بحث حول اشعاره والديوان المنسوب إليه











بحث حول اشعاره والديوان المنسوب إليه



يحظي الشعر بمکانة مرموقة في المعارف البشريّة وذلک لدوره المتميّز في نقل المفاهيم وتخليد الأحداث وإغناء الثقافة، أمّا من حيث المضمون فمن الواضح أنّه لا يختلف عن کثير من الأدوات والوسائل التي يمکن استخدامها کسلاح ذي حدّين؛ فمن الممکن أن يرتدي حُلّة رائعة، أو يتّخذ قالباً مَقيتاً. ومن هنا يُعدّ نظم الشعر وإجادته منقبة، ويُعتبر استخدامه أمراً ضروريّاً.

لقد کان القادة الربّانيّون يملکون هذه المقدرة، ولکن هناک خلاف تاريخي حول ما إذا کانوا أنفسهم ينظمون الأشعار، وإلي أيّ حدّ؟

من هنا، يري البعض أنّ الإمام عليّاً عليه السلام کان معروفاً بقول الشعر، وکان متفوّقاً في معرفة الشعر، هذا فضلاً عمّا لديه من مقدرة فائقة علي نقد الشعر. فعن ابن عبدربّه:

«قال سعيد بن المسيّب: کان أبوبکر شاعراً، وعمر شاعراً، وعليّ أشعر الثلاثة»[1] .

[صفحه 290]

ويبدو أنّ الشعر وإنشاء الکلام الموزون والمقفّي والمسجّع کان صفة غالبة لدي الإمام عليّ عليه السلام إلي درجة أنّه أصبح يُعرف بها، بحيث إنّ بطلة کربلاء «زينب الکبري» بعدما ألقت کلمتها المشهورة في الکوفة بعد واقعة کربلاء جعلت عبيداللَّه بن زياد يقول:

هذه سجّاعة! ولعمري لقد کان أبوها سجّاعاً شاعراً[2] .

ذکر الشريف الرضي أنّ الإمام عليّاً عليه السلام لمّا سُئل: من أشعر الشعراء؟ قال:

«إنّ القوم لم يجروا في حلبة تُعرف الغاية عند قصبتها، فإن کان ولابدّ فالملک الضلّيل»[3] .

وبيّن الشريف الرضي المراد من هذا الکلام بقوله: يريد امرأ القيس[4] .

وفي هذا السياق استند الأديب والکاتب المصري المعروف الاُستاذ عبّاس محمود العقّاد إلي هذا الخبر وإلي غيره من الأخبار قائلاً في هذا المعني:

«وعندنا أنّه عليه السلام کان ينظم الشعر ويُحسِن النظر فيه، وکان نقده للشعراء نقد عليم بصير، يعرف اختلاف مذاهب القول، واختلاف وجوه المقابلة والتفضيل علي حسب المذاهب. ومِن بصره بوجوه المقابلة بينهم أنّه سُئل: من أشعر الناس؟[5] قال: إنّ القوم لم يجروا في حلقة تُعرف الغاية عند قصبتها، فإن کان

[صفحه 291]

ولابدّ فالملک الضلّيل.

وهذا- فيما نعتقد- أوّل تقسيم لمقاييس الشعر علي حسب «المدارس» و«الأغراض الشعريّة» بين العرب، فلا تکون المقابلة إلّا بين أشباه وأمثال، ولا يکون التعميم بالتفضيل إلّا علي التغليب»[6] .

وأمثال هذه المنقولات- التي تعکس آراء الإمام عليّ عليه السلام في الشعر والشعراء- ليست قليلة في النصوص القديمة[7] وهي تدلّ- کما أشار العقّاد- علي مدي تضلّعه في هذا الميدان، فهو- بحقٍّ- «أمير البيان» و «سيّد البلاغة».

يُستدلّ من الوثائق التاريخيّة أنّ الإمام عليّاً عليه السلام کان ينظم الشعر، وکان يُوصي بتعلّمه واستخدامه ضمن المعايير التي کان يؤکّد هو عليها[8] وکان يتمثّل في خطبه ورسائله شيئاً من أشعار الآخرين، ومع کلّ ذلک فإنّ العلماء والمؤرّخين کانوا منذ القدم يتأمّلون في نسبة کلّ ما ورد باسم الإمام عليّ عليه السلام إليه، وطرحوا آراءً کثيرة في کيفيّة الأشعار المنسوبة إليه[9] .

