المقدمة











المقدمة



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، منتهي الحمد، وغايته، وصلي الله علي محمد النبي الاُمّي، والرحمة المهداة، وعلي أهل بيته سفن النجاة، ومنائر الهدي.

أما بعد:

فلعله من البديهي القول بانَّ کتابة التأريخ، أوما يُصطلح علي تسميته بعلم التاريخ، يُعد بلا شک من علوم المعرفة التي حظيت بالعناية الواسعة من قبل المسلمين بحيث يعدو من العسير تصور وجود أُمة أخري اقامت لها تأريخاً واسعاً ومسهباً کما هو لدي المسلمين.

وإذا کان هَمُّ المسلمين عقب العهد الاسلامي الأول هو تثبيت وحفظ مغازي الرسول الاکرم (صلّي الله عليه وآله) لما لها من دلالة مهمة علي حقيقة شهدت الانعطاف الکبير المعاکس في حياة البشرية، نحو اقرار المثل، وتصحيح الانحراف الذي اصاب کل الکيانات الاساسية في البنيان البشري، وترجمة ملموسة لحاجة المجتمع إلاسلامي في محاولته ارساء العقائد والاحکام الشرعية التي جاء بها صاحب الشريعة، وتثبيتها کاصول تعبدية، فان القرآن

[صفحه 4مقدمه]

الکريم قد فتح الباب علي مصراعيه امام عموم المسلمين لتدارس حياة الأمم السالفة والغابرة، کمناهج اکاديمية وتربوية لتلافي موارد العطب ومواضع الهلکة، کما اشارإليه قوله تعالي: (وَلَقَدالحج 22: 45 - 46. بَعَثنا في کُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أنِ اعبُدُوا الله وَاجتَنِبوا الطَّاغُوتَ فَمِنهُم مَن هَدي الله وَمِنهُمِ مَن حَقَّت عَليهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا في الارضِ فَانظُرُوا کَيفَ کانَ عاقِبَةُ المُکَذِّبين)[1] .

وقال تعالي (فَکَأيِّن مِن قَريَةٍ أهلَکنَاها وَهيَ ظَاِلمَةٌ فَهِي خاوِيَةٌ علي عُرُوشها وَبئرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصرٍ مشِيدٍ * أفَلَم يَسِيرُوا في الأرض فَتَکُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعقِلُونَ بِهَا أَو آذَانٌ يَسمَعُونَ بها)[2] .

وغير ذلک من الآيات اَلکريمة التي يصعب حصرها وايرادها هنا.

وبذا فقد أوقد القرآن في مخيلةّ المسلم المتدبر في آياته فکرة البحث والتنقيب عن حياة الأمم السالفة، والتي اشار إليها کتاب الله تعالي تلميحاً وتذکيراً، ولا يتأتي ذلک إلا من خلال التشمير والبحث الجاد والرصين لاستحصال حکاية ما مضي وغاص في رمال ارض الجزيرة وما يحيط بها من امتدادات سحيقة مترامية الاطرإف.

ولما کانت الدعوة الاسلامية طرية واعوادها غضة لم تنل منها سني الشيخوخة شيئاً، فلم تکن کتابة تأريخها بمتعسرة ولا شاقة ابداً، ولا يعسرعلي الباحثين والمؤرخين وضع اللبنات الاساسية لتأريخ اسلامي متکامل يبقي زاداً ومعاشاً دينياً ودنيوياً للاجيال اللاحقة والدهور المتعاقبة، حتي يرث الله تعالي الارض ومن عليها، هذا إذا اقترن مداد کاتبيه بالصدق والامانة، وتجاوز التحزب والتعصب، والحرص علي التمسک بکلمة الحق رغم مشقة المخاض، وهذا ما لم يوفق له معظم کتبة التأريخ وصانعي اسس بنائه الشامخ، فتوارثته

[صفحه 5مقدمه]

الاجيال هجيناً مشوباً بالادران، وهو ما سيتبين من خلال ما سنتعرض إليه لاحقاً.

