خلق الأرض وتأهيلها للمعيشة











خلق الأرض وتأهيلها للمعيشة



5359- الإمام عليّ عليه السلام: أنشأ الأرض فأمسکها من غير اشتغال. وأرساها علي غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصَّنها من الأود[1] والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج. أرسي أوتادها، وضرب أسدادها،[2] واستفاض عيونها، وخدَّ أوديتها، فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قوّاه. هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي علي کلّ شي ء منها بجلاله وعزّته. لا يُعجزه شي ء منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه، ولا يحتاج إلي ذي مال فيرزقه. خضعت الأشياء له، وذلّت مستکينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلي غيره فتمتنع من نفعه وضرّه، ولا کُف ءَ له فيکافئه، ولا نظير له فيساويه. هو المفني لها

[صفحه 170]

بعد وجودها، حتي يصير موجودها کمفقودها. وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها[3] .

5360- عنه عليه السلام- في صفة الأرض ودحوها علي الماء-: کبس الأرض علي مور أمواج مستفحلة. ولُجج بحارزاخرة. تلتطم أواذيُّ أمواجها وتصطفق متقاذفات أثباجها،[4] وترغو زبداً کالفحول عند هياجها، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها، وسکن هَيج ارتمائه إذ وطِئته بکلکلها، وذلّ مُستخذياً إذ تمعّکت[5] عليه بکواهلها، فأصبح بعد اصطخاب أمواجه ساجياً مقهوراً، وفي حکمة الذلِّ منقاداً أسيراً، وسکنت الأرض مدحُوّة في لُجّة تيّاره، وردّت من نخوة بَأوِهِ[6] واعتلائه، وشموخ أنفه وسمّو غُلوائه، وکعمته[7] علي کظّة جريته، فهمد بعد نزقاته، ولبد[8] بعد زيفان[9] وثباته.

فلمّا سکن هَيجُ الماء من تحت أکنافها، وحمل شواهق الجبال الشمّخ البذَّخ علي أکتافها، فجّر ينابيع العيون من عرانين[10] اُنوفها، وفرّقها في سهوب[11] بِيدها

[صفحه 171]

وأخاديدها، وعدّل حرکاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب[12] الشمّ من صياخيدها،[13] فسکنت من الميدان لرسوب الجبال في قطع أديمها، وتغلغلها متسرّبة في جَوبات[14] خياشيمها، ورکوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها،[15] وفسح بين الجوِّ وبينها، وأعدّ الهواء متنسَّماً لساکنها، وأخرج إليها أهلها علي تمام مرافقها، ثمّ لم يدع جُرُز الأرض التي تقصر مياه العيون عن روابيها، ولا تجد جداول الأنهار ذريعة إلي بلوغها، حتي أنشأ لها ناشئة سحاب تحيي مواتها وتستخرج نباتها.

ألّف غمامها بعد افتراق لُمعه وتباين قَزَعِه،[16] حتي إذا تمخّضت لُجّة المزن فيه، والتمع برقه في کُفَفه، ولم ينم وميضه في کنهور[17] ربابه[18] ومتراکم سحابه، أرسله سحّاً مُتدارکاً، قد أسفّ هيدبُه،[19] تمريه[20] الجنوب درر أهاضيبه ودفع شآبيبه. فلمّا ألقت السحاب بَرکَ بوانيها،[21] وبعاع[22] ما استقلّت به من العب ء

[صفحه 172]

المحمول عليها، أخرج به من هوامد الأرض النبات، ومن زُعر[23] الجبال الأعشاب، فهي تبهج بزينة رياضها، وتزدهي بما اُلبسته من رَيط[24] أزاهيرها، وحلية ما سُمطت به من ناضر أنوارها، وجعل ذلک بلاغاً للأنام ورزقاً للأنعام وخرق الفجاج في آفاقها، وأقام المنار للسالکين علي جوادِّ طرقها.

