من كلامه في ذم تقاعس اهل الكوفة عن الجهاد











من کلامه في ذم تقاعس اهل الکوفة عن الجهاد



«أيُّها النّاسُ، إِنّي استنفرتُکم لجهادِ هؤلاءِ القوم فلم تَنفِروا، وأَسمعتُکم فلم تُجيبوا، ونَصَحتُ لکم فلم تَقْبَلوا، شُهودٌ کالغُيَّب، أتلو عليکُمُ الحِکمةَ فتُعرِضونَ عنها، وأعِظُکم بالموعظة[1] البالَغة فَتَتفَرقونَ عنها، کأنّکم حُمُرٌ مُستنفِرةٌ فَرَّتْ من قَسْوَرةٍ؛وأحُثّکم علي جهادِ أَهلِ الجَوْرِ فما اتي علي آخِر قولي حتَّي أراکم متفرِّقينَ أياديَ سَبَأ، تَرجِعونَ إِلي مَجألِسِکم تتربّعونَ حَلَقاً، تَضرِبونَ الأمثالَ، وتَناشَدونَ[2] الأشعارَ، وتَجَسَّسونَ الأخبارَ، حتّي إِذا تَفرَّقتُم تَسألونَ عَنِ الأسعارِ، جَهلةً[3] من غيرِ عِلْمٍ، وغَفلةً من غير وَرَع، وتَتَبُّعاً[4] في غيرِخَوْفٍ، نَسِيتُمُ الحربَ والاستعدادَ لها، فأصبحَتْ قلوبکَم فارِغةً من ذکرِها، شَغَلتُموها بالأعاليلِ والأباطيلِ.فالعَجَب کُلَّ العَجَب وما لي لا أعجَبُ مِن اجتماعِ قومٍ علي باطلِهم، وتخاذُلِکم عن حقِّکم!.

يا أهلَ الکُوفةِ، أنتم کاُمِّ مُجالِدٍ، حَملَتْ فأملَصَتْ، فماتَ قيِّمُها، وطالَ تأيُّمُها، ووَرِثَها أبْعَدُها.

والّذي فَلَقَ الحبّةَ ، وبرأ النَّسَمةَ، إِنّ من ورائکم للأعور

[صفحه 279]

الأدبر[5] جَهنّم الدُّنيا لا يُبقي ولا يَذَرُ، ومن بعدِه النهّاسُ الفرَّاسُ[6] الجَموعُ المنَوعُ، ثمّ لَيَتوارثَنّکم من بني أُميّةَ عِدّةٌ، ما الآخرُ بأرأَفَ بکم مِنَ الأوّلِ، ما خلا رجلاًَ واحداً[7] ، (بلاءٌ قضاهُ اللهُ )[8] علي هذهِ الأُمّةِ لا محالةَ کائنٌ، يَقتلونَ خِيارَکم، ويَستعبدونَ أراذلَکم، ويَستخرِجونَ کنوزکم وذَخائرَکم من جَوْفِ حِجالِکم[9] ، نِقْمةً بما ضيَّعتُم من أُمورِکم وصَلاحَ أنفسِکم ودينکم.

يا أهلَ الکُوفةِ، أُخبرکم بما يَکون قبلَ أَن يَکونَ، لِتَکونوا منه علي حَذَرٍ، ولِتُنذِروا بهِ مَنِ اتّعظَ واعتبرَ. کأني بکم تَقولونَ: إِنَّ عليّاَ يَکذِبُ، کما قالتْ قريشٌ لنبيِّها- صلّي اللّهُ عليهِ والهِ- وسيِّدِها نبيِّ الرّحمةِ محمّدِ بنِ عبدِاللّهِ حبيب اللهِ، فيا وَيْلَکم، أفَعلي مَنْ أَکذِبُ!؟ أَعَلَي اللّهِ، فأنا أوّلُ من عَبَدَه ووَحًّدَه، أم علي رسولهِ، فأنا أوّلُ من امنَ بهِ وصدَّقَه ونَصَرَه! کلا، ولکنَّها لَهْجَة خَدْعَة کُنتُم عنها أغبياءَ[10] .