نُقل عن الجاحظ أنّه کان يقول: لم يقُل عليٌّ شعراً سوي الرجز[10] .

[صفحه 292]

وأورد ياقوت الحموي عن أبي عثمان المازني: لا يصحّ عندنا أنّه تکلّم بشي ء من الشعر غير هذين البيتين:


تلکُم قريش تمنّاني لتقتلني
فلا وجدّک ما برّوا ولا ظفِروا


فإن هلکتُ فرهنٌ ذمّتي لهمُ
بذات رَوْقيْن[11] لا يعفو لها أثرُ[12] .

وهذان الرأيان کلاهما غير صائب، ويبالغان في نفي أشعار الإمام.

وبيّن البعض عند نقدهم لرأي المازني بأنّ هناک أبيات مرويّة عن الإمام عليّ عليه السلام لا يمکن تجاهلها بهذه البساطة. ومع أنّ العلاّمة المجلسي يذهب إلي القول بأنّ الحکم علي نسبة جميع ما نُسب إلي الإمام عليّ عليه السلام في الديوان المشهور، موضع تأمّل إلّا أنّه يُقِرّ بأنّ نسبة الديوان إليه أمر مشهور[13] .

وعلي کلّ حال هناک علائم عريقة في القدم تحمل دلالات علي جمع وتدوين شعر الإمام عليّ عليه السلام؛ فقد کتب النجاشي ضمن إحصائه لآثار أبي أحمد عبدالعزيز ابن يحيي الجلودي الأزدي البصري (م 332 ه )، ما يلي: وله کتب منها... شعره عليه السلام[14] .

«إنّ أشهر وأقدم الکتب الموجودة من أشعار أميرالمؤمنين عليه السلام هو کتاب (أنوار العقول من أشعار وصيّ الرسول) الذي أعدّه قطب الدين محمّد البيهقي الکيدري

[صفحه 293]

علي أساس مصدرين تولّيا قبل ذلک مهمّة جمع وتدوين هذا الکتاب، وکذلک علي أساس المنقولات التي عُثر عليها بين طيّات الکتب الموجودة. ووصف الکيدري نفسه في مقدّمة الکتاب کيفيّة کتابة هذا الديوان وطبيعة محتواه علي النحو التالي:

وقد کنت علي قديم الدهر ظفرت بمجموع من أشعاره الجامعة لجلائل الکلم، وعقابل الحکم، نحواً من مائتي بيت جمعها الإمام أبوالحسن الفنجکردي رحمه اللَّه، فأنستُ بذلک، واجتهدتُ في اقتناص شوارد، علي ما فيه زوائد؛ إذ لم يکن إلاّ طرفاً من طرفه، ودرّة من صدفه، إلي أن عثرت بمجموع آخر أبسط منه باعاً، وأرحب ذراعاً، وإن لم يکن شمل الکلّ واستجمع الکلّ الکثر والقلّ، قد استخرج بعضها من کتاب محمّد بن إسحاق وغيره من العلماء والتقط بعضها من ستون الکتب ممّا وُجد منسوباً إليه.

فاقترح عليّ بعض الإخوان أن اُجرّد من المجموعَين ما اختُصّ بالآداب والمواعظ والحکم والعِبَر دون ما ذُکر في سائر الأغراض، فأسعفتُ سؤله، وحقّقتُ مأموله، وسمّيت المجموع بالحديقة الأنيقة.

ثمّ وقع إليّ بأخرة مجموع من أشعاره عليه السلام جمعه السيّد الجليل أبوالبرکات هبة اللَّه بن محمّد الحسني، فلم أجد فيه کثيراً ممّا وصل إليّ، وإن کان قد أورد أبياتاً شردت منّي، وشذّت من يدي، وکنت في خلال ذلک أجدُّ في الطلب، وأدأبُ کلّ الدأب، أتفحّص کتب التواريخ والسير، والتقط ما أقف عليه من الغرر والدرر، مسنداً ومرسلاً، مقيّداً ومهملاً؛ إذ کان غرضي أن أنظم أفرادها، وأجمع آحادها. فلذلک لست أدّعي أنّ کلّ فلقٍ فيه سمع من فَلْق فيه، وأنّه عليه السلام قطعاً ويقيناً ناظمه ومُنشِئُه، بل في کثير منه أخذ بالظنّ والتخمين؛ إذ من المتعذّر في مثله الحکم

[صفحه 294]

باليقين؛ فإن ورد علي امرئٍ ما يُريبه، فحسبه من الکلام طِيبه. هذا ولا أزعم أنّي أحطتُ بجميع أشعاره، واطّلعتُ علي نتائج أفکاره، بل اُجوّز أن يکون الحاصل عندي دون ما ظفرت منه يدي، وما عليّ إلّا بذل جهدي، وأرجو أن تکون المنفعة به کاملة تامّة، والفائدة شاملة عامّة. وها أنا قد أمّلت زمام الهمّة إلي القيام بهذه المهمّة، ورأيت بعدُ أن اُسمّي هذا المجموع ب: أنوار العقول من أشعار وصيّ الرسول»[15] .

