خلق الملائكة











خلق الملائکة



5355- الإمام عليّ عليه السلام- في صفة الملائکة عليهم السلام-: ثمّ خلق سبحانه لإسکان سماواته، وعمارة الصفيح الأعلي من ملکوته خلقاً بديعاً من ملائکته، وملأ بهم فُروج فِجاجها، وحشي بهم فتوق أجوائها. وبين فجوات تلک الفروج زَجَلُ[1] المسبحين منهم في حظائر القدس وستُرات الحجب وسُرادقات[2] المجد. ووراء ذلک الرجيج[3] الذي تستکّ منه الأسماع سبحاتُ نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة علي حدودها، وأنشأهم علي صور مختلفات وأقدار متفاوتات. «أُوْلِي أَجْنِحَةٍ»[4] تُسبّح جلالَ عزّته لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صُنعه، ولا يدّعون أنّهم يخلقون شيئاً معه ممّا انفرد به. «بَلْ عِبَادٌ مُّکْرَمُونَ × لَا يَسْبِقُونَهُ و بِالْقَوْلِ

[صفحه 164]

وَ هُم بِأَمْرِهِ ي يَعْمَلُونَ»[5] .

جعلهم اللَّه فيما هنالک أهل الأمانة علي وحيه، وحملهم إلي المرسلين ودائع أمره ونهيه، وعصمهم من ريب الشبهات، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته. وأمدّهم بفوائد المعونة، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السکينة، وفتح لهم أبواباً ذُللاً إلي تماجيده. ونصب لهم مناراً واضحة علي أعلام توحيده. لم تُثقلهم موصِراتُ[6] الآثام، ولم ترتحلهم عُقب الليالي والأيّام، ولم ترمِ الشکوک بنوازعها عزيمةَ إيمانهم، ولم تعترک الظنون علي معاقد يقينهم، ولا قدحت قادحة الإحن[7] فيما بينهم، ولا سلبتهم الحَيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم، وما سکن من عظمته وهيبة جلالته في أثناء صدورهم، ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها علي فکرهم، ومنهم من هو في خلق الغمام الدُّلَّح،[8] وفي عظم الجبال الشمَّخ، وفي قترة[9] الظلام الأيهم،[10] ومنهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلي، فهي کرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء، وتحتها ريح هفافة[11] تحبسها علي حيث انتهت من الحدود المتناهيّة، قد استفرغتهم أشغال عبادته، ووصلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته، وقطعهم الإيقان به إلي الوَلَه

[صفحه 165]

إليه، ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلي ما عند غيره.

قد ذاقوا حلاوة معرفته، وشربوا بالکأس الروية من محبته، وتمکنت من سويداء قلوبهم وشيجة خيفته، فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم، ولم ينفد طول الرغبة إليه مادة تضرعهم، ولا أطلق عنهم عظيم الزلفة ربق[12] خشوعهم، ولم يتولهم الإعجاب فيستکثروا ما سلف منهم، ولا ترکت لهم استکانة الإجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم. ولم تجر الفترات فيهم علي طول دؤوبهم، ولم تغض[13] رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربهم، ولم تجف لطول المناجاة أسلات[14] ألسنتهم، ولا ملکتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار[15] إليه أصواتهم، ولم تختلف في مقاوم الطاعة مناکبهم، ولم يثنوا إلي راحة التقصير في أمره رقابهم، ولا تعدو علي عزيمة جدهم بلادة الغفلات، ولا تنتضل[16] في هممهم خدائع الشهوات.

قد اتخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم، ويمموه عند انقطاع الخلق إلي المخلوقين برغبتهم، لا يقطعون أمد غاية عبادته، ولا يرجع بهم الاستهتار[17] بلزوم طاعته، إلا إلي مواد من قلوبهم غير منقطعة من رجائه ومخافته، لم تنقطع أسباب الشفقة منهم، فينوا[18] في جدّهم، ولم تأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيک

[صفحه 166]

السعي علي اجتهادهم. لم يستعظموا ما مضي من أعمالهم، ولو استعظموا ذلک لنسخ الرجاء منهم شفقات وجلهم، ولم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشيطان عليهم. ولم يفرّقهم سوء التقاطع، ولا تولّاهم غِلّ التحاسد، ولا تشعّبتهم مصارف الريب، ولا اقتسمتهم أخياف الهمم، فهم اُسراء إيمان لم يُفکّهم من ربقته زَيغ ولا عدول ولا ونًي ولا فتور. وليس في أطباق السماء موضع إهاب إلّا وعليه ملک ساجد، أو ساع حافد،[19] يزدادون علي طول الطاعة بربّهم علماً، وتزداد عزّة ربّهم في قلوبهم عِظماً[20] .