والّذي فَلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النّسَمةَ، لَتَعْلَمنَّ نَبَأهُ[11] بعدَ حينٍ، وذلکَ إِذا صَيَّرکم إِليها جهلُکم، ولا يَنفَعُکم عندَها علمُکم، فقبحاً لکم يا أشباهَ الرِّجالِ ولا رجالَ، حُلومُ الأطفالِ وعُقولُ رَبّاتِ الحِجالِ، أمَ والله أيُّها الشّاهدة أبدانُهم، الغائبةُ عنهم عُقولُهم، المختلفةُ أهواؤُهم،

[صفحه 280]

ما أعزَّ اللهُ نَصْرَ من دعاکم، ولا استراحَ قلبُ من قاساکم، ولا قرَّتْ عينُ من اواکم، کلامُکم يوهي[12] الصمّ الصِّلابَ، وفِعلُکم يطمع فيکم عدوکَم المرتاب. ياويَحْکُمْ، أيَّ دارٍ بعدَ دارِکم تَمنعونَ! ومعَ أي إِمامٍ بعدي تُقاتِلونَ! المغرورُ- واللهِ- من غَرَرْتُموه، من فازَ بکم فازَ بالسّهمِ الأخْيَبِ، أصبحْت لا أطمَعُ في نَصرِکم، ولا أُصدِّقُ قولَکم، فَرَّقَ اللّهُ بيني وبينَکم، وأعقَبَني بکم من هوخيرٌ لي منکم، وأعقَبَکم من هو شرٌّ لکم مني.

إِمامُکم يُطيعُ اللّهَ وأنتم تَعصُونَه، وِامامُ أهلِ الشّامِ يَعصي الله وهم يُطيعونَه، واللّهِ لَوَدِدْتُ أنّ معُاويةَ صارَفَني بکم صرْفَ الدِّينارِ بالدِّرْهَم، فأخَذَ منّي عَشرةً منکم وأَعطاني واحداً منهم. واللهِ لَوَدِدْتُ أنّي لم أعَرِفْکم ولم تَعرِفوني، فإِنّها مَعرِفةُ جَرَّتْ نَدَماً. لقد وَريتُم صَدْري غَيظاً، وأفسدتُم عليَّ أمري بالخِذلانِ والعِصيانِ، حتّي لقد قالتْ قُريشٌ: إِنَّ عليّاً رجلٌ شجاعٌ لکنْ لا علمَ له بالحروب، للهِّ دَرُّهمِ[13] ، هل کانَ فيهم أحدٌ أطولَ لها مِرَاساً منّي! وأ شدَّ لها مُقاَساةً! لقد نهَضْتُ فيها وما بَلَغْتُ العِشرينَ، ثَم ها أنا ذا قد ذَرَّفْتُ في هامش «ش» و «م»: نيّفت.

علي السِّتِّينَ، لکنْ لا أمْرَ لمن لا يُطاعُ. أمَ واللّهِ ، لَوَدِدْت أنّ ربِّي قد أخرجَني من بينِ أظْهُرِکم إِلي رِضوانِه، وإنَّ المنيّةَ لَتَرصُدُني فما يَمنَعُ أشقاها أن يَخضبَها- وتَرَکَ يدَه علي رأسِه ولحِيتِه- عهدٌ في «م» وهامش «ش»: عهداً.

عَهِدَه إِليَّ النّبيُّ الأمِّيًّ

[صفحه 281]

وقد خابَ مَنِ افتري، ونَجا مَنِ اتَّقي وصَدَّقَ بالحُسني.

يا أهلَ الکُوفةِ، دعوتُکم إِلي جهادِ هؤلاءِ ليلاً ونهاراً وسِرّاً وإعلاناً، وقلتُ لکُمُ اغزوهم، فإِنّه ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهم إِلا ذَلُّوا، فتَواکَلتُم وتَخاذَلتُم، وثَقُلَ عليکم قولي، واستصعبَ عليکم أمري، واتخذتمُوه وراءَکم ظِهْرِيّاً، حتّي شُنَّتْ عليکُمُ الغاراتُ، وظَهَرَتْ فيکُمُ الفَواحِشُ والمنُکَراتُ تُمَسِّيکم وتُصَبِّحُکم، کما فُعِلَ بأهلِ المَثُلاتِ من قَبْلِکم، حيثُ أخبرَ الله تعالي عنِ الجَبابِرةِ والعُتاةِ الطّغاةِ، والمُستضعفينَ[14] الغُواةِ، في قولهِ تعالي ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَيَسْتَحْيُوْنَ نِسَاءَکُمْ وَفِيْ ذلِکُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّکُمْ عَظِيْمٌ )[15] أَمَ والّذي فَلَقَ الحبَّةَ وبَرَأ النَّسَمةَ، لقد حَلَّ بکُمُ الّذي تُوعَدونَ.