ومن الواضح أنّ کلام الکيدري کلام رصين؛ فمن جهة لا يمکن التصديق بأنّ جميع الأشعار الواردة في هذا الديوان من نظم الإمام عليّ عليه السلام وإنشائه، ومن جهة اُخري لا يمکن القطع بأنّ کلّ الأشعار المنسوبة إليه وردت في هذا الکتاب.

ويمکن تبويب الأشعار الواردة في هذه المجموعة، والأشعار الاُخري المنسوبة إليه، علي النحو التالي:

1- ما جاء علي صيغة الرَّجز، والأشعار التي وردت في المصادر المعتبرة الاُخري.

2- أشعار الآخرين التي تمثّل بها الإمام عليه السلام في طيّات خطبه وکتبه.

3- قول أو فعل الإمام عليه السلام الذي نُظِم شعراً علي لسان شاعر آخر، ثمّ نُسب علي مرّ الزمن إليه.

4- أشعار مَن تطابقت أسماؤهم مع اسمه، أو غيرهم، ثمّ نُسبت إليه علي امتداد التاريخ، وتسلّلت إلي الديوان[16] .

[صفحه 295]



صفحه 290، 291، 292، 293، 294، 295.





  1. العقد الفريد: 230:4 عن سعيد بن المسيّب.
  2. الإرشاد: 116:2، مثير الأحزان: 90، کشف الغمّة: 276:2، بحارالأنوار: 1:116:45.
  3. نهج البلاغة: الحکمة 455؛ النهاية في غريب الحديث: 98:3.
  4. نهج البلاغة: الحکمة 455. نقل ابن أبي الحديد عن ابن دُرَيد مضمون الجملة المذکورة، ونقل تصريح الإمام عليه السلام بأنّ المراد من «الملک الضلّيل» امرؤ القيس (انظر شرح نهج البلاغة: 153:20 و 154.
  5. في نهج البلاغة: «الشعراء» بدل «الناس».
  6. المجموعة الکاملة (عبقريّة الإمام علي عليه السلام): 136:2.
  7. انظر علي سبيل المثال: العُمدة في محاسن الشعر وآدابه: 111:1، مصادر نهج البلاغة وأسانيده: 312:4.
  8. وعلي سبيل المثال أنّه کان يؤکّد علي تعلّم شعر أبي طالب وتدوينه ونشره عند تعليله لسبب تعلّم شعر هذا الرجل الذي کان يدافع عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، قائلاً: «تعلّموا شعر أبي طالب وعلّموه أولادکم؛ فإنّه کان علي دين اللَّه، وفيه علم کثير» (راجع تصنيف نهج البلاغة: 773 ووسائل الشيعة: 248:12).
  9. راجع مقدّمة کتاب «أنوار العقول من أشعار وصيّ الرسول» بقلم کامل سليمان الحبّوري.
  10. فهرست نسخ الکتب الخطّية في المکتبة المرکزيّة بجامعة طهران: 116:2.
  11. الرَّوْقان: تثنية الرَّوْق؛ وهو القَرْن، وأراد بها هاهنا الحربَ الشديدة وقيل: الداهية. ويُروي: بذات ودقَيْن؛ وهي الحرب الشديدة أيضاً (النهاية: 279:2).
  12. معجم الاُدباء: 784: 1810: 4، النهاية في غريب الحديث: 279:2؛ العدد القويّة: 16:238 کلاهما نحوه، بحارالأنوار: 31:223:42.
  13. لمزيد من التفاصيل راجع کتاب «تحقيقات أدبي» لکيوان سميعي: 333 تا 359.
  14. رجال النجاشي: 638:55:2.
  15. أنوار العقول من أشعار وصيّ الرسول: 92.
  16. راجع: الذريعة: 431:2 و ج101:9.