فصاحة الإمام وبلاغته











فصاحة الإمام وبلاغته



5636- الإمام عليّ عليه السلام: إنّا لَاُمراء الکلام، وفينا تنشّبت[1] عروقه، وعلينا تهدّلت[2] غصونه[3] .

5637- المناقب لابن شهر آشوب: عن الرضا عن آبائه عليهم السلام: إنّه اجتمعت الصحابة فتذاکروا أنّ الألف أکثر دخولاً في الکلام، فارتجل عليه السلام الخطبة المونقة التي أوّلها: حمدتُ من عظمت منّته، وسبغت نعمته، وسبقت رحمته، وتمّت کلمته، ونفذت مشيّته، وبلغت قضيّته... إلي آخرها[4] .

[صفحه 268]

ثمّ ارتجل خطبة اُخري من غير النقط التي أوّلها: الحمد للَّه أهل الحمد ومأواه، وله أوکد الحمد وأحلاه، وأسرع الحمد وأسراه، وأظهر الحمد وأسماه، وأکرم الحمد وأولاه... إلي آخرها[5] وقد أوردتهما في المخزون المکنون.

ومن کلامه: تخفّفوا تلحقوا فإنّما ينتظر بأوّلکم آخرکم.

وقوله: ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما يقبض عنهم بيد واحدة، ويقبض منهم عنه أيد کثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودّة.

وقوله: من جهل شيئاً عاداه، مثله: «بَلْ کَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ي»[6] .

وقوله: المرء مخبوّ تحت لسانه، فإذا تکلّم ظهر، مثله: «وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ»[7] .

وقوله: قيمة کلّ امرئٍ ما يحسن، مثله: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَل-هُ عَلَيْکُمْ وَزَادَهُ و بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ»[8] .

وقوله: القتل يقلّ القتل، مثله: «وَ لَکُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ»[9] [10] .

5638- تاريخ دمشق: قال معاوية: إن کنّا لنتحدّث أ نّه ما جرت المواسي[11] علي رأس رجل من قريش أفصح من عليّ[12] .

[صفحه 269]

5639- الإمامة والسياسة- في ذکر قدوم ابن أبي محجن علي معاوية-: قال معاوية: فواللَّه لو أنّ ألسن الناس جمعت فجعلت لساناً واحداً لکفاها لسان عليّ[13] .

5640- مروج الذهب- في ذکر لمع من کلام عليّ عليه السلام-: والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها علي البديهة، وتداول الناس ذلک عنه قولاً وعملاً[14] .

5641- نثر الدرّ عن محمّد ابن الحنفيّة- في وصف عليّ عليه السلام-: کان إذا تکلّم بذّ،[15] وإذا کلم[16] حذّ[17] وهذا مثل قول غيره: کان عليّ إذا تکلّم فَصَل وإذا ضرب قَتَل[18] .

5642- الشريف الرضي في مقدّمة نهج البلاغة:... وسألوني [جماعة من الأصدقاء والإخوان] عند ذلک [أي بعد تأليف کتاب خصائص الأئمّة] أن أبتدئ بتأليف کتاب يحتوي علي مختار کلام مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعِّبات غصونه: من خطب وکتب ومواعظ وأدب، علماً أنّ ذلک يتضمّن عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الکلم الدينيّة والدنيويّة، ما لا يوجد مجتمعاً في کلام، ولا مجموعَ الأطراف في کتاب.

إذ کان أميرالمؤمنين عليه السلام مشرَعَ الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السلام ظهر مکنونها، وعنه اُخذت قوانينها، وعلي أمثلته حذا کلّ قائل خطيب،

[صفحه 270]

وبکلامه استعان کلّ واعظ بليغ، ومع ذلک فقد سبق وقصّروا، وقد تقدّم وتأخّروا؛ لأنّ کلامه عليه السلام الکلام الذي عليه مَسحة من العلم الإلهيّ، وفيه عَبقة من الکلام النبوي.

