الخطبة الغرّاء
أحمده علي عواطف کرمه، وسوابغ نعَمِه. واُؤمن به أوّلاً بادياً، وأستهديه قريباً هادياً، وأستعينه قاهراً قادراً، وأتوکّل عليه کافياً ناصراً. وأشهد أنّ محمّداً صلي الله عليه و آله عبده ورسوله؛ أرسله لإنفاذ أمره، وإنهاء عذره، وتقديم نُذُره. اُوصيکم عبادَ اللَّه بتقوي اللَّه الذي ضرب الأمثال، ووقّت لکم الآجال. [صفحه 249] وألبسکم الرِّياش وأرفغ لکم المعاش[2] وأحاط بکم الإحصاء،[3] وأرصد[4] لکم الجزاء، وآثرکم بالنِّعَم السوابغ، والرِّفَد الروافغ، وأنذرکم بالحجج البوالغ. فأحصاکم عدداً، ووظَّف لکم مُدَداً، في قرارِ خِبْرَةٍ، ودار عِبْرَة، أنتم مختبَرون فيها، ومحاسبون عليها. فإنّ الدنيا رَنِقٌ[5] مشربها، رَدِغٌ[6] مشرعها، يُونِق منظرُها، ويُوبِق مخبرها. غُرورٌ حائلٌ، وضَوءٌ آفلٌ، وظِلٌ زائل، وسِناد مائل. حتي إذا أنِس نافرُها، واطمأنّ ناکرُها؛ قمَصت[7] بأرجلها، وقنَصتْ بأحبُلها، وأقصدت بأسهمها، وأعلقت المرءَ أوهاقَ[8] المنيّة قائدةً له إلي ضنْک المضجع، ووحشة المرجِع، ومعاينة المحلّ، وثواب العمل. وکذلک الخَلَف بِعَقْب السلف. لا تُقلِع المنيّة اختراماً[9] ولا يرعوي الباقون اجتراماً. يحتذون مثالاً ويمضون أرسالاً،[10] إلي غاية الانتهاء، وصَيّور الفناء. [صفحه 250] حتي إذا تصرّمت الاُمور، وتقضّت الدهور، وأزِف[11] النشور؛ أخرجهم من ضرائح القبور، وأوکار الطيور، وأوجِرة[12] السباع، ومطارح المهالک، سراعاً إلي أمره، مهطِعين[13] إلي معاده. رعيلاً صُموتاً، قياماً صفوفاً. ينفُذُهم البصر، ويُسمِعهم الداعي. عليهم لَبوس الاستکانة، وضرع الاستسلام والذلّة. قد ضلّت الحِيَل، وانقطع الأمل. وهوَت الأفئدة کاظمةً، وخشعت الأصوات مُهَينِمة[14] . وألجَمَ[15] العَرَقُ، وعظُمَ الشَّفَق، واُرعِدت الأسماع لزَبْرة الداعي إلي فصل الخطاب، ومُقايضة الجزاء، ونَکال العقاب، ونوال الثواب. عبادٌ مخلوقون اقتداراً، ومربوبون اقتساراً، ومقبوضون احتضاراً، ومُضَمَّنون أجداثاً، وکائنون رُفاتاً[16] ومبعوثون أفراداً، ومَدينون جزاءً، ومميَّزون حساباً. قد اُمهلوا في طلب المخرج، وهُدوا سبيل المنهج، وعُمِّروا مَهَلَ المستعتِب، وکُشِفت عنهم سُدَف[17] الرِّيَب، وخُلُّوا لمضمار الجياد، ورَوِيّة الارتياد، وأناة المقتبِس المرتاد، في مدّة الأجل، ومضطرب المَهَل. فيالها أمثالاً صائبة، ومواعظ شافية، لو صادفت قلوباً زاکية، وأسماعاً واعية، وآراء عازمة، وألبابا حازمة! فاتّقوا اللَّه تقيّة مَن سمعَ فخشع، واقترف فاعترف، ووجِل فعمِل، وحاذَرَ [صفحه 251] فبادَرَ، وأيقنَ فأحسنَ، وعُبِّر فاعتبر، وحُذِّر فحذِر، وزُجِر فازدَجر، وأجاب فأناب، وراجع فتاب، واقتدي فاحتذي، واُرِي فرأي، فأسرع طالباً، ونجا هارباً، فأفاد ذخيرة، وأطاب سريرة. وعَمَّر مَعاداً، واستظهر زاداً ليوم رحيله، ووجه سبيله، وحال حاجته، وموطن فاقته، وقدّم أمامه، لدار مُقامه. فاتقّوا اللَّه عبادَ اللَّه جهةَ ما خلقکم