المدخل











المدخل



يختصّ هذا القسم بدراسة المدي الذي يَترامي علي أطرافه علم الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام؛ إذ يتوفّر من جهة علي متابعة الجهود النبويّة الحثيثة التي بذلها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في تنشئة الإمام معرفيّاً وإعداده علميّاً، کما يومئ من جهة اُخري إلي الاستعداد العظيم الذي کان يتحلّي به الإمام وسعته الوجوديّة وما بذله في التعلّم من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والتلقّي منه، ومن ثمّ يکشف بالضرورة عن الموقع الشاهق الذي يحظي به الإمام علميّاً وهيمنته المذهلة علي العلوم.

إنّ متابعة هذا المسار، والتأمّل في فصول القسم الحادي عشر يجذب الباحث بقوّة إلي علم الإمام، ويدفعه بشوق کي يطلّ علي قبسات من علومه الممتدّة، ويطمح ببصره تلقاء رشفات من بحره الزخّار. من هنا جاء هذا القسم وهو يشتمل علي قبسات من علمه کاستجابة طبيعيّة لذلک التطلّع، کما يظهر ذلک جليّاً من التدقيق في الفصول التي تنتظم القسم.

مع ذلک ليست هذه الجولة سوي غيض من فيض، وإن هي إلّا إضمامة متواضعة علي هذا السبيل، وهي جهد المقلّ في بيانِ محضِ أمثلةٍ من ينبوع العلم العلوي، کما نؤکّد أنّه لايمثّل إلّا شطراً ضئيلاً ممّا وصلَنا من المعرفة العلويّة، علي

[صفحه 8]

أنّ ما وصلنا لايمثّل بدوره سوي شطر ضئيل أيضاً ممّا بادر إلي بيانه الإمام، وأعلنه علي الاُمّة، ثمّ ضاع ولم يصلنا خبره أو مادّته وأثره لعوامل متعدّدة ذُکرت في مظانّها.

عجيب هو علم الإمام، يُثير التأمّل في مدياته الممتدّة الذهول والحيري. إذا رام القلم أن يخطّ من هذا العلم حقيقة واحدة سرعان ما يتراءي أمامه بحر زخّار تتدافع أمواجه، وتتباعد المسافة بين شُطّانه حتي تبلغ المدي الأقصي. بحر لا ينزف هو علم الإمام، تتراکب أمواجه موج فوقه موج، شواطئ ممتدّة علي الاُفق دون نهاية، وقعر ليس له قرار.

أنّي للقلم أن يرقي إلي بيان علمه وهو «باب علم» النبيّ و«حکمته»، وأنّي للکلمات أن تتسلّق إلي ذراه وهو «خزانة علم النبيّ» وجميع النبيّين.

ثمّ کيف يقدر القلم أن يواکب علم عليّ عليه السلام، وفي مدي هذا العلم اجتمعت جميع العلوم القرآنيّة، والمعارف الدينيّة، وعلم المنايا والبلايا؛ وقد کان صاحب العلم ينظر إلي الماضي والحاضر کما ينظر إلي الذي بين يديه، يتبدّي له کما تتبدّي الشمس في رابعة النهار!

«عِلْمُ الْکِتَبِ»[1] کلّه کان عند عليّ بن أبي طالب عليه السلام بنصّ الروايات، ولم يکن عند آصف بن برخيّا من هذا العلم إلّا شيئاً منه «عِندَهُ و عِلْمٌ مِّنَ الْکِتَبِ»[2] وقد استطاع أن يُحضِر عرش بلقيس عند سليمان عليه السلام من مسافة بعيدة بأقلّ من طرفة عين. وعندئذٍ ينبغي التأمّل ببصيرة وفکر في هذا العلم «علم من الکتاب» مقارنة

[صفحه 9]

بذلک العلم «علم الکتاب» لنتصوّر الفارق بين الاثنين، وفيما إذا کان بمقدور الکلمات والصفحات والأقلام أن ترقي إلي بيان علم عليّ عليه السلام مهما بلغت، أو تومئ إلي أبعاده!

کان علم الإمام من السعة بحيث أنّ شعاعاً واحداً منه لو تبلّج لکان حريّاً أن يُبهر العقول، ويأخذ بمجامع النفوس، ويبعث برعشةٍ راحت تسري في الأجساد، وذلک قوله عليه السلام: «اندمجت علي مکنون علم لو بُحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويّ البعيدة».

لقد برقت عن ينبوع الإمام المعرفي ومکنون علمه ومضات علميّة ومعرفيّة صدرت قبل أربعة عشر قرناً استجابة لمتطلّبات ذلک العصر وتلبية لحاجات الموقف إليها- لا أنّها صدرت بدافع الواقع ونفس الأمر- راحت تُلقي أضواءً علي بداية الخليقة وانبثاق الوجود، وخلق الملائکة، وخلق السماوات والأرضين، والإنسان، والحيوان، وأعطت رؤيً مکثّفة في المجتمع، وعلم النفس، والتاريخ، والأدب، وأبدت إشارات في الفيزياء، وعلم الأرض «الجيولوجيا» ممّا لا يزال يتّسم بالجدة والحداثة لدي العلماء المعاصرين رغم التطوّر والتکامل.

مَن تکون هذه أثارة من علمه وقبضة من معرفته، کيف يمکن تحديد أبعاد علمه، والوقوف علي مکنون معرفته؟

وهل يمکن تحرّي جميع الجوانب، ومعرفة کافّة الزوايا في علم إنسانٍ وقف يصدع بعلوّ قامته، ويهتف بصلابة ورسوخ: «سلوني قبل أن تفقدوني»، ثمّ لم يعجز عن جواب سؤال قطّ، ولم يسجّل التاريخ مثيلاً لهذه الظاهرة، ولم تعرف الإنسانيّة في ماضيها وحاضرها من نطق بمثل هذه المقالة أبداً.

[صفحه 10]

هالة من الغموض کانت ولا تزال تکتنف علم عليّ ومداه، ولا غرو فهذا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: «ما عرف اللَّه حقّ معرفته غيري وغيرک، وما عرفک حقّ معرفتک غير اللَّه وغيري»[3] .

إنّ القلم ليعجز، وتنکفئ الکلمات، ولن يکون أمام المرء مهما بلغت کفاءته إلّا الاعتراف بالعجز أمام هذه الظاهرة المدهشة.

علي هذا يتحتّم علي الإنسان أن يکون کالمتنبّي في الإفصاح عن عجزه في بيان أبعاد المعرفة العلويّة، حيث يکون الصمت في مثل هذا المشهد أبلغ من أيّ نطق[4] ومن ثمَّ ما أحرانا أن نرفع الأقلام صوب ساحته الغرّاء فنمسک عن الکتابة لنصغي إليه وننصت له بأدب، عساه يُفيض بشي ء قليل ممّا عنده، ويُبدي قطرة من بحر علومه الزخّار، وينشر وميضاً من مکنون حقائقه.

[صفحه 11]



صفحه 8، 9، 10، 11.





  1. الرعد: 43.
  2. النمل: 40.
  3. راجع: القسم التاسع:لا يعرف حقّ معرفته:ما عرفه إلّا اللَّه وأنا.
  4. راجع: القسم التاسع:عليّ عن لسان الشعراء:المتنبّي.