فأجبتهم إلي الابتداء بذلک، عالماً بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذکر، ومذخور الأجر، واعتمدت به أن اُبيّن عن عظيم قدر أميرالمؤمنين عليه السلام في هذه الفضيلة، مضافة إلي المحاسن الدثِرَة، والفضائل الجمّة، وأ نّه عليه السلام انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأوّلين، الذين إنّما يؤثرُ عنهم منها القليل النادر، والشاذ الشارد.

فأمّا کلامه فهو البحر الذي لا يُساجَل، والجمّ الذي لا يحافل. وأردت أن يسوّغ لي التمثّل في الافتخار به عليه السلام بقول الفرزدق:


اُولئک آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع[19] .


وقال في ذيل قوله عليه السلام: «قيمة کلّ امرئ ما يُحسنه»، وهي الکلمة التي لا تصاب لها قيمة، ولا توزن بها حکمة، ولا تقرن إليها کلمة[20] .

وقال في ذيل قوله عليه السلام: «فإنّ الغاية أمامکم، وإنّ وراءکم الساعة تحدوکم. تَخفّفوا تلحقوا، فإنّما يُنتظر بأوّلکم آخرُکم»، أقول: إنّ هذا الکلام لو وزن، بعد کلام اللَّه سبحانه وبعد کلام رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، بکلّ کلام لمالَ به راجحاً، وبرّز عليه سابقاً. فأمّا قوله عليه السلام: «تخفّفوا تلحقوا» فما سمع کلام أقلّ منه مسموعاً ولا أکثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من کلمة! وأنقع[21] نطفتها[22] من حکمة! وقد نبّهنا

[صفحه 271]

في کتاب «الخصائص» علي عظم قدرها وشرف جوهرها[23] .

وقال في ذيل الخطبة السادسة عشرة: إنّ في هذا الکلام الأدني من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، وإنّ حظّ العجب منه أکثر من حظّ العجب به! وفيه- مع الحال التي وصفنا- زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ولا يطّلع فجّها إنسان، ولا يعرف ما أقول إلّا من ضرب في هذه الصناعة بحقّ، وجري فيها علي عرق بسم الله الرحمن الرحيم «وَ مَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا الْعَلِمُونَ»[24] .

5643- ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: وأمّا الفصاحة فهو عليه السلام إمام الفصحاء، وسيّد البلغاء، وفي کلامه قيل: دون کلام الخالق، وفوق کلام المخلوقين. ومنه تعلّم الناس الخطابة والکتابة.

قال عبدالحميد بن يحيي: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثمّ فاضت.

وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة کنزاً لا يزيده الإنفاق إلّا سعة وکثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب.

ولمّا قال مِحفن بن أبي مِحفن لمعاوية: جئتک من عند أعيي الناس، قال له: ويحک، کيف يکون أعيي الناس! فواللَّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.

ويکفي هذا الکتاب الذي نحن شارحوه دلالةً علي أ نّه لا يجاري في الفصاحة، ولا يباري في البلاغة. وحسبک أ نّه لم يدوَّن لأحدٍ من فصحاء

[صفحه 272]

الصحابة العشر ولا نصف العشر ممّا دوّن له، وکفاک في هذا الباب ما يقوله أبوعثمان الجاحظ في مدحه في کتاب «البيان والتبيين» وفي غيره من کتبه[25] .

وقال في ذيل الکتاب 35: اُنظر إلي الفصاحة کيف تعطي هذا الرجل قيادها، وتملّکه زمامها، وأعجب لهذه الألفاظ المنصوبة، يتلو بعضها بعضاً کيف تؤاتيه وتطاوعه، سِلسة سهلة، تتدفّق من غير تعسّف ولا تکلّف، حتي انتهي إلي آخر الفصل فقال: «يوماً واحداً، ولا ألتقي بهم أبداً». وأنت وغيرک من الفصحاء إذا شرعوا في کتاب أو خطبة، جاءت القرائن والفواصل تارةً مرفوعة، وتارةً مجرورة، وتارةً منصوبة، فإن أرادوا قَسْرَها بإعراب واحد ظهر منها في التکلّف أثر بيّن، وعلامة واضحة

وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن، ذکره عبدالقاهر قال: اُنظر إلي سورة النساء وبعدها سورة المائدة، الاُولي منصوبة الفواصل والثانية ليس فيها منصوب أصلاً، ولو مزجت إحدي السورتين بالاُخري لم تمتزجا، وظهر أثر الترکيب والتأليف بينهما، ثمّ إنّ فواصل کلّ واحد منهما تنساق سياقة بمقتضي البيان الطبيعي لا الصناعة التکلّفيّة.

ثم انظر إلي الصفات والموصوفات في هذا الفصل، کيف قال: ولداً ناصحاً، وعاملاً کادحاً، وسيفاً قاطعاً، ورکناً دافعاً، لو قال: ولداً کادحاً، وعاملاً ناصحاً، وکذلک ما بعده لما کان صواباً ولا في الموقع واقعاً.

فسبحان اللَّه من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة! أن يکون غلام من أبناء عرب مکّة ينشأ بين أهله، لم يخالط الحکماء وخرج أعرف

[صفحه 273]

بالحکمة ودقائق العلوم الإلهيّة من إفلاطون وأرسطو! ولم يعاشر أرباب الحکم الخلقيّة، والآداب النفسانيّة؛ لأنّ قريشاً لم يکن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلک، وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط. ولم يربّ بين الشجعان؛ لأنّ أهل مکّة کانوا ذوي تجارة ولم يکونوا ذوي حرب، وخرج أشجع من کلّ بشر مشي علي الأرض.

قيل لخلف الأحمر: أيّما أشجع عَنبسة وبسطام أم عليّ بن أبي طالب؟

فقال: إنّما يذکر عَنبسة وبسطام مع البشر والناس لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة.

فقيل له: فعلي کلّ حال. قال: واللَّه لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما.

وخرج أفصح من سَحبان وقُسّ، ولم تکن قريش بأفصح العرب، کان غيرها أفصح منها، قالوا: أفصح العرب جُرهم وإن لم تکن لهم نَباهة.

وخرج أزهد الناس في الدنيا وأعفّهم، مع أنّ قريشاً ذوو حرصٍ ومحبّة للدنيا، ولا غرو فيمن کان محمّد صلي الله عليه و آله مربّيه ومخرجه، والعناية الإلهيّة تمدّه وترفدُه، أن يکون منه ما کان![26] .

وذکر عن شيخه أبي عثمان قال: حدّثني ثُمَامة، قال: سمعت جعفر بن يحيي- وکان من أبلغ الناس وأفصحهم- يقول: الکتابة ضمّ اللفظة إلي اُختها، أ لم تسمعوا قول شاعر لشاعر وقد تفاخرا: أنا أشعرُ منک لأنّي أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمّه! ثمّ قال: وناهيک حسناً بقول عليّ بن أبي طالب عليه السلام:

[صفحه 274]

هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار!.

قال أبوعثمان: وکان جعفر يُعجب أيضاً بقول عليّ عليه السلام: أين من جدَّ واجتهد، وجمع واحتشد، وبني فشيّد، وفرش فمهّد، وزخرف فنجّد؟!

قال: ألا تري أنّ کلّ لفظة منها آخذة بعنق قرينتها، جاذبة إياها إلي نفسها، دالّة عليها بذاتها؟!

قال أبوعثمان: فکان جعفر يسمّيه فصيح قريش.

واعلم أ نّنا لا يتخالجنا الشکّ في أ نّه عليه السلام أفصحُ من کلّ ناطق بلغة العرب من الأوّلين والآخرين، إلّا من کلام اللَّه سبحانه، وکلام رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؛ وذلک لأنّ فضيلة الخطيب والکاتب في خطابته وکتابته تعتمد علي أمرين،هما: مفردات الألفاظ ومرکّباتها.