فلمّا مهّد أرضه وأنفذ أمره، اختار آدم عليه السلام خِيرةً من خلقه، وجعله أوّل جبلّته، وأسکنه جنّته وأرغد فيها أکله، وأوعز إليه فيما نهاه عنه، وأعلمه أنّ في الإقدام عليه التعرّض لمعصيته والمخاطرة بمنزلته، فأقدم علي ما نهاه عنه- موافاةً لسابق علمه- فأهبطه بعد التوبة ليعمُر أرضه بنسله، وليُقيم الحجّة به علي عباده، ولم يخُلهم بعد أن قبضه، ممّا يؤکّد عليهم حجّة رُبوبيّته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحُجج علي ألسُن الخِيرة من أنبيائه، ومتحمِّلي ودائع رسالاته، قرناً فقرناً حتي تمّت بنبيّنا محمّد صلي الله عليه و آله حجّته، وبلغ المقطعَ عُذرُه ونذرُه.

وقدّر الأرزاق فکثّرها وقلّلها. وقسّمها علي الضيق والسعة فعدل فيها ليبتلِيَ من أراد بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلک الشکر والصبر من غنيّها وفقيرها. ثمّ قرن بسعتها عقابيل[25] فاقتها، وبسلامتها طوارق آفاتها، وبفُرج أفراحها غُصص أتراحها.

وخلق الآجال فأطالها وقصّرها، وقدّمها وأخّرها، ووصل بالموت أسبابها،

[صفحه 173]

وجعله خالجاً[26] لأشطانها[27] وقاطعاً لمرائر أقرانها. عالم السرِّ من ضمائر المضمرين، ونجوي المتخافتين، وخواطر رجم الظنون، وعُقد عزيمات اليقين، ومسارق إيماض الجفون، وما ضمنته أکنان القلوب وغيابات الغيوب، وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع، ومصائف الذرِّ ومشاتي الهوامِّ، ورجع الحنين من المولهات وهَمس الأقدام، ومُنفسح الثمرة من ولائج غُلف الأکمام، ومُنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها. ومُختبإ البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها، ومغرز الأوراق من الأفنان، ومحطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب، وناشئة الغيوم ومتلاحمها. ودُرور قطر السحاب في متراکمها، وما تسفي الأعاصير بذُيولها، وتعفو الأمطار بسيولها، وعوم بنات الأرض في کُثبان الرمال، ومستقرّ ذوات الأجنحة بذرا شناخيب الجبال، وتغريد ذوات المنطق في دياجير الأوکار، وما أوعبته الأصداف، وحضنت عليه أمواج البحار، وما غشيته سُدفة[28] ليل أو ذرّ عليه شارق نهار، وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير وسبحات النور، وأثر کلّ خطوة، وحسّ کلّ حرکة، ورجع کلّ کلمة، وتحريک کلّ شَفة، ومستقرّ کلّ نَسمة، ومثقال کلّ ذرّة، وهماهم کلّ نفس هامّة، وما عليها من ثمر شجرة، أو ساقط ورقة، أو قرارة نُطفة، أو نُقاعة دم ومضغة، أو ناشئة خلق وسُلالة، لم يلحقه في ذلک کُلفة، ولا اعترضته في حفظ ما ابتدع من خلقه عارضة، ولا اعتورته في تنفيذ الاُمور وتدابير المخلوقين ملالة ولا فترة، بل

[صفحه 174]

نفذهم علمه، وأحصاهم عدده، ووسعهم عدله، وغمرهم فضله مع تقصيرهم عن کُنه ما هو أهله.

اللهمّ أنت أهل الوصف الجميل والتعداد الکثير، إن تؤمّل فخير مأمول وإن تُرجَ فخير مرجوٍّ. اللهمّ وقد بسطتَ لي فيما لا أمدح به غيرک، ولا اُثني به علي أحدٍ سواک، ولا اُوجِّهه إلي معادن الخيبة ومواضع الريبة، وعدلت بلساني عن مدائح الآدميين، والثناء علي المربوبين المخلوقين.

اللهمّ ولکلّ مُثن علي من أثني عليه مثوبة من جزاء أو عارفة من عطاء، وقد رجوتک دليلاً علي ذخائر الرحمة وکنوز المغفرة. اللهمّ وهذا مقام من أفردک بالتوحيد الذي هو لک، ولم يرَ مستحقّاً لهذه المحامد والممادح غيرک، وبي فاقة إليک لا يجبر مَسکنتها إلّا فضلک، ولا ينعش من خلّتها إلاّ مَنُّک وجودک، فهب لنا في هذا المقام رضاک، وأغننا عن مدّ الأيدي إلي سواک، إنّک علي کلّ شي ء قدير[29] .