بلي لم تکن مسألة اقامة أسس تأريخ اسلامي متخصص بممتنعة وشاقة ابداً، بل کانت المشقة العظيمة تکمن في کتابة تاريخ الحقب الماضية التي مضي عليها الزمن وما ابقي لها حتي اطلالاً، وبالاخص في ارض الجزيرة، مهبط الوحي، ومنطلق الرسالة المحمدية المبارکة، حيث أن ما توافر من معلومات متناثرة عن طبيعة الاحوال التي کانت سائدة آنذاک، کانت من الندرة والتشتت بشکل لا يتيح للمؤرخ القدرة علي استيعابها وبشکل جامع وشامل يطمئن إليه، ولقد کان اکثر ما ورد عنها لا يتجاوز النقوش المکتوبة بالخط المسند علي حوائط المعابد والاديرة واعمدة الحصون والقصور في الحيرة واليمن، ترافقها روايات وإساطير منقولة شفاهاً عن اسماء الملوک القدماء وحکاياتهم، مع قصص غامضة ومهولة او مشوشة عن ايام القبائک وحروبها مشفوعة بالاشعار، والتي ضاع معظمها بضياع اشعارها، واما ما قيل من ان وهب بن منبه، وعبيد بن شرية[3] کانا من مصنفي تأريخ تلک الحقبة الماضية، فلا مناص من القول بان حقيقة عملهما ما کان إلا تسطير ملحمي، وسرد مشوش، لانهما ما کانا في عملهما إلا کخابطي عشوة في اکثر ما اورداه.

تلک کانت مشقة الکتابة للعصور السابقة لبداية التوجه نحو کتابة التأريخ، واما التأريخ الأسلامي، فکما ذکرنا سالفاً کان حظه وافراً في کثرة ما کُتب عنه، وما اُلّف في شأنه، فهناک العشرات من المحاولات المستمرة، والتي حاولت ان تضع لبنات التأريخ الاسلامي ورص أسسه في ارض الواقع المعاش، حلّ بأکثرها النسيان والضياع، أو عدم الالتفات إلي مدي جديتها او

[صفحه 6مقدمه]

رصانتها العلمية، فبقيت جملة محددة ومشخصة، يذهب معظم الباحثين إلي ان اشهرمن کتب في هذا الجانب کانا محمد بن اسحاق بن يسار(ت 151 هـ) ومحمد بن عمر الواقدي (ت 207 هـ)، وان کان قد سبقهما في التصنيف عروة ابن الزبير[4] 1، ووهب بن منبه[5] ، بيد ان ندرة او قلة ما وصل بايدي الباحثين والمؤرخين، لم تحدد للاخيرين سيرة متکاملة محددة المعالم، إلا أن کثرة نقول ابن اسحاق والواقدي عنهما تبين بوضوح انهما - وبالاخص عروة بن الزبير- کانا قد سبقا في هذا المضمار[6] .

کما ان التأمل في هاتين السيرتين - واللتين تعدان بلا شک دعامتين مهمتين في تدوين ما عرف بالتأريخ الاسلامي - تبين بوضوح ايضاً انهما کانا في احيان کثيرة تابعتين لعروة بن الزبيرفي تحديد مساريهما، وتثبيتهما للوقائع المهمة، لا سيما فيما يتعلق بالهجرة إلي الحبشة والمدينة، وغزوة بدر وغيرها، وکذا بالنسبة لوهب بن منبه، حيث روي ابن اسحاق عنه القسم الاول من السيرة.

وان کان هذا الامر لا يلغي في حدوده وجود ثلة لا باس بها من المؤرخين واصحاب السير، حاولت أن تدلي بدلوها في هذا المعترک المهم امثال: ابان بن عثمان (ت 105هـ) وشرحبيل بن سعد (ت 123هـ) وابن شهاب الزهري

[صفحه 7مقدمه]

(ت 124هـ) وعاصم بن عمربن قتادة (ت 120هـ) وعبد الله بن ابي بکربن حزم (ت 135 هـ) وموسي بن عقبة(ت 141 هـ) ومعمربن راشد(ت 150هـ)، وغيرهم ممن عاصروا تلک الحقبة الزمنية أو بعدها بقليل، امثال محمد بن سعد(ت 230هـ)، وابن هشام (ت230 هـ).

ولعل التأمل اليسير في مجمل اسماء المؤرخين وزمن کتابتهم للتأريخ يبين بوضوح ان اسس التأريخ المعروف لدينا الآن قد بُنيت ابان الحکمين: الاموي - المغتصب للخلافة الشرعية برائده معاوية بن أبي سفيان - والعباسي - المتاجر بشعار آل محمد - ولا يخفي علي ذي لب فطن ما دأب عليه رجال وساسة الدولتين من محاولات متکررة لاضفاء هالة الشرعية والقدسية علي حکميهما مع دفع اصحاب الحق الشرعيين عن مناصبهم التي رتبها الله تعالي لهم.