أمّا المفردات: فأن تکون سهلة، سِلسة، غير وحشيّة ولا معقّدة، وألفاظه عليه السلام کلّها کذلک.

فأمّا المرکّبات فَحُسنُ المعني، وسرعة وصوله إلي الأفهام، واشتماله علي الصفات التي باعتبارها فُضّل بعض الکلام علي بعض، وتلک الصفات هي الصناعة التي سمّاها المتأخّرون البديع، من المقابلة والمطابقة، وحسن التقسيم، وردّ آخر الکلام علي صدره، والترصيع، والتسهيم، والتوشيح، والمماثلة، والاستعارة، ولطافة استعمال المجاز، والموازنة، والتکافؤ، والتسميط، والمشاکلة.

ولا شبهة أنّ هذه الصفات کلّها موجودة في خُطبه وکتبه، مبثوثة متفرّقة في فرش کلامه عليه السلام، وليس يوجد هذان الأمران في کلام أحد غيره، فإن کان قد

[صفحه 275]

تعمّلها وأفکر فيها، وأعمل رويّته في رصفها ونثرها، فلقد أتي بالعجب العُجاب، ووجب أن يکون إمام الناس کلّهم في ذلک، لأنّه ابتکره ولم يعرف من قبله وإن کان اقتضبها ابتداءً، وفاضت علي لسانه مرتجلة، وجاش بها طبعه بديهة، من غير رويّة ولا اعتمال، فأعجب وأعجب!

وعلي کلا الأمرين فلقد جاء مجلّياً، والفصحاء تنقطع أنفاسهم علي أثره. وبحقٍّ ما قال معاوية لمحقن الضبّي، لمّا قال له: جئتک من عند أعيي الناس: يابن اللخناء، ألعليٍّ تقول هذا؟! وهل سنّ الفصاحة لقريش غيره؟!

واعلم أنّ تکلّف الاستدلال علي أنّ الشمس مضيئة يتعب، وصاحبه منسوب إلي السفَه، وليس جاحد الاُمور المعلومة علماً ضرورياً بأشدّ سفهاً ممّن رام الاستدلال بالأدلّة النظريّة عليها[27] .

وقال أيضاً في ذيل الخطبة 91- التي تُعرف بخطبة الأشباح-: «إذا جاء نهر اللَّه بطل نهر مَعقِل»! إذا جاء هذا الکلام الربّاني واللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب وکانت نسبة الفصيح من کلامها إليه نسبة التراب إلي النضار الخالص، ولو فرضنا أنّ العرب تقدِرُ علي الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادّة التي عبّرت هذه الألفاظ عنها؟! ومن أين تعرف الجاهليّة بل الصحابة المعاصرون لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله هذه المعاني الغامضة السمائية ليتهيّأ لها التعبير عنها؟!

أمّا الجاهليّة فإنّهم إنّما کانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات ونحو ذلک.

وأمّا الصحابة فالمذکورون منهم بفصاحة إنّما کان منتهي فصاحة أحدهم

[صفحه 276]

کلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة؛ إمّا في موعظة تتضمّن ذکر الموت أو ذمّ الدنيا أو ما يتعلّق بحرب وقتال من ترغيب أو ترهيب، فأمّا الکلام في الملائکة وصفاتها وصورها وعباداتها وتسبيحها ومعرفتها بخالقها وحبّها له وولهها إليه، وما جري مجري ذلک ممّا تضمّنه هذا الفصل علي طوله فإنّه لم يکن معروفاً عندهم علي هذا التفصيل، نعم ربّما علموه جملة غير مقسّمة هذا التقسيم ولا مرتّبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذکر الملائکة في القرآن العظيم.

