الاجتهاد ماذا هو؟











الاجتهاد ماذا هو؟



ومما يجب أن يبحث عنه في المقام هو أن يفهم معني الاجتهاد الذي توسعوا فيه حتي سفکت الدماء من أجله وابيحت، وغصبت الفروج وانتهکت المحارم، وغيرت الاحکام من جرائه، وکاد أن يکون توسعهم فيه أن يرد الشريعة بدءا إلي عقب، ويفصم عروة الدين، ويقطع حبله.

ثم لننظر هل فيه من الاستعداد والمنة لتبديل السنن المتبعة التي لا تبديل لها؟ وهل هو من منح الله سبحانه علي رعاء الناس ودهمائهم، فيتقحمونه کيف شاء لهم الهوي؟

[صفحه 345]

أو أن له اصولا متبعة لا يعدوها المجتهد من کتاب وسنة، أو تأول صحيح إن ماشينا القوم في إمضاء الاجتهاد تجاه النص، أو انه اتسعت الفسحة فيه واطلق الصراح حتي نزي إليه کل إرنب، وثعلب، وتحراه کل بوال علي عقبيه أو أعرابي جلف جاف؟ أنا لا أکاد أن اسوغ للعلماء القول بتصحيح مثل هذا الاجتهاد. وإنما المتسالم عليه بينهم مايلي:

قال الآمدي في (الاحکام في اصول الاحکام) 218:4: أما الاجتهاد، فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الامور مستلزم للکلفة والمشقة، ولهذا يقال: إجتهد فلان في حمل حجر البزارة، ولا يقال: إجتهد في حمل خردلة.

وأما في اصطلاح الاصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيئ من الاحکام الشرعية علي وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.

وأما المجتهد فکل من اتصف بصفة الاجتهاد، وله شرطان: الشرط الاول: أن يعلم وجود الرب تعالي: وما يجب له من الصفات، ويستحقه من الکمالات، وانه واجب الوجود لذاته، حي، عالم، قادر، مريد، متکلم، حتي يتصور منه التکليف؟ وأن يکون مصدقا بالرسول، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر علي يده من المعجزات، والآيات الباهرات، ليکون فيما يسنده اليه من الاحکام محققا، ولا يشترط أن يکون عارفا بدقائق علم الکلام، متبحرا فيه کالمشاهير من المتکلمين، بل أن يکون مستند علمه في ذلک بالدليل المفصل، بحيث يکون قادرا علي تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه، کالجاري من عادة الفحول من أهل الاصول، بل أن يکون عالما بأدلة هذه الامور من جهة الجملة، لا من جهة التفصيل.

الشرط الثاني: أن يکون عالما عارفا بمدارک الاحکام الشرعية وأقسامها، وطرق إثباتها، ووجوه دلالاتها علي مدلولاتها، واختلاف مراتبها، والشروط المعتبرة فيها، علي ما بيناه، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها، وکيفية استثمار الاحکام منها قادرا علي تحريرها وتقريرها، والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها، وإنما يتم ذلک بأن يکون عارفا بالرواة وطرق الجرح والتعديل، والصحيح والسقيم، کأحمد بن حنبل ويحيي بن معين، وأن يکون عارفا بأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ في النصوص الاحکامية، عالما باللغة والنحو، ولا يشترط أن يکون في اللغة کالاصعمي، وفي النحو

[صفحه 346]

کسيبويه والخليل، بل أن يکون قد حصل من ذلک علي ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات، بحيث يميز بين دلالات الالفاظ من المطابقة، والتضمين، والالتزام، والمفرد والمرکب، والکلي منها والجزئي، والحقيقة والمجاز، والتواطئ والاشتراک، والترادف والتباين، والنص والظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والاشارة، والتنبيه والايماء، ونحو ذلک مما فصلناه. ويتوقف عليه استثمار الحکم من دليله.

وذلک کله أيضا إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحکم والفتوي في جميع مسائل الفقه، وأما الاجتهاد في حکم بعض المسائل، فيکفي فيه أن يکون عارفا بما يتعلق بتلک المسألة، وما لا بد منه فيها، ولا يضره في ذلک جهله بما لا تعلق له بها، مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية، کما ان المجتهد المطلق قد يکون مجتهدا في المسائل المتکثرة، بالغا رتبة الاجتهاد فيها، وإن کان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها، فإنه ليس من شرط المفتي أن يکون عالما بجميع أحکام المسائل ومدارکها، فإن ذلک مما لا يدخل تحت وسع البشر، ولهذا نقل عن مالک انه سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها، لا أدري.

وأما ما فيه الاجتهاد: فما کان من الاحکام الشرعية دليله ظنيا. فقولنا«من الاحکام الشرعية» تمييز له عما کان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها. وقولنا " دليله ظنيا " تمييز له عما کان دليله منها قطعيا، کالعبادات الخمس ونحوها، فإنها ليست محلا للاجتهاد فيها، لان المخطئ فيها يعد آثما، والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطئ فيها باجتهاده آثما.اه.

وقال الشاطبي في الموافقات 89:4 ما ملخصه: الاجتهاد علي ضربين: الاول: الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الامة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحکم بمدرکه الشرعي لکن يبقي النظر في تعيين محله.

فلا بد من هذه الاجتهاد في کل زمان، إذ لا يمکن حصول التکليف إلا به، فلو فرض التکليف مع إمکان ارتفاع هذا الاجتهاد لکان تکليفا بالمحال، وهو غير ممکن شرعا، کما انه غير ممکن عقلا.