ولعله من الطبيعي ان يعمد النظامان واتباعهما إلي تشذيب کل الاصول التأريخية التي قد لاتتوافق مع الخط الذي تنتهجه الدولتان، أو تسخير الاقلام لأن تتوافق في مساراتها والتي تتناغم مع التوجهات غير المشروعة لرواد هاتين الدولتين.

ان المرور العابر لا التأمل المتدبر يکشف بوضوح ضعف الأصول التأريخية التي وصلت إلي العصور اللاحقة لتلک الازمنة، واسفاف هذه الموسوعات في التحدث عن حياة الملوک ومجالس مجونهم ودقائق اُمورهم، واعراضها المقصود عن اهم القضايا العقائدية التي ابتني عليها الدين الاسلامي الحنيف.

ومن المؤلم أن يلجأ الکثير من المؤرخين إلي اعتماد ما يصل اليهم من النصوص التاريخية دون اخضاعها للنقد والمناقشة، بل والانکي من ذلک أن تجد منهم من يتنصل من تبعه ما يورده من وقائع واحداث وما ستتلقفه الاجيال اللاحقة به وکانها حقائق مسلمة لأنها وردت في مرجع مهم من مراجع

[صفحه 8مقدمه]

التاريخ، کما ادعي ذلک الطبري في مقدمة کتابه الشهير بتأريخ الامم والملوک، حيث قال: «فما يکن في کتابي هذا من خبرذکرناه عن بعض الماضين، مما يستنکره قارئه، أو يستشنعه سامعه....، فليعلم انه لم يؤت في ذلک من قبلنا، وانما اتي في بعض ناقليه إلينا، وانّا انما ادينا ذلک علي نحو ما أدي إلينا»!!.

ولا ادري اي الاخبار يتنصل من تبعتها الطبري - الذي يُعد مرجعاً للمؤرخين عند الاختلاف، کما يذکر ذلک سلفه ابن الاثير- أهي اخبار سيف ابن عمر الاسدي الذي اصر علي نقل اخباره رغم ما اتفق عليه الجميع من الطعن به والتشهير بمذهبه[7] ،

أم هي الروايات المتناقضة التي يرويها لواقعة واحدة کما هو معروف عنه، ام تسرب الاسرائيليات من الاخبار إلي متن کتابه وطعن المؤرخين بذلک کما في قصة خلق الشمس والقمروغيرها، ام شيء آخر؟

نعم هذا ماحصل، والاعظم من ذلک ان يُعد ذلک تأريخاً، ويجتر المؤرخون ما جاء به اسلافهم لتصبح تلک الترهات حقائق تُبني عليها جملة واسعة من التصورات والمعتقدات، ويختلط السليم بالسقيم.

قال ابن الاثير في سرده لکيفية کتابة تأريخه (1: 3): «فابتدأت بالتأريخ الکبير الذي صنَّفه الامام ابوجعفر الطبري، اذ هو الکتاب المعول عند الکافة عليه، والمرجوع عند الاختلاف اليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم اخل بترجمة واحدة منها».

[صفحه 9مقدمه]

وهکذا دواليک، وما ذاک بمستبعد ولا بمستغرب، فان في هذا الامرما يوافق هوي الحکومات المتلاحقة، والتي حاولت جاهدة أن ترسم خطوط التأريخ بعيداً عن مرتکزاته الاساسية والتي تشکل النقيض المضاد لوجودهم اللقيط، والخطر الاکبر امام احلامهم السقيمة.

ان رسول الله (صلّي الله عليه وآله) لمم يرحل عن هذه الدنيا حتي بيّن للامة سبيل نجاتها، ومرتکز عقائدها، والسبيل القويم الذي ترتبط به کل الابعاد وان تنافرت.

نعم ان الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ورغم ما جهدت اقلام المستأجرين وسيوف اسيادهم الظالمين من العمل علي تجاهلهم، رغم أن ذلک يخالف ما اقروه في صحاحهم من افضليتهم وعلو شأنهم - هم بلاشک قطب الرحي، ومرکز حرکة التأريخ، والمرجع القويم في فهم کل ما يحيط بهم من أحداث، اسوة بجدهم رسول الله صلّي الله عليه وآله، وما هذا التخبط والضياع إلاّ ثمرة واضحة لقلب موازين الحقائق والعدو خلف السراب.