وأمّا من عنده علم من هذه المادّة کعبد اللَّه بن سلام واُميّة بن أبي الصلت وغيرهم فلم تکن لهم هذه العبارة ولا قدَروا علي هذه الفصاحة، فثبت أنّ هذه الاُمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلّا لعليّ وحده، واُقسم إنّ هذا الکلام إذا تأمّله اللبيب اقشعرّ جلده ورجف قلبه، واستشعر عظمة اللَّه العظيم في روعه وخلده وهام نحوه وغلب الوجد عليه، وکاد أن يخرج من مُسکه شوقاً وأن يفارق هيکله صبابةً ووجداً[28] .

وقال في ذيل الخطبة 109: هذا موضع المثل: «في کلّ شجرة نارٌ، واستمجد المَرْخ والعَفار[29] « الخطب الوعظيّة الحسان کثيرة، ولکن هذا حديث يأکل الأحاديث:


محاسن أصناف المغنين جمّةٌ
وما قصبات السبق إلّا لمعبد


من أراد أن يتعلّم الفصاحة والبلاغة ويعرف فضل الکلام بعضه علي بعض

[صفحه 277]

فليتأمّل هذه الخطبة، فإنّ نسبتها إلي کلّ فصيح من الکلام- عدا کلام اللَّه ورسوله- نسبة الکواکب المنيرة الفلکيّة إلي الحجارة المظلمة الأرضية، ثمّ لينظر الناظر إلي ما عليها من البهاء والجلالة والرواء والديباجة، وما تحدثه من الروعة والرهبة والمخافة والخشية، حتي لو تليت علي زنديق ملحد مصمّم علي اعتقاد نفي البعث والنشور؛ لهدّت قواه وأرعبت قلبه وأضعفت علي نفسه وزلزلت اعتقاده، فجزي اللَّه قائلها عن الإسلام أفضل ما جزي به وليّاً من أوليائه، فما أبلغ نصرته له تارةً بيده وسيفه وتارةً بلسانه ونطقه وتارةً بقلبه وفکره، إن قيل: جهاد وحرب فهو سيّد المجاهدين والمحاربين، وإن قيل: وعظ وتذکير فهو أبلغ الواعظين والمذکّرين، وإن قيل: فقه وتفسير فهو رئيس الفقهاء والمفسّرين، وإن قيل: عدل وتوحيد فهو إمام أهل العدل والموحّدين:


ليس علي اللَّه بمُستنکرٍ
أن يجمع العالمَ في واحدِ[30] .


وقال في ذيل الخطبة 221: من أراد أن يعظ ويخوّف ويقرع صَفاةَ القلب، ويعرّف الناس قدر الدنيا وتصرّفها بأهلها، فليأتِ بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الکلام الفصيح وإلّا فليمسک، فإنّ السکوت أستر، والعيّ خير من منطق يفضح صاحبه، ومن تأمّل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه: «واللَّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره» وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبةً في مجلس وتُلِيَ عليهم أن يسجدوا له کما سجد الشعراء لقول عديّ بن الرقاع:


«قلمٌ أصابَ من الدواة مِدادها»[31] .

[صفحه 278]

فلمّا قيل لهم في ذلک قالوا: إنّا نعرف مواضع السجود في الشعر کما تعرفون مواضع السجود في القرآن.

وإني لأطيل التعجّب من رجل يخطب في الحرب بکلام يدلّ علي أنّ طبعه مناسب لطباع الاُسود والنمور وأمثالهما من السباع الضارية، ثمّ يخطب في ذلک الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بکلام يدلّ علي أنّ طبعه مشاکل لطباع الرهبان لابسي المسوح، الذين لم يأکلوا لحماً ولم يريقوا دماءً، فتارةً يکون في صورة بِسطام بن قيس الشيباني وعُتَيبة بن الحارث اليربوعي وعامر بن الطفيل العامري، وتارةً يکون في صورة سقراط الحَبر اليوناني ويوحنّا المعمَدان الإسرائيلي والمسيح بن مريم الإلهي.