عاتَبتُکم- يا أهلَ الکُوفةِ- بمَواعِظِ القُرآنِ فلم أنتفعْ بکم، وأدبتُکم بالدِّرَةِ فلم تَستقيموا، وعاقَبتُکم بالسَّوطِ الّذي يُقامُ بهِ الحدُودُ فلم تَرعَوُوا[16] ، ولقد علمتُ أنّ الّذي يُصلِحُکم هو السّيفُ، وما کنتُ مُتحرِّياً صَلاحَکم بفَسادِ نَفْسي، ولکن سَيُسَلَّطُ عليکم من بعدي سُلطانٌ صَعْبٌ، لا يُوقِّرُکبيرکم، ولا يَرحَمُ صغيرکم، ولا يُکرمُ عالِمَکم، ولا يَقسِمُ الفَيءَ بالسَّوِيَّةِ بينَکم، ولَيَضرِبنًّکم ويُذِلَّنَّکم ويجَمِّرَنَّکم[17] في المَغازي ويَقْطَعَنَّ سبيلَکم، ولَيَحْجُبَنَکم علي بابه،

[صفحه 282]

حتي يأْکُل قويُکم ضعيفَکم، ثمّ لا يُبعِد الله إلاّ من ظَلَمَ منکم، وَلَقَلَّما أدبرَ شيءٌ ثمّ أقبلَ[18] ، وإنّي لأظنُّکم في فَترةٍ، وما عَلَيَّ إِلاّ النُّصحُ لکم.

يا أَهلَ الکوفةِ، مًنِيتُ منکم بثلاثٍ واثنتينِ صُمٌّ ذَوو أَسماع، وبکمٌ ذَوو ألسُنٍ، وعُميٌ ذَوو أَبصارٍ، لا إِخوانُ صدقٍ عندَ اللقاءِ، ولا إِخوانُ ثقةٍ عندَ البلاءِ. اللّهمّ إِنّي قد مَللتُهم ومَلًّوني، وسئمتُهم وسئموني. اللّهمّ لا تُرْضِ عنهم أَميراً ولا تُرْضِهم عن أميرٍ، وأَمِثْ قلوبَهم کما يماثْ الملحُ في الماءِ. أمَ واللهِ، لو أجِدُ بُدَّاً من کلامِهَم ومُراسلتکم ما فعلتُ، ولقد عاتبتُکم في رُشدِکم حتّي لقد سئمتُ الحياةَ؛ کلّ ذلکَ تُراجِعونَ بالهُزء[19] منَ القولِ فِراراً منَ الحقِّ، وإلحاداً[20] إِلي الباطلِ الّذي لا يُعِزُّ اللّهُ بأهلهِ الدِّينَ، وانّي لأعلمُ أنّکم لا تَزيدونَني غيرَ تَخْسيرٍ، کلّما أمرتُکم بجهادِ عدوِّکمُ اثّاقلتُم إِلي الأرضِ، وسمألتمُوني التّأْخيرَدِفاعَ ذي الدَّينِ المَطولِ. إِنْ قلتُ لکم في القيظِ: سِيروا، قلتم: الحَرُّ شديدٌ، وإنْ قلتُ لکم في البردِ: سِيروا، قلتمُ: القًرُّ شديدٌ؟ کلَّ ذلک فِراراً عنِ الجَنَّةِ. إِذا کنتُم عنِ الحرِّ والبرد تَعجِزونَ، فأنتم عن حرارةِ السّيفِ أعجزُ وأعجزُ، فإِنّا للهِ وِانّا إِليهِ راجعونَ.