له، واحذروا منه کُنْه ما حذّرکم من نفسه، واستحِقّوا منه ما أعدّ لکم بالتنجُّز[18] لصدق ميعاده، والحذر من هول معاده. ومنها: جعل لکم أسماعاً لتعيَ ما عناها، وأبصاراً لتجلوَ عن عَشاها، وأشلاءً[19] جامعة لأعضائها، ملائمة لأحنائها،[20] في ترکيب صورها ومُدَد عمرها، بأبدان قائمة بأرفاقها،[21] وقلوب رائدة لأرزاقها، في مُجلِّلات[22] نِعَمه، وموجبات مِنَنه، وحواجز عافيته. وقدّر لکم أعماراً سترها عنکم، وخلَّف لکم عِبَراً من آثار الماضين قبلکم؛ من مُستمتَع خَلاقهم،[23] ومُستفسَح خَناقهم[24] . أرهقتهم[25] المنايا دون الآمال، وشذّبَهُم عنها[26] تخرّم الآجال. لم يَمْهَدوا في [صفحه 252] سلامة الأبدان، ولم يعتبروا في اُنُف[27] الأوان. فهل ينتظر أهلُ بَضاضة[28] الشباب إلّا حوانيَ الهرم؟ وأهل غَضارة[29] الصحّة إلّا نوازل السَّقَم؟ وأهل مدّة البقاء إلّا آونة الفناء؟ مع قرب الزِّيال، واُزوف الانتقال، وعَلَز[30] القلق، وألَم المَضَض وغُصَص الجَرَض،[31] وتَلَفُّت الاستغاثة بنصرة الحَفَدة والأقرباء والأعزّة والقُرَناء! فهل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب، وقد غودر في محلّة الأموات رهيناً، وفي ضيق المضجع وحيداً، قد هتکت الهَوامّ جلدته، وأبلت النواهک جِدَّته، وعَفَت[32] العواصف آثاره، ومحا الحَدَثان[33] معالمه، وصارت الأجساد شَحِبةً بعد بَضَّتها، والعظام نَخِرة بعد قوّتها، والأرواح مرتَهنة بثِقَل أعبائها، موقنة بغَيب أنبائها، لا تُستزاد من صالح عملها، ولا تُستعتب من سيّئ زَلَلها! أ وَلستم أبناء القوم والآباء، وإخوانهم والأقرباء، تحتذون أمثلتهم، وترکبون قِدَّتهم[34] وتطؤون جادّتهم؟!. فالقلوب قاسية عن حظّها، لاهية عن رشدها، سالکة في غير مضمارها، کأنّ المعنِيّ سواها، وکأنّ الرشد في إحراز دنياها! [صفحه 253] واعلموا أنّ مجازکم علي الصراط ومزالق دَحْضِه[35] وأهاويل زَلَله، وتارات أهواله. فاتّقوا اللَّه عبادَ اللَّه تقيّة ذي لبّ شَغَل التفکّرُ قلبَه، وأنصب الخوفُ بدنَه، وأسهر التهجُّد غِرار[36] نومه، وأظمأ الرجاء هواجر[37] يومه، وظَلَف الزهد شهواته،[38] وأوجف الذِّکرُ بلسانه،[39] وقدَّم الخوف لأمانه، وتنکّب المَخالِج[40] عن وَضَح السبيل، وسلک أقصد المسالک إلي النهج المطلوب، ولم تفتِله فاتلات الغرور، ولم تعْمَ عليه مشتبهات الاُمور. ظافراً بفرحة البشري، وراحة النُّعمي في أنعم نومه وآمن يومه. قد عَبَر معبر العاجلة حميداً، وقدّم زاد الآجلة سعيداً. وبادر من وَجَلٍ، وأکمش[41] في مَهَل. ورغِب في طَلَب، وذهب عن هرب، وراقب في يومه غده، ونظر قُدُماً أمامه. فکفي بالجنّة ثواباً ونوالاً، وکفي بالنار عقاباً ووَبالاً! وکفي باللَّه منتقماً ونصيراً! وکفي بالکتاب حجيجاً وخصيماً! اُوصيکم بتقوي اللَّه الذي أعذر بما أنذر، واحتجّ بما نَهَج، وحذّرکم عدوّاً نفذ في الصدور خفيّاً، ونفث في الآذان نجيّاً[42] ؛ فأضلّ وأردي، ووعد فمنّي، وزيّن سيّئات