذاک أصغرُهم سنّاً، وأحمَشُهم[5] ساقاً، وأرمَصُهم[6] عيناً - فقلتُ: أنا - يا رسول اللّه - أؤازرُک علي هذا الأمر. فقال: اجْلِسْ، ثم أعاد القول علي القوم ثانيةً فاُصْمِتوا، وقمتُ فقلتُ مثلَ مقالتي الأولي، فقال: اجْلِسْ. ثمّ أعاد علي القوم مقالَتَه ثالثةً فلم يَنْطِقْ أحدٌ منهم بحرفٍ، فقلتُ: أنا أؤازرک - يا رسولَ اللّه ـ علي هذا الأمر، فقال: اجْلِس، فانت أخي ووصّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي».

فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب، لِيَهْنِک[7] اليوم إن دَخَلْتَ في دين ابن أخيک، فقد جَعَل ابْنَک أميراً عليک[8] .

وهذه منقبة جليلة اختَصّ بها أميرُ المؤمنين عليه السلام ولم يَشْرَکْه

[صفحه 51]

فيها أحدٌ من المهاجرين الأوّلين ولا الأنصار، ولا أحدٌ من أهل الإسلام، وليس لِغيره عِدلٌ لها من الفضل ولا مقاربٌ علي حال، وفي الخبر بها ما يُفيد أنَّ به عليه السلام تَمَکّنَ النبي صلّي اللّه عليه وآله من تبليغ الرسالة، وإظهار الدعوة، والصدع بالإسلام، ولولاه لم تَثْبُتِ الملّة، ولا استقرّتِ الشريعة، ولا ظَهَرَتِ الدعوة. فهوعليه السلام ناصرُ الإسلام، ووزيرُ الداعي إليه من قِبَلِ الله - عزّ وجلّ - وبضمانه لنبيّ الهدي عليه السلام النصرةَ تَمّ له في النبوّة ما أراد، وفي ذلک من الفضل ما لا تُوازنه[9] الجبالُ فضلاً، ولا تعُادله الفضائلُ کلّها محلاً وقدراً.


صفحه 49، 50، 51.








  1. في «م» وهامش «ش»: بذکرها.
  2. في هامش «ش، م، ح»: في نسخة: مقعد.
  3. الفرق: مکيال يسع ستة عشر رطلاً، وفي هامش «ش» و «م»: «في نسخة: الزق»، وهو السقاء، انظر «الصحاح - فرق - 4: 1540».
  4. الشعراء 26: 214.
  5. رجل أحمش الساقين: دقيقهما «الصحاح - حمش -3: 1002».
  6. الرَمَصُ: وسخ يجتمع في مجري الدمع. «انظر: الصحاح - رمص - 3: 1042».
  7. في هامش «ش» و«م»: ليهنئک، وکلاهما بمعني ليسرّک ‎.
  8. انظر مصادر حديث الدار في تاريخ دمشق - ترجمة أميرالمؤمنين عليه السلام - 1: 97 - 103 والغدير 2: 278 - 289.
  9. في هامش «ش» و «م»: توازيه.