من هو هذا المجتهد؟











من هو هذا المجتهد؟



أهو إبن آکلة الاکباد- نکس الله رايتها- الهاتک لحرمات الله، المعتدي علي حدوده، المجرم الجاني؟.

يحسب أبناء حزم وتيمية وکثير ومن لف لفهم انه مجتهد مأجور، ويقول إبن حجر: إنه خليفة حق، وإمام صدق.

هکذا يقول هؤلاء ونحن لا نقول باجتهادهم بل نقول بما قاله المقبلي[1] في کتابه «العلم الشامخ في ايثار الحق علي الآباء المشايخ» ص 365: ما کان علي رضي الله عنه

[صفحه 370]

وأرضاه إلا إمام هدي، ولکنه ابتلي وابتلي به، ومضي لسبيله حميدا، وهلک به من هلک، هذا يغلو في حبه أو دعوي حبه لغرض له، أعظمهم ضلالا من رفعه علي الانبياء أو زاد علي ذلک، وأدناهم من لم يرض له بما رضي لنفسه لتقديم إخوانه وأخدانه عليه في الامارة، رضي الله عنهم أجمعين.

وآخر يحط من قدره الرفيع، أبعدهم ضلالا الخوارج الذين يلعنونه علي المنابر، ويرضون علي ابن ملجم شقي هذه الامة، وکذلک المروانية، وقد قطع الله دابرهم، وأقربهم ضلالا الذين خطأوه في حرب الناکثين، والله سبحانه يقول: فقاتلوا التي تبغي حتي تفئ إلي أمر الله. فإن لم تصدق هذه في أميرالمؤمنين ففي من تصدق؟

مع انهم بغوا بغيا محققا بعد إستقرار الامر له، ولا عذر لهم، ولا شبهة إلا الطلب بدم عثمان، وقد أجاب رضي الله عنه بما هو جواب الشريعة فقال: يحضر وارث عثمان ويدعي ما شاء، واحکم بينهم بکتاب الله تعالي وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم. أو کما قال فإن تصح هذه الرواية، وإلا فهي معلومة من حاله بل من حال من هو أدني الناس من المتمسکين بالشريعة، وأما أنه يقطع قطيعا من غوغاء المسلمين الذين اجتمعوا علي عثمان خمسمائة واکثر، بل قيل: إنهم يبلغون نحو عشرة آلاف کما حکاه ابن حجر في الصواعق، فيقتلهم عن بکرة أبيهم، والقاتل واحد، أربعة، عشرة، قيل: هما إثنان فقط. وذکره في الصواعق أيضا، فهذا ما يعتذر به عاقل، ولکن کانت الدعوي باطلة والعلة باطلة، خلا أن طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ومن يلحق بهم من تلک الدرجة التي يقدر قدرها من الصحابة، لا يشک عاقل في شبهة غلطوا فيها، ولو بالتأويل لصلاح مقاصدهم. وأما معاوية والخوارج فمقاصدهم بينة، فإن لم يقاتلهم علي فمن يقاتل؟ أما الخوارج فلا يرتاب في ضلالهم إلا ضال، وأما معاوية فطالب ملک، اقتحم فيه کل داهية، وختمها بالبيعة ليزيد، فالذي يزعم أنه اجتهد فأخطأ، لا نقول: اجتهد وأخطأ. لکنه إما جاهل لحقيقة الحال مقلد، وإما ضال اتبع هواه، أللهم إنا نشهد بذلک.

ورأيت لبعض متأخري الطبريين في مکة رسالة ذکر فيها کلاما عزاه لابن عساکر وهو: أن النبي صلي الله عليه وسلم أخبر أن معاوية سيلي أمر الامة، وانه لن يغلب، وان عليا

[صفحه 371]

کرم الله وجهه قال يوم صفين: لو ذکرت هذا الحديث أو بلغني لما حاربته.