الجرائم، وهوّن موبقات العظائم. حتي إذا استدرج قرينته،[43] واستغلق [صفحه 254] رهينته، أنکر ما زيّن، واستعظم ما هوّن، وحذّر ما أمَّنَ. أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، وشُغُف[44] الأستار، نطفة دِهاقاً،[45] وعَلَقة مِحاقاً، وجنيناً وراضعاً، ووليداً ويافعاً. ثمّ منحه قلباً حافظاً، ولساناً لافظاً، وبصراً لاحظاً؛ ليفهم معتبراً، ويُقصِّر مزدجراً. حتي إذا قام اعتداله، واستوي مثاله؛ نفر مستکبراً، وخبَطَ سادراً،[46] ماتِحاً في غرب[47] هواه، کادحاً سعياً لدنياه، في لذّات طَرَبه، وبَدَوات أرَبه،[48] ثمّ لا يحتسب رزيّةً، ولا يخشع تقيّةً. فمات في فتنته غريراً،[49] وعاش في هفوته يسيراً. لم يُفِد عِوَضاً، ولم يَقْضِ مُفترَضاً. دَهِمته فَجَعاتُ المنيّة في غُبَّر[50] جِماحه، وسَنَن مِراحه، فظلَّ سادراً، وبات ساهراً، في غمرات الآلام، وطوارق الأوجاع والأسقام، بين أخٍ شقيق، ووالد شفيق، وداعية بالويل جزعاً، ولادِمةٍ[51] للصدرِ قَلَقاً. والمرءُ في سکرةٍ مُلهِثةٍ، وغَمْرةٍ[52] کارثة، وأ نّةٍ موجعة، وجذبةٍ مُکرِبة، وسَوقةٍ مُتعِبة. ثمّ [صفحه 255] اُدرِج في أکفانه مُبلِساً،[53] وجُذِب منقاداً سَلِساً. ثمّ اُلقي علي الأعواد رجيعَ وَصَبٍ،[54] ونِضْوَ[55] سَقَم، تحمله حَفَدة الوِلدان، وحَشدَة الإخوان، إلي دار غربته، ومنقطع زَورَته، ومفرد وحشته. حتي إذا انصرف المشيِّع، ورجع المتفجِّع؛ اُقعِد في حفرته، نجيّاً لبَهْتَة السؤال، وعثرة الامتحان. وأعظم ما هنالک بليّة نزول الحميم، وتَصلِيَة الجحيم، وفَوْرات السعير، وسَوْرات[56] الزفير. لا فترةٌ مريحة، ولا دَعَة مُزِيحة، ولا قوّة حاجزة، ولا موتة ناجزة، ولا سِنة مسلّية بين أطوار الموتات وعذاب الساعات، إنّا باللَّه عائذون! عباد اللَّه! أين الذين عُمِّروا فنعِموا، وعُلّموا ففهِموا، واُنظروا فلَهَوا وسُلِّموا فنسُوا!. اُمهلوا طويلاً، ومُنِحوا جميلاً، وحُذِّروا أليماً، ووُعِدوا جسيماً. احذروا الذُّنوب المورِّطة، والعيوب المُسخِطة. اُولي الأبصار والأسماع، والعافية والمتاع! هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فِرار أو مَحارٍ[57] أم لا؟ «فَأَنَّي تُؤْفَکُونَ»![58] أم أين تُصرَفون! أم بماذا تغترّون! وإنّما حظّ أحدکم من الأرض ذات الطول والعرض قِيْدُ[59] قَدِّه، متعفّراً [صفحه 256] علي خدّه! الآنَ عبادَ اللَّه والخناقُ مُهمَل، والرُّوح مُرسَل، في فَينة[60] الإرشاد، وراحة الأجساد، وباحة الاحتشاد، ومَهَل البقيّة، واُنُف المشيّة، وإنظار التوبة، وانفساح الحَوْبة[61] قبل الضَّنْک والمَضيق، والرَّوع والزهوق، وقبل قدوم الغائب المنتظر، وإخذة العزيز المقتدر[62] .
5618- الإمام عليّ عليه السلام- من خطبة له، وهي من الخطب العجيبة، وتُسمّي الغرّاء-: الحمد للَّه الذي علا بحَوْله، ودنا بطَوْله[1] مانح کلّ غنيمة وفضل،. وکاشف کلّ عظيمةٍ وأزلٍ.
صفحه 249، 250، 251، 252، 253، 254، 255، 256.