5361- عنه عليه السلام: ألا وإنّ الأرض التي تُقلّکم والسماء التي تُظلکم مطيعتان لربّکم، وما أصبحتا تجودان لکم ببرکتهما توجّعاً لکم ولا زُلفة إليکم، ولا لخير ترجوانه منکم، ولکن اُمرتا بمنافعکم فأطاعتا، واُقيمتا علي حدود مصالحکم فقامتا[30] .

5362- عنه عليه السلام: وکان من اقتدار جبروته، وبديع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراکم المتقاصف يَبساً جامداً، ثمّ فطر منه أطباقاً ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها، فاستمسکت بأمره، وقامت علي حدّه. وأرسي أرضاً يحملها الأخضر المُثعنجر[31] والقَمقام المسخّر، قد ذلّ لأمره، وأذعن لهيبته،

[صفحه 175]

ووقف الجاري منه لخشيته. وجبل جلاميدها ونُشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قراراتها فمضت رؤوسها في الهواء، ورست اُصولها في الماء، فأنهد جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في مُتون أقطارها ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عماداً، وأرَّزها فيها أوتاداً، فسکنت علي حرکتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها. فسبحان من أمسکها بعد موجان مياهها، وأجمدها بعد رطوبة أکنافها! فجعلها لخلقه مهاداً، وبسطها لهم فراشاً فوق بحر لُجّيٍّ راکد لا يجري، وقائم لا يسري، تُکرکره الرياح العواصف، وتمخضه الغمام الذوارف «إِنَّ فِي ذَ لِکَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَي»[32] [33] .

5363- عنه عليه السلام: الحمد للَّه الذي سدّ الهواء بالسماء، ودحا الأرض علي الماء[34] .

5364- عنه عليه السلام: فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتّد بالصخور ميدان أرضه[35] .

5365- عنه عليه السلام- مخاطباً اللَّه عزّ وجلّ-: أنت الذي في السماء عظمتک، وفي الأرض قدرتک وعجائبک[36] .

5366- عنه عليه السلام- في الدعاء-: سبحانک ما أعظم شأنک، وأعلي مکانک، وأنطق بالصدق برهانک، وأنفذ أمرک، وأحسن تقديرک! سمکت السماء فرفعتها،

[صفحه 176]

ومهّدت الأرض ففرشتها، وأخرجت منها ماءً ثجّاجاً، ونباتاً رجراجاً،[37] فسبّحک نباتها، وجرت بأمرک مياهها، وقاما علي مستقرّ المشيّة کما أمرتهما[38] .

5367- عنه عليه السلام: الحمد للَّه الذي لا مقنوط من رحمته، ولا مخلوّ من نعمته، ولا مؤيس من روحه، ولا مستنکف عن عبادته الذي بکلمته قامت السماوات السبع، واستقرّت الأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جوّ السماء السحاب، وقامت علي حدودها البحار[39] .

5368- عنه عليه السلام: السحاب غربال المطر، لولا ذلک لأفسد کلّ شي ء وقع عليه[40] .

5369- تفسير القمّي: نظر أميرالمؤمنين عليه السلام في رجوعه من صفّين إلي المقابر فقال: هذه کفات الأموات؛ أي مساکنهم، ثمّ نظر إلي بيوت الکوفة فقال: هذه کفات الأحياء، ثمّ تلا قوله: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ کِفَاتًا × أَحْيَآءً وَ أَمْوَ تًا»[41] [42] .

5370- الإمام عليّ عليه السلام- في دعائه-: اللهمّ ربّ السقف المرفوع... وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام، ومدرجاً للهوامّ والأنعام، وما لا يحصي ممّا يري وما لا يري[43] .

[صفحه 177]



صفحه 170، 171، 172، 173، 174، 175، 176، 177.