يا أهلَ الکُوفةِ، قد أتاني الصرِيخُ يُخبِرُني أنَّ أخا غامِدٍ[21] قد نَزَلَ

[صفحه 283]

الأنْبَارَ علي أهلِها ليلاً في أربعةِ آلافٍ، فأغارَ عليهم کما يُغارُ علي الرًّوْمِ والخَزَرِ، فقَتَل بها عامِلي ابنَ حَسَّان وقَتلَ معَه رجالاً صالحِينَ ذَوِي فَضْلٍ وعبادةٍ ونَجْدةٍ، بوأ اللّهُ لهم جَنّاتِ النّعيم؟ وأنه أباحَها، ولقد بَلَغَني أنّ العصبَةَ من أَهلِ الشّامِ کانوا يَدخلونَ علي المرأةِ المُسلِمةِ والأخري المُعاهَدَةِ، فيَهتِکه سترها، ويأخُذونَ القِناعَ من رأسها، والخُرصَ[22] من أُذنِها، والأَوْضاحَ[23] من يَدَيْها ورِجلَيْها وعَضُديْها، والخَلْخالَ والمِئزَرَ من سُوْقِها، فما تَمْتَنِعُ إِلاّ بالاسترجاع والنِّداءِ: ياللمُسلِمينَ، فالأيُغيثها مُغيث، ولا يَنصُرُها ناصِرٌ. فلو أَنّ مؤمِناً َماتَ من دونِ هذا أسفاً ما کانَ عندي مَلُوْماً[24] ، بل کانَ عندي بارّاً مُحسِناً. واعجباً کلَّ العَجَبِ، مِن تضافر هؤلاءِ القومِ علي باطِلهم وفَشَلِکم عن حقِّکم! قد صِرتُم غَرَضاً يُرمي ولا تَرْمُون، وتُغْزَوْنَ ولا تَغْزُوْنَ، ويُعصي اللّهُ وتَرْضَوْنَ، تَرِبَتْ[25] أيديکم يا أشباهَ الإبلِ غابَ عنها رُعاتها، کلَّما اجتمعتْ من جانبٍ تَفرَّقتْ من جانب»[26] .

[صفحه 284]


صفحه 279، 280، 281، 282، 283، 284.








  1. في هامش «ش»: الموعظة.
  2. في «م» و «ح»: تنشدون.
  3. في «ش»: جهالة.
  4. في هامش «ش» و«م»: تثبطاً.
  5. في هامش «ش» و«م»: يعني: الحجاج بن يوسف.
  6. في هامش «ش» و«م»: کانه هشام بن عبد الملک.
  7. في هامش «ش» و«م»: عمر بن عبد العزيز.
  8. في هامش «ش»: فما قضاه اللّه.
  9. الحجال: جمع حجلة، وهي بيت يزين بالثياب والأسرّة والستور، يهيأ للعروس. انظر «الصحاح- حجل- 4: 1667».
  10. في «م»: أغنياء..
  11. في «م»: وهامش «ش»: نبأها.
  12. في «م» و«ح» وهامش «ش»: يوهن.
  13. في «م» وهامش «ش»: هم.
  14. وردت (المستضعفين ) بفتح العين وکسرها في النسخ وفي هوامش «ش» و «م»: المستضعفون هم المعاقبون بالذبح والقتل، وفي هامش «ش»: المستضعف: المستکبر.
  15. البقرة 2: 49.
  16. في هامش «ش»: الارعواء ة وهو الندم علي الشيء والانصراف عنه والترک له.
  17. في هامش «ش» و «م»: التجمير: ترک العسکر في وجه العدو.
  18. في هامش «ش»: فاقبل.
  19. في هامش «ش» و «م»: بالهذر.
  20. في «ح» وهامش «ش» و «م»: اخلاداً.
  21. أخا غامد، هو سفيان بن عوف بن المغفل الغامدي، امّره معاوية علي جيش لغارة علي أهل الانبار والمدائن في ايام علي عليه السلام، وقتل حسان بن حسان عامل علي عليه السلام علي الانبار.
  22. الخرص: الحلقة من الذهب والفضة. «الصحاح- خرص- 3: 1036».
  23. الاوضاح: حلي من الفضة. «الصحاح- وضح- 1: 416».
  24. في هامش «ش» و «م»: مليماً.
  25. في «م» وهامش «ش»: فتربت.
  26. ورد مقطعاً في: الغارات 2: 474، 483، 494، ومعاني الأخبار: 309/ 1، ونثر الدر 1: 291، 298، ونهج البلاغة ا: 26/63 و 88 93/1، وأورده الطبرسي في الاحتجاج: 173، ونقله العلامة المجلسي في البحار 8: 697 (ط / ح ).