واُقسم بمن تُقسم الاُمم کلّها به، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلي الآن أکثر من ألف مرّة، ما قرأتُها قطّ إلّا وأحدثتْ عندي روعةً وخوفاً وعِظةً، وأثّرت في قلبي وجيباً[32] وفي أعضائي رِعدةً، ولا تأمّلتُها إلّا وذکرتُ الموتي من أهلي وأقاربي وأرباب ودّي، وخيّلت في نفسي أنّي أنا ذلک الشخص الذي وصف عليه السلام حاله.

وکم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعني، وکم وقفت علي ما قالوه وتکرّر وقوفي عليه، فلم أجد لشي ء منه مثل تأثير هذا الکلام في نفسي، فإمّا أن يکون ذلک لعقيدتي في قائله، أو کانت نيّة القائل صالحة ويقينه کان ثابتاً وإخلاصه کان محضاً خالصاً، فکان تأثير قوله في النفوس أعظم، وسريان موعظته في القلوب أبلغ[33] .

[صفحه 279]

5644- البيان والتبيين- في بيان قول عليّ عليه السلام «قيمة کلّ امرئٍ ما يحسن»-: فلو لم نقف من هذا الکتاب إلّا علي هذه الکلمة لوجدناها شافية کافية، ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الکفاية، وغير مقصّرة عن الغاية. وأحسن الکلام ما کان قليله يغنيک عن کثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وکان اللَّه عزّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة، وغشّاه من نور الحکمة علي حسب نيّة صاحبه وتقوي قائله[34] .

5645- رسائل الجاحظ: أجمعوا علي أ نّهم لم يجدوا کلمةً أقلّ حرفاً، ولا أکثر ريعاً،[35] ولا أعمّ نفعاً، ولا أحثّ علي بيان، ولا أدعي إلي تبيّن، ولا أهجي لمن ترک التفهّم وقصّر في الإفهام، من قول أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان اللَّه عليه: قيمة کلّ امرئٍ ما يحسن[36] .

5646- المناقب لابن شهر آشوب عن الجاحظ في کتاب الغرّة: کتب [عليّ عليه السلام] إلي معاوية: غرّک عزّک، فصار قصار ذلک ذلّک، فاخشَ فاحش فعلک فعلّک تهدي بهذا، وقال عليه السلام: من آمن أمن![37] [38] .

5647- المناقب لابن شهر آشوب- في وصف عليّ عليه السلام-: وهو أخطبهم، ألا تري إلي خُطَبه مثل: التوحيد، والشقشقيّة، والهداية، والملاحم، واللؤلؤة، والغرّاء، والقاصعة، والافتخار، والأشباح، والدرّة اليتيمة، والأقاليم، والوسيلة،

[صفحه 280]

والطالوتيّة، والقصبيّة، والنخيلة، والسلمانيّة، والناطقة، والدامغة، والفاضحة، بل إلي نهج البلاغة عن الشريف الرضي، وکتاب خطب أميرالمؤمنين عليه السلام عن إسماعيل بن مهران السکوني عن زيد بن وهب أيضاً؟![39] .

5648- مطالب السؤول- في وصف عليّ عليه السلام: علم البلاغة والفصاحة، وکان فيها إماماً لا يشقّ غباره، ومقدّماً لا تلحق آثاره، ومن وقف علي کلامه المرقوم الموسوم بنهج البلاغة صار الخبر عنده عن فصاحته عياناً، والظنّ بعلوّ مقامه فيه إيقاناً[40] .

5649- تذکرة الخواصّ: کان عليّ عليه السلام ينطق بکلام قد حفّ بالعصمة، ويتکلّم بميزان الحکمة، کلام ألقي اللَّه عليه المهابة، فکلّ من طرق سمعه راعه فهابه، وقد جمع اللَّه له بين الحلاوة والملاحة، والطلاوة والفصاحة، لم يسقط منه کلمة، ولا بارت له حجّة، أعجز الناطقين، وحاز قصب السبق في السابقين، ألفاظ يشرق عليها نور النبوّة، ويحيّر الأفهام والألباب[41] .



