صفات المتّقين











صفات المتّقين



5617- نهج البلاغة: من خطبة له عليه السلام يصف فيها المتّقين. روي أنّ صاحباً لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له: همّام کان رجلا عابداً، فقال له: يا أميرالمؤمنين، صف لي المتّقين حتي کأ نّي أنظر إليهم. فتثاقل عليه السلام عن جوابه ثمّ قال: يا همّام! اتّقِ اللَّه وأحسِن ف«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّ الَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ»[1] فلم يقنع همّام بهذا القول حتي عزم عليه، فحمد اللَّه وأثني عليه، وصلّي علي النبيّ صلي الله عليه و آله، ثمّ قال عليه السلام:

أمّا بعد؛ فإنّ اللَّه سبحانه وتعالي خلق الخلق حين خلقهم غنيّاً عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم؛ لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه. فقسَم بينهم معايشهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم. فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل؛ منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع. غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللَّه عليهم، ووقفوا أسماعهم علي العلم النافع لهم. نزلت أنفسهم منهم في البلاء کالتي نزلت في الرخاء. ولولا الأجل الذي کتب اللَّه عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين؛ شوقاً إلي الثواب، وخوفاً من العقاب.

عظُمَ الخالق في أنفسهم؛ فصغُر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّةُ کمن قد رآها؛ فهم فيها مُنعَّمون، وهم والنارُ کمن قد رآها فهم فيها مُعذَّبون. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أيّاماً قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم.

[صفحه 246]

أرادتهم الدنيا فلم يُريدوها، وأسَرَتهم ففدَوا أنفسهم منها.

أمّا الليلُ فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يُرتّلونها ترتيلاً. يُحزِّنون به أنفسَهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق رکنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أ نّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في اُصول آذانهم؛ فهم حانون علي أوساطهم، مفترشون لجباههم وأکفّهم ورُکَبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلي اللَّه تعالي في فَکاک رقابهم.

وأمّا النهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء. قد براهم الخوفُ بَرْيَ القِداح،[2] ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضي وما بالقوم من مرض، ويقول: قد خولطوا!، ولقد خالطهم أمر عظيم! لا يرضَون من أعمالهم القليلَ، ولا يستکثرون الکثير. فهم لأنفسهم متّهِمون، ومن أعمالهم مشفِقون. إذا زُکِّي أحد منهم خاف ممّا يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي من نفسي. اللهمّ لا تؤاخذْني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون.

فمن علامة أحدهم أ نّک تري له قوّة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعلماً في حلم، وقصداً في غنيً، وخشوعاً في عبادة، وتجمّلاً في فاقة، وصبراً في شدّة، وطلباً في حلال، ونشاطاً في هديً، وتحرّجاً عن طمع. يعمل الأعمال الصالحة وهو علي وَجَل. يُمسي وهمّه الشکر، ويُصبح وهمّه الذِّکر. يبيت حذِراً، ويُصبح فرِحاً؛ حذِراً لما حُذِّر من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تکره لم يُعطِها سؤلها

[صفحه 247]

فيما تُحِبّ. قُرّة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقي. يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل. تراه قريباً أملُه، قليلاً زللُه، خاشعاً قلبُه، قانعةً نفسه، منزوراً[3] أکله، سهلاً أمرُه، حريزاً دينُه، ميّتة شهوته، مکظوماً غيظه. الخير منه مأمول، والشرّ منه مأمون. إن کان في الغافلين کُتب في الذاکرين، وإن کان في الذاکرين لم يُکتَب من الغافلين. يعفو عمّن ظلمه، ويُعطي من حرمه، ويصل من قطعه. بعيداً فُحشُه، ليّناً قوله، غائباً مُنکَره. حاضراً معروفه، مقبلاً خيره، مدبراً شرّه.

في الزلازل وقور، وفي المکاره صبور، وفي الرخاء شکور. لا يحيف علي من يُبغِض، ولا يأثم فيمن يُحبّ. يعترف بالحقّ قبل أن يُشهَد عليه. لا يُضِيع ما استُحفِظ، ولا ينسي ما ذُکِّر، ولا ينابِز بالألقاب، ولا يضارّ بالجار، ولا يَشمَت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحقّ.

إن صمت لم يغمّه صمته، وإن ضحک لم يعلُ صوته، وإن بُغِي عليه صبر حتي يکون اللَّه هو الذي ينتقم له. نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة. أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه. بُعدُه عمّن تباعد عنه زهدٌ ونزاهة، ودنوّه ممّن دنا منه لينٌ ورحمة. ليس تباعده بکِبْر وعظمة، ولا دنوّه بمکر وخديعة.

قال: فصعق همام صعقة کانت نفسه فيها.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: أما واللَّه لقد کنت أخافها عليه. ثمّ قال: أ هکذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟ فقال له قائل: فما بالک يا أميرالمؤمنين!

فقال عليه السلام: ويحک! إنّ لکلّ أجل وقتاً لا يعدوه، وسبباً لا يتجاوزه. فمهلاً لا تعُد

[صفحه 248]

لمثلها؛[4] فإنّما نفث[5] الشيطان علي لسانک![6] .



صفحه 246، 247، 248.





  1. النحل: 128.
  2. القِداح: جمع قِدْح؛ السهم قبل أن ينَصَّل ويُراشَ (لسان العرب: 556:2).
  3. أي قليلاً (النهاية: 40:5).
  4. قال ابن أبي الحديد: إنّما نهي أميرالمؤمنين عليه السلام القائل: «فهلّا أنت يا أميرالمؤمنين!» لأ نّه اعترض في غير موضع الاعتراض، وذلک أ نّه لايلزم من موت العامّي عند وعظ العارف أن يموت العارف عن وعظ نفسه؛ لأن انفعال العامي ذي الاستعداد التامّ للموت عند سماع المواعظ البالغة أتمّ من استعداد العارف عند سماع نفسه أو الفکر في کلام نفسه؛ لأنَّ نفس العارف قويّة جدّاً، والآلة التي يُحفر بها الطين قد لا يُحفر بها الحجر (شرح نهج البلاغة: 161:10).
  5. نَفَثَ الشيطان علي لسانه: أي ألقي فتکلّم (مجمع البحرين: 1808:3).
  6. نهج البلاغة: الخطبة 193، صفات الشيعة: 35:96، الأمالي للصدوق: 897:666 کلاهما عن عبدمالرحمن بن کثير الهاشمي عن الإمام الصادق عن أبيه عنه عليهم السلام، تحف العقول: 159، التمحيص: 170:70، کتاب سليم بن قيس: 43:849:2 کلّها نحوه وراجع الخطبة 87 و 157 و161 و178 و188 و190 و191 والکافي: 1:226:2 وبحارالأنوار: 367:77 تا 442 وتذکرة الخواصّ: 138.