[صفحه 347]

وأما الضرب الثاني: وهو الاجتهاد الذي يمکن أن ينقطع فثلاثة أنواع: أحدها المسمي بتنقيح المناط، وذلک أن يکون الوصف المعتبر في الحکم مذکورا مع غيره في النص فينقح بالاجتهاد حتي يميز ما هو معتبر مما هو ملغي.

الثاني المسمي بتخريج المناط، وهو راجع إلي أن النص الدال علي الحکم لم يتعرض للمناط، فکأنه اخرج بالبحث، وهو الاجتهاد القياسي.

الثالث: وهو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذکر لانه ضربان: أحدهما ما يرجع إلي الانواع لا إلي الاشخاص، کتعين نوع المثل في جزاء الصيد، ونوع الرقبة في العتق في الکفارات وما أشبه ذلک. والضرب الثاني: ما يرجع إلي تحقيق مناط فيما تحقق مناط حکمه، فکأن المناط علي قسيمن: تحقيق عام، وهو ما ذکر. وتحقيق خاص من ذلک العام.

إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة علي کمالها. والثاني: التمکن من الاستنباط بناء علي فهمه فيها.

أما الاول فقد مر في کتاب المقاصد أن الشريعة مبنية علي اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع کذلک، لا من حيث إدراک المکلف إذ المصالح تختلف عند ذلک بالنسب والاضافات، واستقر بالاستقراء التام ان المصالح علي ثلاث مراتب، فإذا بلغ الانسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في کل مسألة من مسائل الشريعة، وفي کل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلي الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحکم بما أراه الله.

وأما الثاني: فهو کالخادم للاول، فان التمکن من ذلک إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا، ومن هنا کان خادما للاول، وفي استنباط الاحکام ثانيا، لکن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط. فلذلک جعل شرطا ثانيا، وإنما کان الاول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لانه المقصود والثاني وسيلة.

هذا هو الاجتهاد عند الاصوليين وأما الفقهاء فهو عندهم مرتبة راقية من الفقه يقتدر بها الفقيه علي رد الفرع إلي الاصل، واستنباطه منه، والتمکن من دفع ما يعترض المقام من نقد ورد، وإبرام ونقض، وشبه وأوهام.

[صفحه 348]

قال الآمدي في الاحکام 7:1 ألفقه في عرف المتشرعين مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الاحکام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال.

وقال ابن نجيم في البحر الرائق 3:1 الفقه اصطلاحا علي ما ذکره النسفي في شرح المنار تبعا للاصوليين: العلم بالاحکام الشرعية العملية المکتسبة من أدلتها التفصيلية بالاستدلال.

وفي الحاوي القدسي: اعلم أن معني الفقه في اللغة الوقوف والاطلاع، وفي الشريعة الوقوف الخاص وهو الوقوف علي معاني النصوص واشاراتها، ودلالاتها، ومضمراتها، و مقتضياتها، والفقيه اسم للواقف عليها.

وقال: الفقه قوة تصحيح المنقول، وترجيح المعقول، فالحاصل: ان الفقه في الاصول علم الاحکام من دلائلها، فليس الفقيه إلا المجتهد عندهم.

وأما إستمداده فمن الاصول الاربعة: الکتاب، والسنة، والاجماع، والقياس المستنبط من هذه الثلاثة، وأما شريعة من قبلنا فتابعة للکتاب، وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة، واما تعامل الناس فتابع للاجماع، وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس، وأما غايته فالفوز بسعادة الدارين.

وقال ابن عابدين في حاشية البحر 3:1 في تحرير الدلالات السمعية لعلي بن محمد بن أحمد بن مسعود نقلا عن التنقيح: الفقه لغة هو الفهم والعلم، وفي الاصطلاح هو العلم بالاحکام الشرعية العملية بالاستدلال.

وقال ابن قاسم الغزي في الشرح 18:1 الفقه هو لغة الفهم، واصطلاحا العلم بالاحکام الشرعية العملية المکتسب من أدلتها التفصيلية.

وقال ابن رشد في مقدمة المدونة الکبري ص 8: فصل الطريق إلي معرفة أحکام الشرائع، وأحکام شرائع الدين تدرک من أربعة أوجه: أحدها کتاب الله عزوجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حکيم حميد. والثاني: سنة نبيه عليه السلام الذي قرن الله طاعته بطاعته، وأمرنا باتباع سنته فقال عزوجل: وأطيعوا الله والرسول. وقال: من يطع الرسول فقد أطاع الله. وقال: وما آتاکم الرسول فخذوه وما نهاکم عنه فانتهوا. وقال: واذکرن ما يتلي في بيوتکن. من آيات الله والحکمة. والحکمة

[صفحه 349]

السنة. وقال: لقد کان لکم في رسول الله اسوة حسنة. والثالث: الاجماع الذي دل تعالي علي صحته بقوله: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين فوله ما تولي ونصله جهنم وساءت مصيرا. لانه عزوجل توعد باتباع غير سبيل المؤمنين، فکان ذلک أمرا واجبا باتباع سبيلهم، وقال رسول الله صلي الله عليه وآله: لا تجتمع امتي علي ضلالة. والرابع الاستنباط وهو القياس علي هذه الاصول والثلاثة التي هي الکتاب والسنة والاجماع، لان الله تعالي جعل المستنبط من ذلک علما، وأوجب الحکم به فرضا، فقال عزوجل: ولو ردوه إلي الرسول وإلي أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقال عزوجل: إنا أنزلنا إليک الکتاب بالحق لتحکم بين الناس بما أراک الله. أي بما أراک فيه من الاستنباط والقياس، لان الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو مما أنزل الله عليه وأمره بالحکم به حيث يقول: وأن احکم بينهم بما أنزل الله.


صفحه 345، 346، 347، 348، 349.