اصناف الناس











اصناف الناس



5388- الإمام عليّ عليه السلام- من خطبة له عليه السلام يصف زمانه بالجور، ويقسم الناس فيه خمسة أصناف، ثمّ يزهّد في الدنيا-: أيّها الناس، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن کنود، يُعدّ فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عُتوّاً، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عمّا جهلنا، ولا نتخوّف قارعة حتي تحلّ بنا. والناس علي أربعة أصناف:

منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلّا مهانةُ نفسه وکلالة حدّه ونضيض وفره.

[صفحه 193]

ومنهم المُصلت لسيفه، والمعلن بشرّه، والمجلب بخيله ورجله، قد أشرط نفسه وأوبق دينه لحطام ينتهزه أو مِقنب[1] يقوده أو منبر يَفرعه. ولبئس المَتجَر أن تري الدنيا لنفسک ثمناً وممّا لک عند اللَّه عوضاً!

ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمّر من ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة، واتّخذ ستر اللَّه ذريعة إلي المعصية.

ومنهم من أبعده عن طلب الملک ضؤولة نفسه وانقطاع سببه، فقَصرته الحال عن حاله فتحلّي بإسم القناعة وتزيّن بلباس أهل الزهادة، وليس من ذلک في مَراح ولا مَغدًي.

وبقي رجال غضّ أبصارَهم ذکرُ المرجع، وأراق دموعَهم خوفُ المحشر، فهم بين شريد نادٍّ، وخائف مقموع، وساکت مکعوم، وداع مخلص، وثکلان موجع، قد أخملتهم التقيّة وشملتهم الذلّة، فهم في بحر اُجاج، أفواههم ضامزة،[2] وقلوبهم قرحة، قد وعَظوا حتي ملّوا وقُهِروا حتي ذلّوا، وقُتِلوا حتي قلّوا.

فلتکن الدنيا في أعينکم أصغر من حُثالة القَرظ،[3] وقُراضة الجَلم،[4] واتّعظوا بمن کان قبلکم، قبل أن يَتّعظ بکم مَن بعدکم، وارفُضوها ذميمة، فإنّها قد رفضت مَن کان أشغف بها منکم[5] .

[صفحه 194]

5389- نهج البلاغة: من کلام له عليه السلام لکميل بن زياد النخعي، قال کميل بن زياد: أخذ بيدي أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأخرجني إلي الجبّان،[6] فلما أصحر تنفس الصعداء ثمّ قال:

يا کميل بن زياد، إنّ هذه القلوب أوعية فخيرُها أوعاها، فاحفظ عنّي ما أقول لک:

الناس ثلاثة: فعالم ربّانيّ، ومُتعلِّم علي سبيل نجاة، وهمج رَعاع أتباع کلّ ناعق، يميلون مع کلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجَؤوا إلي رکن وثيق.

يا کميلُ، العلم خير من المال، العلم يحرسک وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزکو علي الإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله.

يا کميل بن زياد، معرفة العلم دِين يُدان به، به يکسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الاُحدوثة بعد وفاته. والعلم حاکم والمال محکوم عليه.

يا کميل، هلک خُزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر: أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. ها، إنّ ههنا لعلماً جمّاً- وأشار بيده إلي صدره- لو أصبتُ له حملة! بلي أصبتُ لَقِناً[7] غير مأمون عليه، مستعملاً آلة الدِّين للدنيا، ومستظهراً بنعم اللَّه علي عباده، وبحُججه علي أوليائه، أو منقاداً لِحَملة الحقّ، لا بصيرة له في أحنائه،[8] ينقدح الشکّ في قلبه لأوّل عارض من شُبهة. ألا لا ذا ولا ذاک! أو منهوماً باللذّة، سلس القياد للشهوة، أو

[صفحه 195]

مُغرماً بالجمع والادِّخار، ليسا من رُعاة الدين في شي ء، أقرب شي ء شَبهاً بهما الأنعام السائمة! کذلک يموت العلم بموت حامليه. چ

اللهمّ بلي! لا تَخلُو الأرضُ من قائم للَّه بحُجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً؛ لئلّا تبطل حُجج اللَّه وبيّناته. وکم ذا؟ وأين أولئک؟ أولئک- واللَّه- الأقلّون عدداً، والأعظمون عند اللَّه قدراً. يحفظ اللَّه بهم حُججه وبيّناته حتي يُودعوها نُظراءَهم، ويَزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلم علي حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استعوره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها معلّقة بالمحلِّ الأعلي. اُولئک خُلفاء اللَّه في أرضه والدُّعاة إلي دينه. آهِ آهِ شوقاً إلي رؤيتهم! انصرف يا کميل إذا شئت[9] .



صفحه 193، 194، 195.





  1. المِقنَب بالکسر: جَماعة الخيل والفُرسان (النهاية: 111:4).
  2. الضامِز: المُمسک (النهاية: 100:3).
  3. القَرَظ: وَرقَ السَّلَم (النهاية: 43:4).
  4. الجَلَم: الذي يُجَزُّ به الشَّعَر والصُّوف (النهاية: 290:1).
  5. نهج البلاغة: الخطبة 32، بحارالأنوار: 54:4:78؛ مطالب السؤول: 32.
  6. الجَبّان في الأصل: الصحراء، وأهل الکوفة يسمّون المقابر جبّانة، وبالکوفة محالّ تسمّي بهذا الاسم (معجم البلدان: 99:2).
  7. أي فَهِمٌ حَسَنُ التَّلَقُّن لِمَا يَسْمَعُه (النهاية: 266:4).
  8. الحِنْوُ: واحد الأحناء، وهي الجَوانِب (لسان العرب: 206:14).
  9. نهج البلاغة: الحکمة 147، الإرشاد: 227:1، الأمالي للمفيد: 3:247، کمال الدين: 2:290، الخصال: 257:186، خصائص الأئمّة عليهم السلام: 105، تحف العقول: 169، الأمالي للطوسي: 23:20، الغارات: 149:1؛ حلية الأولياء: 79:1، تاريخ بغداد: 3413:379:6وفيه إلي «آلة الدِّين للدنيا»، المعيار والموازنة: 79، کنز العمّال: 29391:262:10.