تاكيد الإمام علي الاعتبار بالتاريخ











تاکيد الإمام علي الاعتبار بالتاريخ



5614- الإمام عليّ عليه السلام- من خطبة له عليه السلام تُسمّي بالقاصعة-: احذروا ما نزل بالاُمم قبلکم من المَثُلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال. فتذکّروا في الخير والشرّ أحوالهم، واحذروا أن تکونوا أمثالهم.

فإذا تفکّرتم في تفاوت حالَيْهم فالزموا کلّ أمر لزمت العزّة به شأنَهم، وزاحت الأعداءُ له عنهم، ومدّت العافية فيه عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الکرامة عليه حبلهم، من الاجتناب للفرقة، واللزوم للاُلفة، والتحاضّ عليها، والتواصي بها، واجتنبِوا کلّ أمر کسر فِقْرَتهم، وأوهن مُنَّتهم[1] من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي، وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلکم، کيف کانوا في حال التمحيص والبلاء؛ أ لم يکونوا أثقل الخلائق أعباء، وأجهد العباد بلاء، وأضيق أهل الدنيا حالاً؟ اتّخذتهم الفراعنة عبيداً، فساموهم سوء العذاب، وجرّعوهم المُرار، فلم تبرح الحال بهم في ذلّ الهلکة وقهر الغلبة. لا يجدون حيلة في امتناع، ولا سبيلاً إلي دفاع. حتي إذا رأي اللَّه سبحانه جدّ الصبر منهم علي الأذي في محبّته، والاحتمال للمکروه من خوفه؛ جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً؛ فأبدلهم العزّ مکان الذلّ، والأمنَ

[صفحه 241]

مکان الخوف، فصاروا ملوکاً حکّاماً، وأئمّة أعلاماً، وقد بلغت الکرامة من اللَّه لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم.

فانظروا کيف کانوا حيث کانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. أ لم يکونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوکاً علي رقاب العالمين؟ فانظروا إلي ما صاروا إليه في آخر اُمورهم حين وقعت الفرقة، وتشتّتت الاُلفة، واختلفت الکلمة والأفئدة، وتشعّبوا مختلفين، وتفرّقوا متحاربين، قد خلع اللَّه عنهم لباس کرامته، وسلبهم غَضارة نعمته. وبقي قصص أخبارهم فيکم عِبَراً للمعتبرين.

فاعتبِروا بحال وُلْد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهم السلام؛ فما أشدّ اعتدال الأحوال، وأقرب اشتباه الأمثال! تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم وتفّرقهم ليالي کانت الأکاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن رِيف الآفاق، وبحر العراق، وخضرة الدنيا إلي منابت الشِّيح، ومهافي[2] الريح، ونَکَد المعاش. فترکوهم عالة مساکين، إخوان دَبَرٍ[3] وَوَبرٍ، أذلّ الاُمم داراً، وأجدبهم قراراً. لا يأوون إلي جناح دعوة يعتصمون بها، ولا إلي ظلّ اُلفة يعتمدون علي عزّها. فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والکثرة متفرقة؛ في بلاءِ أزْلٍ،[4] وإطباق جهل! من بناتٍ موؤودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة.

فانظروا إلي مواقع نِعَم اللَّه عليهم حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملّته طاعتهم، وجمع علي دعوته اُلفتهم؛ کيف نشرت النعمة عليهم جناحَ کرامتها، وأسالت لهم

[صفحه 242]

جداول نعيمها، والتفّت الملّة بهم في عوائد برکتها، فأصبحوا في نعمتها غَرِقين، وفي خُضرة عيشها فَکِهين. قد تربّعت الاُمور بهم في ظل سلطان قاهر، وآوتهم الحال إلي کنف عزّ غالب. وتعطّفت الاُمور عليهم في ذري ملک ثابت. فهم حکّام علي العالمين، وملوک في أطراف الأرضين. يملکون الاُمور علي من کان يملکها عليهم. ويُمضون الأحکام فيمن کان يُمضيها فيهم. لا تُغمَز لهم قناة، ولا تُقرَع لهم صَفاة[5] .

ألا وإنّکم قد نفضتم أيديکم من حبل الطاعة. وثلمتم حصن اللَّه المضروب عليکم بأحکام الجاهليّة. فإنّ اللَّه سبحانه قد امتنّ علي جماعة هذه الاُمّة- فيما عقد بينهم من حبل هذه الاُلفة التي ينتقلون في ظلّها، ويأوون إلي کنفها- بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة؛ لأ نّها أرجح من کلّ ثمن، وأجلّ من کلّ خطر[6] .

[صفحه 243]



صفحه 241، 242، 243.





  1. المُنّة: القوّة (تاج العروس: 547:18).
  2. مهافي: جمع مهفيً؛ وهو مَوضِع هبوبِها في البَراري (النهاية: 267:5).
  3. الدَّبَر: الجرح الذي يکون في ظَهرِ البعير (النهاية: 97:2).
  4. الأزْل: الشدّة والضيق (لسان العرب: 46:1).
  5. الصَّفاة: الصخرة والحجر الأملس. والکلام هنا تميل؛ أي لا ينالهم أحدٌ بسوء (النهاية: 41:3).
  6. نهج البلاغة: الخطبة 192، بحارالأنوار: 37:472:14.