ولکن ورغم کل ما احاط عملية کتابه التأريخ من کذب وتزوير وقهر وتنکيل، فان هذا لم يمنع من ان يعمد البعض إلي اعتماد المنهج العلمي الرصين في کتابة التأريخ، وان ترث منهم الاجيال اللاحقة صفحات بيضاء ناصعة لا تشوبها ادران التعصب ولا التحزب.

ولعل کتاب الارشاد لشيخنا المفيد رحمه الله نموذج حي - مع غيره من النماذج القديرة لرجالات الشيعة الافذاذ - في رسم صورة التعامل العلمي والصحيح مع التأريخ باعتماد المنهج العقائدي الذي اختطه لامته رسول الله (صلّي الله عليه وآله).

ولاغرابة في ذلک، فالشيخ المفيد يعد باتفاق الموالف والمخالف شيخ اساتذة الکلام، وصاحب الأراء المجددة، في وقت شهد فيها العالم الاسلامي

[صفحه 10مقدمه]

فثرة تعد من ابرز الفترات التأريخية وادقها، حيث انسحب ظل الدولة العباسية عن معظم بقاع الوطن الاسلامي، ولم يبق للخليفة العباسي آنذاک إلا بغداد واعمالها، والتي کانت للبويهيين السيطرة التامة عليها، حيث فسحوا المجال امام الحرياتَ المذهبية والمقالات الدينية، فاحتدم الصراع الفکريَ بين رجال المذاهب بشکل ليس ِله مثيل، حيث کان علي اشده بين الاشاعرة والمعتزلهّ، وکان لکل منهم زعماء کلاميون وعلماء مفکرون، وکانت الشيعة تؤلف القوة الثالثة التي يتزعمها عمها الشيخ المفيد رحمه الله، والذي استطاع - ومن خلال براعته في صناعة الکلام، وقوة حجيته، وقدرته الکبيرة علي الاحاطة بالکثير من العلوم المختلفة - أن ينفد ويضعف آراء الفريقين، ويثبت بطلانها.

کما ان الشيخ رحمه الله يعد من اوائل الذين لم يتوقفوا علي حرفية النصوص والاحاديث، بل بالاعتماد علي منطق الفکر المجرد والحر المبتني علي عقائد رصينة وقوية، ويشير إلي ذلک بوضوح قوله في شرحه لعقائد الصدوق رحمه الله في باب النفوس والارواح: «لکن اصحابنا المتعلقين بالاخبار اصحاب سلامة، وبعد ذهن، وقلة فطنة، يمرون علي وجوههم فيما يسمعون من الاحاديث، ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في اثباتها ولا يحصّلون معاني ما يطلقون منها».

ومن هنا فلا يسع المرء وهو يتأمل ويطالع صفحات کتاب الارشاد للشيخ المفيد رحمه الله إلا أن ترتسم في مخيلته جوانب من الابعاد الرائعة لذهنية مؤلفه، وجهده في اخراج صورة تمثل البناء الاساسي الرصين لما يسمي بعلم التأريخ، رحم الله الشيخ المفيد، واسکنه في فسيح جناته.

[صفحه 11مقدمه]


صفحه 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11.








  1. النحل 16: 36.
  2. الحج 22: 45 - 46.
  3. کان في صنعاء فاستدعاه معاوية فکتب له کتاب الملوک واخبار الماضين.
  4. اخ عبد الله بن الزبير، کان يعد من کبار فقهاء المدينة، اعتزل اخاه في قتاله مع الامويين، ثم بايع عبد الملک بن مروان بعد مقتل اخيه.
  5. قال عنه ابن حجر (تهذيب التهذيب 11:148): کان أول حياته يقول بالقدر، وکتب فيه کتاباً.

    وقال ياقوت الحموي (معجم الأدباء 19: 259): کان کثير النقل من الکتب القديمة المعروفة بالاسرائيليات.

    وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء5: 445): روايته للمسند قليلة، وإنّما غزارة علمه في الاسرائيليات، ومن صحائف أهل الکتاب.

  6. أنظر کشف الظنون 2: 1747.
  7. قال ابن معين: ضعيف الحديث، وقال مرة: فليس خير منه، وقال أبو حاتم: متروک الحديث، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال النسائي والدار قطني ضعيف،وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منکرة، وقال ابن حبان: يرويَ الموضرعات عن الأثبات، قال: وقالوا: إنه کان يضع الحديث وأتهم بالزندقة، وقال البرقاني: متروک، وقال الحاکم: أتهم بالزندقهّ، وهو في الرواية ساقط.