في التزهيد من الدنيا











في التزهيد من الدنيا



5621- الإمام عليّ عليه السلام: اُوصيکم عبادَ اللَّه بتقوي اللَّه التي هي الزاد وبها المعاذ؛ زاد مُبْلِغ، ومعاذ مُنْجِح. دعا إليها أسمع داعٍ، ووعاها خير واعٍ. فأسمَعَ داعيها، وفاز واعيها.

عبادَ اللَّه! إنّ تقوي اللَّه حَمَت[1] أولياء اللَّه محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتي أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم. فأخذوا الراحة بالنَّصَب، والرِّيّ بالظمأ. واستقربوا الأجل فبادروا العمل، وکذّبوا الأمل فلاحَظوا الأجل.

ثمّ إنّ الدنيا دار فناء وعناء وغِيَر وعِبَر؛ فمِن الفناء أنّ الدهر مُوتِرٌ قوسَه،

[صفحه 259]

لا تخطئ سهامه، ولا تؤسي[2] جراحه. يرمي الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب. آکل لا يشبع، وشارب لا ينقع. ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأکل، ويبني ما لا يسکن، ثم يخرج إلي الله تعالي لا مالا حمل، ولا بناء نقل! ومن غيرها أ نک تري المرحوم مغبوطا والمغبوط مرحوما، ليس ذلک إلا نعيما زل،[3] وبؤسا نزل.

ومن عبرها أن المرء يشرف علي أمله، فيقطعه حضور أجله؛ فلا أمل يدرک، ولا مؤمل يترک. فسبحان الله! ما أعز سرورها! وأظمأ ريها! وأضحي فيئها. لا جاء يرد، ولا ماض يرتد. فسبحان الله! ما أقرب الحي من الميت للحاقه به، وأبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه!

إنه ليس شي ء بشر من الشر إلا عقابه، وليس شي ء بخير من الخير إلا ثوابه. وکل شي ء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وکل شي ء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه؛ فليکفکم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر. واعلموا أن ما نقص من الدنيا، وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة، وزاد في الدنيا؛ فکم من منقوص رابح، ومزيد خاسر! إن الذي امرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه. وما احل لکم أکثر مما حرم عليکم؛ فذروا ما قل لما کثر، وما ضاق لما اتسع. قد تکفل لکم بالرزق وامرتم بالعمل؛ فلا يکونن المضمون لکم طلبه أولي بکم من المفروض عليکم عمله، مع أ نه والله لقد اعترض الشک، ودخل اليقين، حتي کأن الذي ضمن لکم قد فرض عليکم، وکأن الذي قد فرض عليکم قد وضع عنکم. فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل؛ فإنه لا يرجي من رجعة العمر ما يرجي من

[صفحه 260]

رجعة الرزق؛ ما فات من الرزق رجي غدا زيادته، وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته. الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي.ف «اتقوا الله حق تقاته ي ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»[4] [5] .



صفحه 259، 260.





  1. حمي الشي ءَ: منعه ودفع عنه (لسان العرب: 198:14).
  2. أسا الجرحَ: داواه. والأسا: المداواة والعِلاج (لسان العرب: 34:14).
  3. زَلَّ يَزِلُّ: إذا مَرّ مروراً سريعاً (لسان العرب: 307:11).
  4. نهج البلاغة: الخطبة 114 وراجع الخطبة 103 و 111 و 113 و 132 و 203 و 226 وتحف العقول: 218 وعيون الحکم والمواعظ: 3421:158 و ص 6242:370.
  5. آل عمران: 102.