صفحه 268، 269، 270، 271، 272، 273، 274، 275، 276، 277، 278، 279، 280.





  1. نَشِبَ الشي ء في الشي ء نُشوباً: أي عَلِقَ فيه (الصحاح: 224:1).
  2. في حديث قُسّ: «وروضة قد تهدّل أغصانها» أي تدلّت واسترخت لثقلها بالثمرة (النهاية: 251:5).
  3. نهج البلاغة: الخطبة 233، بحارالأنوار: 292:71.
  4. راجع: خطبته الخالية من الألف.
  5. راجع: خطبته الخالية من النقط.
  6. يونس: 39.
  7. محمّد: 30.
  8. البقرة: 247.
  9. البقرة:179.
  10. المناقب لابن شهر آشوب: 48:2.
  11. الموسي: الذي يحلق به، والمراد: من جرت عليه المواسي: من بلغ الحلم (لسان العرب: 224:6).
  12. تاريخ دمشق: 414:42، جواهر المطالب: 297:1.
  13. الإمامة والسياسة: 134:1؛ شرح الأخبار: 99:2 وفيه «ولو لم يکن للاُمّة إلّا لسان عليّ لکفاها».
  14. مروج الذهب: 431:2.
  15. بَذَّ القومَ يَبذُّهم بَذّاً: سبقهم وغلبهم (لسان العرب: 477:3).
  16. الکلم: الجرح (النهاية: 199:4).
  17. الحذّ، ويُروي بالجيم من الجذّ: القطع (النهاية: 356:1).
  18. نثر الدرّ: 407:1.
  19. نهج البلاغة: مقدّمة الشريف الرضي.
  20. نهج البلاغة: الحکمة 81، بحارالأنوار: 77:182:1.
  21. يقع به العطش: أي يروي (النهاية: 108:5).
  22. النطفة: الماء الصافي (لسان العرب: 335:9).
  23. نهج البلاغة: الخطبة 21 وراجع خصائص الأئمّة عليهم السلام: 112.
  24. العنکبوت: 43.
  25. شرح نهج البلاغة: 24:1.
  26. شرح نهج البلاغة: 145:16.
  27. شرح نهج البلاغة: 277:6.
  28. شرح نهج البلاغة: 425:6.
  29. المَرْخ: من شجر النار، سريع الوَرْي، والعَفار: شجر يُتّخذ منه الزناد (تاج العروس: 311:4 و ج 243:7). قال الميداني: استمجد المرخُ والعَفار: أي استکثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما يُضرب في تفضيل بعض الشي ء علي بعض (مجمع الأمثال: 445:2).
  30. شرح نهج البلاغة: 202:7.
  31. صدره: «تُزجي أغنَّ کأنّ إبرة روقة» (أمالي للسيّد المرتضي: 37:4).
  32. وَجَبَ القلبُ يَجِب وَجباً ووجِيباً ووجُوباً ووَجَباناً: خَفَق واضطرَبَ (لسان العرب: 794:1).
  33. شرح نهج البلاغة: 152:11.
  34. البيان والتبيين: 83:1.
  35. الريع: الزيادة والنماء علي الأصل (النهاية: 289:2).
  36. رسائل الجاحظ: 29:3.
  37. إذا التفتنا إلي نقطتين نستطيع حينئذٍ أن نتحسّس جمال هذا الکلام: أوّلاً: إنّه کلام مکتوب. ثانياً: إنّه لم يکن منقّطاً؛ إذ أنّ التنقيط اُحدث فيما بعد.
  38. المناقب لابن شهر آشوب: 48:2، بحارالأنوار: 163:40؛ مطالب السؤول: 61 وفيه «نفعاً» بدل «تهدي بهذا...».
  39. المناقب لابن شهر آشوب: 47:2، بحارالأنوار: 162:40؛ البيان والتبيين: 353:1 وفيه «وکان عليّ أخطبهم» فقط.
  40. مطالب السؤول: 29.
  41. تذکرة الخواصّ: 119.