5356- عنه عليه السلام- في خَلق الملائکة-: ثمّ فتق ما بين السماوات العُلا، فملأهنّ أطواراً من ملائکته، منهم سجود لا يرکعون، ورکوع لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون، ومسبِّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان. ومنهم اُمناء علي وحيه، وألسنة إلي رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لعباده، والسدنة لأبواب جنانه. ومنهم الثابتة في الأرضين السفلي أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أرکانهم، والمناسبة لقوائم العرش أکتافهم. ناکسةٌ دونه أبصارهم، مُتلفّعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين مَن دونهم حجب العزّة، وأستار القدرة. لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير، ولا يُجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يَحدّونه بالأماکن، ولا يشيرون إليه بالنظائر[21] .

5357- عنه عليه السلام- أيضاً، مخاطباً اللَّه عزّ وجلّ-: وملائکة خلقتهم وأسکنتهم

[صفحه 167]

سماواتک فليس فيهم فترة ولا عندهم غفلة ولا فيهم معصية، هم أعلم خلقک بک، وأخوف خلقک منک، وأقرب خلقک إليک وأعلمهم بطاعتک، ولا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان، لم يسکنوا الأصلاب ولم تتضمّنهم الأرحام ولم تخلقهم من ماء مهين، انشأتهم إنشاءً فأسکنتهم سماواتک وأکرمتهم بجوارک وائتمنتهم علي وحيک، وجنّبتهم الآفات ووقيتهم البليّات وطهّرتهم من الذنوب، ولولا قوّتک لم يقووا، ولولا تثبيتک لم يثبتوا، ولولا رحمتک لم يطيعوا[22] .

5358- عنه عليه السلام- أيضاً-: من ملائکة أسکنتَهم سماواتِک، ورفعتهم عن أرضک، هم أعلم خلقک بک، وأخوفهم لک، وأقربهم منک. لم يسکنوا الأصلاب، ولم يُضمَّنوا الأرحام، ولم يُخلقوا من «مَّآءٍ مَّهِينٍ»، ولم يتشعّبهم «رَيْبَ الْمَنُونِ». وإنّهم علي مکانهم منک، ومنزلتهم عندک، واستجماع أهوائهم فيک، وکثرة طاعتهم لک، وقلّة غفلتهم عن أمرک، لو عاينوا کُنه ما خفي عليهم منک لحقّروا أعمالهم، ولَزَرَوا[23] علي أنفسهم، ولعرفوا أنّهم لم يعبدوک حقّ عبادتک، ولم يُطيعوک حقّ طاعتک. سبحانک خالقاً ومعبوداً![24] .

[صفحه 169]



صفحه 164، 165، 166، 167، 169.





  1. زَجَلُ: صوت رفيع عال (النهاية: 297:2).
  2. السُّرادِق: وهو کلّ ما أحاطَ بشي ء من حائطٍ أو مضرَبٍ أو خِبَاء (النهاية: 359:2).
  3. الرَّجّ: الحرکةُ الشَّديدَةُ (النهاية: 197:2).
  4. فاطر: 1.
  5. الأنبياء: 26 و27.
  6. يقال للثقلِ إصر؛ لأنّه يَأصِرُ صاحِبه من الحرَکة لثقله (مجمع البحرين: 500:1).
  7. الإحْنَةُ: الحقد، وجمعها إحَن إحَنَاتٌ (النهاية: 27:1).
  8. الدَّلح: أن يَمشي بالحمل وقد أثقلَه (النهاية: 129:2).
  9. القترة: غَبرَة يعلوها سواد کالدخان (لسان العرب: 71:5).
  10. الأيهم: البلد الذي لا عَلَمَ به. واليهمَاء: الفَلاةُ التي لا يُهتَدي لِطُرقِها، ولا ماء فيها ولا عَلَمَ بِها (النهاية: 304:5).
  11. هفّافة: سريعة المرور في هُبُوبها (النهاية: 266:5).
  12. الربقة: عروة في حَبل تجعل في عنق البهيمة أو يَدِها تُمسِکها، وتجمع الرِّبقة علي رِبَق (النهاية: 190:2).
  13. غاضَ الماء يَغيض: نقَص أو غارَ فنهبَ (لسان العرب: 201:7).
  14. جمع أسَلَة وهي طرف اللسان (النهاية: 49:1).
  15. الجؤار: رَفْع الصَّوت والاستِغاثة، جأر: يَجْأر (النهاية: 232:1).
  16. نَضِلَ البصير والرجُل نَضلاً: هزُل وأعيي وأنضلَه هو (لسان العرب: 666:11).
  17. مُستهتَر: أي مُولَع به لا يَتَحدث بغيره، ولا يَفعل غَيره (النهاية: 243:5).
  18. أي يَفتُروا في عَزمِهم واجتهادِهِم (النهاية: 231:5).
  19. نَحفِد: أي نُسرع في العمل والخِدمة (النهاية: 406:1).
  20. نهج البلاغة: الخطبة 91 عن مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام، بحارالأنوار: 90:109:57.
  21. نهج البلاغة: الخطبة 1، بحارالأنوار: 136:177:57.
  22. تفسير القمّي: 207:2، بحارالأنوار: 6:175:59.
  23. الازدِرَاء: الاحتِقارُ والانتِقاصُ والعيبُ (النهاية: 302:2).
  24. نهج البلاغة: الخطبة 109.