ولا يبعد نحو هذا ممن سل سيفه علي علي والحسن والحسين وذريتهما، والراضي کالفاعل کما صرحت به السنة النبوية، إنما استغربنا وقوع هذا الظهور حکاية الاجماع من جماعة المتسمين بالسنة بأن معاوية هو الباغي، وان الحق مع علي، وما أدري ما رأي هذا الزاعم في خاتمة أمر علي بعد ما ذکر، وکذلک الحسن السبط رضي الله عنهما، وتري هؤلاء الذين ينقمون علي علي قتاله البغاة يحسنون لمن سن لعنه علي المنابر في جميع جوامع المسلمين منذ وقته إلي وقت عمر بن عبد العزيز اللاحق بالاربعة الراشدين رضي الله عنه وعنهم، مع أن سب علي فوق المنابر وجعله سنة تصغر عنده العظائم. وفي جامع المسانيد في مسند ام سلمة رضي الله عنها: أيسب رسول الله صلي الله عليه وسلم فيکم؟ قلت: معاذ الله. قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: من سب عليا فقد سبني. ألکلام.

ولعلک إن نظرت إلي ما سردناه من سيرة هذا المجتهد الجاهل الضال تأخذ لک مقياسا لمبلغ علمه، وقسطه المتضاءل من الاجتهاد في أحکام الله، وانه منکفي عنه، فارغ الوطاب، صفر الاکف عن أي علم ناجع، أو عمل نافع، بعيدا عن فهم الکتاب، والتفقه في السنة، والالمام بأدلة الاجتهاد.

نعم: لم يکن معاوية هو نسيج وحده في الجهل بمبادئ الاجتهاد وغاياته، وإنما له أضراب ونظراء سبقوه أم لحقوه في الرأي الشائن، والاجتهاد المائن، ممن صحح القوم بدعهم المحدثة، وآرائهم الشاذة عن الکتاب والسنة بالاجتهاد، تترسوا في طاماتهم بأنهم مجتهدون[2] .

ولعلک تعرف مکانة هذا المجتهد «خليفة الحق وإمام الصدق» من لعن رسول الله صلي الله عليه وآله إياه وأباه وأخاه. ومن قنوت أميرالمؤمنين في صلاته بلعنه، ومن دعاء ام المؤمنين عائشة عليه دبر صلاتها.

ومن إيعاز الامام أميرالمؤمنين عليه السلام، وولده السبط الزکي أبي محمد سلام الله عليه، والعبد الصالح محمد بن أبي بکر، إلي لعن رسول الله صلي الله عليه وآله المخزي، ومن لعن

[صفحه 372]

ابن عباس وعمار إياه.

ومن قوله صلي الله عليه وآله وسلم وقد سمع غناء واخبر بأنه لمعاوية وعمرو بن العاصي: أللهم ارکسهم في الفتنة رکسا، أللهم دعهم إلي النار دعا.

ومن قوله صلي الله عليه وآله وقد رآه مع ابن العاصي جالسين: إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرقوا بينهما فانهما لا يجتمعان علي خير. ومن قوله صلي الله عليه وآله: إذا رأيتم معاوية علي منبري فاقتلوه. المعاضد بالصحيح الثابت من قوله صلي الله عليه وآله وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما. وفي صحيح: فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا الآخر.

ومن قوله صلي الله عليه وآله: يطلع عليکم من هذا الفج رجل يموت وهو علي غير سنتي فطلع معاوية[3] .

ومن قول أميرالمؤمنين له: طالما دعوت أنت وأولياءک أولياء الشيطان الرجيم الحق أساطير الاولين ونبذتموه وراء ظهورکم. وحاولتم إطفاء نور الله بأيديکم و أفواهکم والله متم نوره ولو کره الکافرون.

ومن قوله عليه السلام: إنک دعوتني إلي حکم القرآن، ولقد علمت أنک لست من أهل القرآن، ولا حکمه تريد.

ومن قوله عليه السلام: إنه الجلف المنافق، ألاغلف القلب، ألمقارب العقل. ومن قوله عليه السلام: انه فاسق مهتوک ستره.

ومن قوله عليه السلام: انه الکذاب إمام الردي، وعدو النبي، وانه الفاجر ابن الفاجر، وانه منافق ابن منافق يدعو الناس إلي النار. إلي کلمات اخري مفصلة في هذا الجزء.

ومن قول أبي أيوب الانصاري: إن معاوية کهف المنافقين.

ومن قول قيس بن سعد الانصاري: إنه وثن إبن وثن، دخل في الاسلام کرها وخرج منه طوعا، لم يقدم إيمانه، ولم يحدث نفاقه.

ومن قول معن السلمي الصحابي البدري له: ما ولدت قرشية من قرشي شرا منک.