  1. الأوَدُ: العِوَج (النهاية: 79:1).
  2. السُّد بالفتح والضم: الجبل والرَّدم (النهاية: 353:2).
  3. نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 116:477:1، بحارالأنوار: 8:255:4.
  4. الثَّبَج: ما بين الکاهل إلي الظهر (النهاية: 206:1).
  5. تمعَّک: أي تَمرّغ في ترابِه (النهاية: 343:4).
  6. البأو: الکِبر والتعظيم (النهاية: 91:1).
  7. کَعم: أن يَلثَم الرجلُ صاحِبه، ويَضع فَمه علي فَمِه کالتقبيل، اُخِذ من کَعم البعير؛ وهو أن يُشَدّ فَمُه إذا هاج (النهاية: 180:4).
  8. لبَد بالمکان: أقام به ولَزِق فهو مُلبِدٌ به (لسان العرب: 385:3).
  9. الزَّيَفان: التَّبختُر في المَشي، من زافَ البعير يَزيف إذا تَبَختر (النهاية: 325:2).
  10. العِرنين: الأنف. وقيل: رَأسه، وجمعه عَرانَين (النهاية: 223:3).
  11. السَّهْب: وهي الأرضُ الواسعةُ (النهاية: 428:2).
  12. رُؤوس الجِبال العاليةِ، واحِدها شُنخوب (النهاية: 504:2).
  13. جمع صَيخود، وهي الصخرة الشديدة (النهاية: 14:3).
  14. الجَوْبَة: هي الحفرة المستَديرة الواسعة (النهاية: 310:1).
  15. الجراثيم: أماکن مرتفِعة عن الأرض مجتَمِعة من تراب أو طين (النهاية: 254:1).
  16. قزع: أي قِطعة من الغَيم وجَمعها: قَزَعٌ (النهاية: 59:4).
  17. الکَنهور: العَظيم من السحاب (النهاية: 206:4).
  18. الرَّباب: الأبيض منه (النهاية: 206:4) أي من السحاب.
  19. الهَيدَب: سَحابٌ يَقْرُبُ من الأرض، کأنّه مُتَدَلٍّ (لسان العرب: 780:1).
  20. تمريه: من مَرَي الضرعَ يَمرِيه (النهاية: 322:4).
  21. بواينها: ما فيها من المطر (النهاية: 164:1).
  22. البَعاع: شِدّة المطَر (النهاية: 140:1).
  23. الزعر: قليلة النبات (النهاية: 303:2).
  24. رَيط: جمع رَيطة: کلّ ثوبٍ رقيق لَيّن (النهاية: 289:2).
  25. العقابيل: بقايا المرض وغيره، واحدها عُقبُول (النهاية: 269:3).
  26. الخالجُ: المُسرِع في الأخذِ (النهاية: 475:2).
  27. الشَّطن: الحبل وقيل: هو الطَّويلُ منه، وإنما شدَّه بشطنين لقُوّته وشدَّته. فاستعار الأشطان للحياة لامتِدادِها وطولِها (النهاية: 475:2).
  28. السُّدْفة: من الأضداد تقع علي الضياء والظلمة، ومنهم من يجعلها اختِلاطالضوء والظلمة معاً، لوقت ما بين طلوع الفجر والإسفارِ (النهاية: 354:2).
  29. نهج البلاغة: الخطبة 91 عن مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام، بحارالأنوار: 90:111:57.
  30. نهج البلاغة: الخطبة 143، بحارالأنوار: 3:312:91.
  31. ثعجرَ: هو أکثر موضع في البحر ماءً. والميم والنون زائدتان (النهاية: 212:1).
  32. النازعات: 26.
  33. نهج البلاغة: الخطبة 211، بحارالأنوار: 15:38:57.
  34. الدروع الواقية: 187، بحارالأنوار: 194:97.
  35. نهج البلاغة: الخطبة 1، الاحتجاج: 113:473:1، بحارالأنوار: 5:247:4.
  36. الدروع الواقية: 202، بحارالأنوار: 202:97.
  37. الرجرَجَة: الاضطراب، ورجَّه: حرَّکه لسان العرب: 281:2).
  38. البلد الأمين: 94، بحارالأنوار: 7:141:90.
  39. من لا يحضره الفقيه: 1482:514:1، مصباح المتهجّد: 728:659 عن عبداللَّه الأزدي وفيه «وقرّت الأرضون السبع» بدل «واستقرّت الأرض المهاد».
  40. من لا يحضره الفقيه: 1495:525:1، قرب الإسناد: 479:136 عن أبي البختري عن الإمام الصادق عن أبيه عنه عليهم السلام، بحارالأنوار: 5:373:59.
  41. المرسلات: 25 و26.
  42. تفسير القمّي: 400:2، بحارالأنوار: 22:34:82.
  43. نهج البلاغة: الخطبة 171، وقعة صفّين: 232 عن زيد بن وهب وليس فيه «ومدرجاً»، بحارالأنوار: 402:462:32.