[صفحه 373]

ومن أقوال الامام الحسن السبط وأخيه الحسين صلوات الله عليهما، وعمار بن ياسر، و عبدالله بن بديل، وسعيد بن قيس، وعبدالله بن العباس، وهاشم بن عتبة المرقال، وجارية بن قدامة، ومحمد بن أبي بکر، ومالک بن الحارث الاشتر.[4] .

هذا مجتهدنا الطليق عند اولئک الاطايب، وعند الوجوه والاعيان من الصحابة الاولين العارفين به علي سره وعلانيته، المطلعين علي أدوار حياته طفلا ويافعا وکهلا وهما، وأنت بالخيار في الاخذ بأي من النظريتين: ما سبق لله ولرسوله وخلفائه و أصحابه المجتهدين العدول، أو ما يقول هؤلاء الابناء ومن شاکلهم من المتعسفين الناحتين للرجل أعذارا هي أفظع من جرائمه.

الامر الثاني

ثاني الامرين اللذين ينتهي إليهما دفاع إبن حجر عن معاوية قوله في الصواعق ص 130: فالحق ثبوت الخلافة لمعاوية من حينئذ وانه بعد ذلک خليفة حق وإمام صدق، کيف؟ وقد أخرج الترمذي وحسنه عن عبدالرحمن بن أبي عميرة الصحابي عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال: لمعاوية أللهم اجعله هاديا مهديا. وأخرج أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: أللهم علم معاوية الکتاب والحساب وقه العذاب.

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الکبير عن عبدالملک بن عمر قال قال معاوية: ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: يا معاوية إذا ملکت فأحسن.

فتأمل دعاء النبي صلي الله عليه وسلم في الحديث الاول بأن الله يجعله هاديا مهديا، و الحديث حسن کما علمت فهو مما يحتج به علي فضل معاوية، وانه لا ذم يلحقه بتلک الحروب لما علمت انها مبنية علي اجتهاد، وإنه لم يکن له إلا أجر واحد، لان المجتهد إذا أخطأ لا ملام عليه، ولا ذم يلحقه بسبب ذلک لانه معذور، ولذا کتب له أجر.

ومما يدل لفضله الدعاء له في الحديث الثاني بأن يعلم ذلک، ويوقي العذاب، ولا شک ان دعاءه صلي الله عليه وسلم مستجاب، فعلمنا منه أنه لاعقاب علي معاوية فيما فعل من

[صفحه 374]

تلک الحروب بل له الاجر کما تقرر، وقد سمي النبي صلي الله عليه وسلم فئته المسلمين وساواهم بفئة الحسن في وصف الاسلام فدل علي بقاء حرمة الاسلام للفريقين، وانهم لم يخرجوا بتلک الحروب عن الاسلام، وانهم فيه علي حد سواء، فلا فسق ولا نقص يلحق أحدهما لما قررناه من أن کلا منهما متأول تأويلا غير قطعي البطلان، وفئة معاوية وإن کانت هي الباغية لکنه بغي لا فسق به، لانه إنما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه.

وتأمل انه صلي الله عليه وسلم أخبر معاوية بأنه يملک وأمره بالاحسان، تجد في الحديث إشارة إلي صحة خلافته، وانها حق بعد تمامها له بنزول الحسن له عنها، فإن أمره بالاحسان المترتب علي الملک يدل علي حقية ملکه وخلافته وصحة تصرفه ونفوذ أفعاله من حيث صحة الخلافة لا من حيث التغلب، لان المتغلب فاسق معاتب لا يستحق أن يبشر، ولا أن يؤمر بالاحسان فيما تغلب عليه، بل انما يستحق الزجر والمقت و الاعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله، فلو کان معاوية متغلبا لاشار له صلي الله عليه وسلم إلي ذلک، أو صرح له به، فلما لم يشر فضلا علي أن يصرح إلا بما يدل علي حقيقة ما هو عليه علمنا أنه بعد نزول الحسن له خليفة حق وإمام صدق.ه


صفحه 370، 371، 372، 373، 374.








  1. الشيخ صالح بن مهدي المتوفي 1108.
  2. يوجد جمع من اولئک المجتهدين في غضون أجزاء کتابنا هذا.
  3. کتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 247.
  4. مر تفصيل هذه کلها في هذا الجزء.